"نهاية التاريخ والإنسان الأخير"
هل للتاريخ السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي للبشرية نهاية واحدة؟ وإذا كانت تلك النهاية موجودة فهل هي محسومة لصالح النظام الرأسمالي؟
أثارت مقالة الكاتب الأميركي فرانسيس فوكوياما، والتي تحوّلت لاحقاً إلى كتاب، جدلاً طويلاً بين كتّاب التاريخ والسياسة والفلسفة. رفع هذا الجدل الأكاديمي الذي ارتبط بدوائر المحافظين الجدد والكاتب المتواضع إلى مرتبة الفلاسفة، وأصبحت كتبه من الكتب الأكثر مبيعاً في العالم.
وتركز الجدل حول نقطتين: هل للتاريخ السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي للبشرية نهاية واحدة؟ وإذا كانت تلك النهاية موجودة فهل هي محسومة لصالح النظام الرأسمالي أو "الديمقراطي" الليبرالي؟
رغم تراجع فوكاياما عن نظريته لاحقاً، وتخلّيه عن موقفه كأحد المحافظين الجدد، فإن تلك النظرية تحوّلت إلى عقيدة، إذ تحوّل معظم سياسي العالم إلى "فوكاياميين". هذه العقيدة التي تبنّتها المراكز الرأسمالية، تحوّلت إلى نضال يخوضه السياسيون خارج تلك المراكز في سبيل الالتحاق بالركب الرأسمالي المتقدم.
أخذ التقدم خارج المراكز الرأسمالية شكل التبعية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي السياسية. أصبحت حرية المرأة وحقوق الأقليات والتعددية الثقافية ونمط التفكير الاستهلاكي قضايا في مجتمعات تغيب فيها حقوق الإنسان الأساسية، مجتمعات راسخة منذ آلاف السنين اكتشفت أنها بحاجة إلى تشكيل نفسها اجتماعياً بما يشبه مجتمعات ناشئة منذ بضع مئات السنين قامت على مستوطنين جاءوا من مجتمعات مختلفة، ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، كما هي الحال في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا. استوردت المجتمعات القديمة الأفكار والتقنيات والسلع من الملابس وحتى أعقد أنظمة التسليح من المراكز المالية، لتصبح مجتمعات "متقدمة" بالمعايير الغربية. هذا التقدم الذي يقاس بالاتصال بنسب الاتصال بشبكة الإنترنت، وعدد أجهزة الكمبيوتر الشخصية، والربط الرقمي للمؤسسات، وتبني قوانين حماية الأقليات وتمكين المرأة وغيرها من الوصفات التي فرضتها الرأسمالية على الشعوب.
لم ينعكس هذا التقدم على البنية الاجتماعية لهذه الشعوب، التي تنكفئ على نفسها عند الأزمات وتعود إلى بناها الأساسية الطائفية والإثنية والجهوية لتخوض الحروب عبر قاعدتها، ولتعيد إحياءها بعد كل حرب، لتبدأ رحلتها مجدداً نحو التقدم بالمعايير الرأسمالية نفسها، فيبدو التاريخ وكأنه دائرة مغلقة تنطلق من نقطة لتعود إليها في تكرار لا نهائي.
منذ الانفصال عن الدولة العثمانية، مطلع القرن الماضي وشعوب أمتنا تطلق مشاريعها النهضوية الواحد تلو الآخر، لكنها جميعها حملت الشعارات نفسها تقريبا، وأهمها التقدم إلى مصاف الدول المتطورة، ومغادرة المواقع التي فرضها الاستعمار.
لم ينجح أي من هذه المشاريع في بلوغ أهدافه، فما زالت المسافة التي تفصلنا عن تلك الدول التي نجتهد للحاق بها شاسعة، بل وتزداد مع الزمن. في سياق هذا النضال النهضوي، ظهرت مشاريع وطنية تقدمية حقيقية حاولت فك التبعية بين أمتنا والمراكز الرأسمالية. أبرز هذه المشاريع كان الناصرية في مصر، ومشروع حزب البعث في سوريا والعراق، ومشروع هواري بومدين في الجزائر، جميع هذه المشاريع فشلت، وحمل قادتها لقب الديكتاتور، وقد شهدنا قبل أيام سقوط آخر هذه المشاريع في سوريا تحت ضربات القوى الرجعية المدعومة من المراكز الرأسمالية.
أثناء مراقبة التلفزيون كان مشهد سقوط دمشق، يشبه تماماً مشهد سقوط بغداد. في الخلفية كان المعلقون أنفسهم يقدمون التعليق نفسه، من أن النظام لم يجد من يدافع عنه، ووجدوا في ذلك دليلاً على أن النظام كان معزولاً وديكتاتورياً، وتكتمل الصورة بمشاهد المحتفلين في الشوارع وإسقاط التماثيل وإحراق المؤسسات التي ترمز إلى العهد البائد. هذا المشهد دفعني إلى التفكير والتساؤل: هل كنا على خطأ؟
مشكلة الأنظمة الوطنية أنها سعت نحو التقدم وليس التقدمية. فهي وإن كانت تقدمية سياسياً في مواقفها من التبعية والرأسمالية، فإنها لم تول الاهتمام المناسب للتقدمية الاجتماعية.
المقصود هنا البنى الاجتماعية الرجعية العمودية التي تقسم المجتمعات، دينياً أو طائفياً أو إثنياً، بل إن هذه الأنظمة ساهمت في ترسيخ البنى الاجتماعية الرجعية القائمة في محاولة لاكتساب الشرعية. لم تنشأ هذه الأنظمة من خلال حامل اجتماعي تطور وعيه ليصبح وجود هذه الأنظمة ضرورياً لاستكمال عملية التطور، فقد جاءت عبر انقلابات عسكرية لبست ثوب الثورات، ونجحت في تحقيق إنجازات مهمة لدولها على الصعيد الاقتصادي، والسياسي مع غياب شبه كامل للتطور على الصعيد الاجتماعي.
هذا النهج المضاد للتبعية، استدعى غضب المراكز الرأسمالية ومؤامراتها، فتكررت الأزمات التي تمر على شعوب هذه الدول، وصاحبتها الدعاية المكثفة التي ادعت أن سبب الأزمة هو طبيعة النظام المنغلقة، وعدم خضوعه لشروط السياسات الرأسمالية التي تجلب السمن والعسل. تجلت هذه الفكرة بأوضح صورها في الانقلاب على منجزات الناصرية والتي عرفت بعصر الانفتاح.
كانت العلاقة بين النظام وشعبه علاقة نفعية، فالنظام يقدم التسهيلات كالتعليم والصحة والمواصلات والسكن بأسعار رخيصة أو مجاناً، والجماهير تمنح النظام شرعية وإمكانية البقاء. لم يرمم النظام الهوة الاجتماعية بينه وبين الجماهير بحيث يصبح بقاؤه ضرورة ومطلباً جماهيرياً، وفي هذه الهوة سقطت المشاريع التقدمية عندما بلغت الأزمات ذروتها.
عمل المنتفعون في الداخل على توسيع الهوة من خلال الفساد والقمع، وعملت القوى الخارجية على مفاقمة الأزمات وتصوير الحلول القادمة من الخارج على أنها الحل الوحيد الذي يخرج الشعوب من هذه الأزمات ويضعها على درب التطور والرفاهية.
مات عبد الناصر وهواري بومدين ولم تناضل الجماهير في سبيل الحفاظ على منجزات مشاريعهما، انهار حكم حزب البعث في العراق فلجأت الجماهير إلى الهويات ما قبل الوطنية لتشكل دولتها الجديدة، وها نحن نقف اليوم أمام انهيار حكم حزب البعث في سوريا، نجلد كل ما أنجزه على مدى 56 عاماً، ويحتفل كثيرون منا برحيل رئيس الدولة على أنه تحقيق للحرية والديمقراطية. في جميع هذه الحالات، انتصر الحل القادم من الخارج، سواء جاء على شكل قوانين انفتاح اقتصادي دمرت المنجزات التي حققتها الأغلبية الكادحة، أو جاء على دبابة المستعمر حاملة الوعود بالحرية والديمقراطية.
ليس المقصود هنا الدفاع عن هذا الزعيم أو ذاك، رغم قناعتي الشخصية بأن هؤلاء القادة حملوا مشاريع وطنية تقدمية حقيقية، لكنه مجرد تأمل في اندفاع الشعوب للانقلاب على مصالحها ومنجزاتها وسعيها للالتحاق بركب المستعمرين تحت شعارات ليبرالية براقة أثبت التاريخ، أكثر من مرة، أنها وعود كاذبة لم تجد طريقها نحو التحقيق. هذا التأمل يدفعني إلى التساؤل: أين يقع الخطأ؟
بعيداً من الغضب والحزن وأنا أشهد سقوط دمشق بصفتها قلعة من قلاع المقاومة، وجدت إجابة أولية تقول بأن غياب الوعي هو مكمن الخطأ.
غياب الوعي ليس خللاً جينياً أو وراثياً، لكنه أمر مكتسب صنعه عدم الاهتمام بتفكيك البنى الاجتماعية السائدة لتدرك الشعوب مصالحها الأساسية والحقيقية، لقد حملت الأنظمة الوطنية جنين دمارها وسقوطها داخلها، لم تصنع جماهير ملتحمة معها، بل منتفعين من وجودها قفزوا من السفينة عندما اشتدت العاصفة، فسقطت مشاريع تلك الأنظمة من دون أن تجد من يدافع عنها.