الذاكرة النابضة للوطن في رواية "سماء القدس السابعة
رواية "في سماء القدس" ترصد حياة ثلاثة أجيال في القدس تروي على لسان الابن كافل الذي رافق أباه وسمع حكاياته عن تاريخ المنطقة منذ وعد بلفور وتسليم البلاد إلى العصابات الصهيونية وتداعيات النكسة.
انطلاقاً من أن التاريخ يكتبه المنتصرون، ودائماً تضيع الحقائق بتدوينها وفق تصورات الجهات المهيمنة، لكن ثمة تاريخاً يُكتب في ظلال ترسمها الحكاية التي تروى في الخفاء ويعرفها من عاصروا زمنها وأيامها، هذه الحكاية يلتقطها بدقة متناهية أسامة العيسة في روايته "سماء القدس السابعة"، من منشورات المتوسط، والتي دخلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2024، بتدوين ذاكرة المدينة بأحيائها وشوارعها، مساجدها وكنائسها، يتقصى الأمكنة والدروب والذكريات عبر رصده حياة ثلاثة أجيال عاصرت تاريخ المدينة، تاريخ القدس حيث يروي الأحداث على لسان الابن كافل "ذي الكفل" الذي يرافق أباه في رحلة يومية على متن سيارة نقل إلى معالم المدينة، ويسمع حكاياته عن تفاصيل تاريخ المنطقة منذ وعد بلفور الذي أعطته بريطانيا للصهاينة في نهايات الاحتلال البريطاني، وكيف تم تسليم البلاد إلى العصابات الصهيونية، وبعدها هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967 وتداعيات النكسة على وجدان المواطن العربي.
في كل رحلة، يسرد الأب يوسف على أسماع الابن كافل حكاياته عن الأمكنة والمناطق وما حدث فيها من صراع وكفاح؛ تلك الرسالة التي حفظها الولد وكرسها مع ابنه الذي ولد بعيداً عن الديار، حتى لا تنسى الأجيال أنها صاحبة حق وأن الحق سيعود إلى أصحابه مهما طال الزمن، الأب الذي جسد الروح الكفاحية للعمل الفدائي الذي جاء رداً على إجرام العصابات الصهيونية في القتل والاقتلاع من المكان وعمليات التهجير المتكررة.
نضال الأب، الذي كثف فيه تجربة العمل الفدائي في بداياته، كانت نتيجته أن يقبع في سجون الصهاينة، وما لبث أن استشهد فيها بعد أعوام الاعتقال، وما لبثت الأم كذلك أن استشهدت على يدي العدو ذاته، كحال الكثيرين من السكان الذين ماتوا تحت الأنقاض لأنهم رفضوا أن يغادروا بيوتهم وأن يُقتلعوا من أراضيهم.
رمزية الطربلة، أو "الرجل المطربل"، التي تحصل لإحدى الشخصيات، وهو السبع أحد القادة الشعبيين الذي عانى العنة، وفشل في زواجه مرتين، نتيجة العجز، وحاول الانتحار ثلاث مرات، إشارة عميقة إلى حالة الانكسار وتجلي الهزيمة في النفوس، بالإضافة إلى عجز الأسلوب الكفاحي القديم عن تحقيق نتيجة إيجابية في المواجهة مع العدو، نتيجة فشل الطرائق المتبعة، فعدونا ليس غداراً فحسب، وإنما هو أيضاً مدعوم بكل تقنيات الغرب الاستعماري وأساليبه وقرارته، ومغطى إعلامياً، عبر ترويج أسطورة كاذبة عن أحقية إلهية لليهود في أرض فلسطين، الأمر الذي يتطلب مواجهة عبر أساليب مغايرة، ودراية في فن استقطاب الرأي العالمي، وحشد الحلفاء حول القضية. فالتقليل من قوة العدو والشعارات الصارخة جاءت نتائجها كارثية على سائر الشعب، فالبسطاء يدفعون الثمن دائماً. لذا، انطلق الكاتب من هنا لتفكيك واقع هذه البيئة وتشريح العادات والتقاليد البالية والتعلق بالخرافات عند قطاعات واسعة من الشعب، والقناعات المترسخة في الوعي البسيط الذي يحمل في إهابه مرويات مختلطة من ذاكرة تجمع بين الأولياء وقادة الجيوش والصحابة والأمراء والزعماء، وتقدسهم نسبة لحدث قديم مثبت في المخيال الشعبي، ويقتنع بالخرافات والغيبيات. فمثلاً عندما يحاور البعض يقول أحد الأفراد: "إذا كان الجان حقيقة فلم لا نستعين بهم لأجل هزيمة اليهود"، بسبب ما في ذلك من تضمين وتوجيه لاعتماد العلم والعقل في حل مشاكلنا المعلقة.
كما يفضح زيف الواجهة التي تقدم "إسرائيل" نفسها إلى المجتمع الدولي من خلال الصوت الآخر للمحتل ذي الوجه الإنساني الذي يصدر للعالم في تصويره قيام وفد من الفهود السود بعزاء الطفل موسى، الذي قتله جندي صهيوني، وتصريح زعيمهم بأن قتل طفل أياً يكن هو وصمة عار على جبين القتلة. طبعاً كلام حق يراد به باطل، كأن الجريمة تخص فرداً لا كياناً بأسره.
كما يتحرى واقع النساء، في ظل مجتمع تحكمه العادات القديمة البالية، عبر تركيزه على شخصية الفدائية "مريم التشادية"، التي رغم قدسية نضالها لكنها بالمعنى التقليدي يُغمز من طرفها كونها تجالس الرجال وتدخن. وهناك شخصية الأم زوجة المناضل أو الشهيد، ماذا عنها كامرأة وإنسانة، والتي تفاجئ الجميع بطلبها الطلاق من زوجها المعتقل، ومعاناتها من الضغط الاجتماعي الذي لم يفكر فيها، كونها امرأة وإنسانة لها احتياجاتها وكينونتها. ماذا عن حياتها وحياة طفلها. لماذا على الفدائي أن يضحي بوطنه الصغير من أجل الوطن الكبير؟ تساؤلات محيرة تبوح بها أم السبع، وهي تقول لأم كافل: "فعلتِ ما لم نستطع فعله نحن نساء هذه القرية الظالمة لنسائها. لماذا علينا دائماً أن ندفع ثمن ما يرتكبه رجالنا، بغضّ النظر عن دوافعهم؟". هنا يطرح العيسة إشكالية هموم الفدائي بين العائلة والوطن وسؤال الحيرة: من يختار؟ متابعاً تشريحه للواقع لتشمل الذات والمقاومة، وتمتد لتشمل السلطة الفلسطينية، فهو يلوّح بانتقادها بسبب قيامها باعتقال من يخالفها في الرأي وكم الأفواه والتعمية عن قوى الفساد المتزايدة.
يعرض صاحب "مجانين بيت لحم" نماذج عن أقوام حلت بالمكان، من العرب العاربة، إلى الرومان والأرمن واليهود والأقباط والأفارقة والمغاربة وسواهم، حتى إن هناك حياً اسمه حي المغاربة، بعقلانية الإقرار بالحقيقة القائمة لا بعنصرية الرفض للآخر، وإنما رفض الجريمة وامتهان الإنسان وانتزاع الحقوق. نعم، أحاسيس متضاربة تنتاب من يطلع على ذلك التمازج الفسيفسائي للتجمعات السكانية التي حلت بالمكان واستقرت. والحق أن كل الأقوام التي قدمت المكان أخذت من بعضها وتفاعلت وانصهرت في بوتقة واحدة، لكن الأهم من ذلك الحقوق الإنسانية والطبيعية للبشر الموجودين في هذا الزمن، وهم يتعرضون لمختلف أساليب التضييق على حياتهم وأسلوب عيشهم، بالإضافة إلى التهجير الممنهج وصولاً إلى اقتلاعهم من أرضهم.
فالقدس مثل كل العواصم فتحت ذراعيها لعدد من الجنسيات، التي استقرت وتمازجت بالمكان، فلقد حفلت بتجاور ثلاثة أديان معاً، ولطالما عاش أتباعها كجيران وأخوة وعلاقات إنسانية متبادلة، لكنها السياسة استغلت ظروفهم لخلق الفرقة فيما بينهم، ومنعت مصالحهم من أن تلتقي.
لعل استغراقه في المرويات المتناقلة على حساب القصة أو الحكاية السردية، الأمر الذي يُشعر القارئ بالملل إلى حد ما، لكننا كذلك نستطيع القول إنها تقارب ما يمكن أن نسميه رواية وثائقية يشهد على ذلك العرض الكثيف للآثار المعمارية التي تشير إلى تاريخ صانعيها وانتمائه المغاير لوجود اليهود أو الصهاينة، فاللقى الأثرية تفضح ادعاءات اليهود، بحيث تم العثور على عدد منها، ومنها تمثال لامرأة هلنستية أو رومانية، الأمر الذي يؤكد عدم حضورهم في تاريخ المنطقة. فجغرافيا القدس تشبه سائر المدن العربية، إذ يجتهد العيسة في عرض ملامحها من السينما للمتحف لمقبرة القرائين، ووصف أسوارها؛ تلك الأسوار التي ميزت أغلبية مدن بلاد الشام. ويذكر كيف عملت "إسرائيل" على تزييف معالم المدينة، بحيث حول الصهاينة مقام السعدي إلى قبر شمعون الصديق، على سبيل المثال، وسواه الكثير، فهم يحفرون بيد والتوراة بيد ليزيفوا اللقى والأثريات، وفق ما يرون أنه ينطبق مع ادعاءاتهم.
هي الحكاية، الخيط السري للأجيال كي تعي الحقيقة، تلك خلاصة الرواية التي تستحضر الأمكنة والأزقة والحارات والذكريات كعمل موسوعي للمكان وتكريس وجهه الأصيل الذي كان.
رواية "سماء القدس السابعة" رواية ضد النسيان، هي احتفاء بالمكان وتفاصيله ضد محاولات تغييبه وطمس معالمه بذاكرة تسجيلية بعيون طفل يرى ويتذكر. هي الحكاية التي تبقى إكسير الذاكرة النابض، والذي يمدها بالحياة كي تظل القضية حاضرة مهما طال الزمن.