الجندر ومراميه الخفيّة
يفضح الكاتب "أيديولوجيا الجندر" التي تؤكد أن الهوية الجنسية هي بناء اجتماعي مستقل عن أي واقع بيولوجي، ما يؤدي إلى رفض الأدوار الثابتة للذكر والأنثى.
أتى في تعريف الأمم المتحدة لـ "الجندر" أو النوع الاجتماعي (Gender)، والقصد منه هو أن الأدوار الاجتماعية يصنعها المجتمع بناء على دور بيولوجي، لكنها تختلف من مجتمع إلى آخر. ويتوقّع هذا المجتمع من الذكر أو الأنثى التصرّف في شكل محدّد، وأن تكون لهما أدوار محدّدة بناء على قيم المجتمع وعاداته. المساواة بين الجندرين هي الإيمان بضرورة معاملة الجميع على قدم المساواة وعدم التمييز بينهم على أساس جنسهم. كما عدّت المساواة الجندرية أحد أهداف إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان، وتضع أهداف التنمية المستدامة المساواة الجندرية في صميم جدول أعمال التنمية العالمية، وهو شرط مسبق للتنمية المستدامة وترسيخ حقوق الإنسان للجميع.
المرأة ليست "ضحية"
يُناقش د. طلال عتريسي، كعالم اجتماع مُتمرّس، مقولة "الجندر" لا بوصفه مصطلحاً علمياً تستخدمه الأدبيات الأممية، بل بوصفه مشروعاً يحمل أبعاداً ثقافية واجتماعية، يأخذ أحياناً صفة الإلزام، ويُطالب التشريعات بالتكيّف معه واعتماده. ما أدى إلى فرضه على برامج أعمال الهيئات والمنظمات بسبب تبنّي الأمم المتحدة له، كما منظمات المجتمع المدني المحلية المسترشدة بقرارات المنظمة الأممية.
وينقل ما جاء في دليل مفوضية الأمم المتحدة الساميّة لحقوق الإنسان، الآتي: "يُمثّل مجتمع مدني قوي ومستقل وقادر على العمل بحرية، متمتع بالمعارف والمهارات في موضوع حقوق الإنسان، عنصراً رئيساً في تحقيق الحماية المستدامة لها على الصعيد الوطني. ولهذا، كان عناصر المجتمع المدني شركاء جوهريّين في نظام الأمم المتحدة لحقوق الإنسان".
وعلى هذا النحو، بات لهذه المنظّمات قوة ضغط قوية تمارسها على المجتمعات من خلال العمل على تشكيل رأي عام مساند للرؤى الأممية. وما يستفزّ الباحث هو صفة "الإرغام" التي تحمل في طيّاتها "مشروع تغيير اجتماعي وثقافي وسلوكي" إزاء المنظومة الأسرية بكاملها، ما قد يتعارض مع قيم وتقاليد مجتمعات محلية وتشريعات دينية. ويُحدّد د. عتريسي الحقوق التي يدافع عنها الجندر في مقولات، أهمها: "المرأة ضحية"، "التمكين"، "المساواة"، "المثلية"، و"تعدد أشكال الأسرة". ويرى ضرورة تفنيدها من وجهين: الأول، صوابيّة التغيير المقترح، وهل سينقل المجتمعات إلى "وضع أسريّ أفضل"؟، والثاني، مدى توافق هذه المفاهيم وتبعاتها مع "خصوصيّة" المجتمعات المحلية.
بالنسبة لمقولة "المرأة ضحية"، يرى د. عتريسي أنها ليست كذلك في كل الأحوال وفي المجتمعات كافة، فالظروف القاسية نفسها (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) قد تجعل أيضاً من الرجل "ضحية"، والنتيجة ألا معنى للتعميم، فللنساء ميول واتجاهات وآراء سياسية تجعل من مسألة تضامنهن مع بعضهن كـ "نساء" مسألة شديدة التعقيد، وفي زعمه: "أن طموحات النساء وأدوارهن وأولوياتهن في بلدانهن، ستختلف بحسب الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يعشن فيها التطلعات المختلفة لكل واحدة منهن".
إذاً، فقضية النساء ليست واحدة، وهي ليست ضحية في كل زمان ومكان. وهو لا يوافق المفكّر الفلسطيني الراحل هشام شرابي في دعواه حول "المجتمع الأبوي" و"الهيمنة الذكورية". ويستعين بكتاب المؤرخة الأميركية غيردا ليرنر (Gerde Lerner) "نشأة النظام الأبوي" (1985) التي تربط نشأة النظام الأبوي بالثقافة الغربية، وتعتبر أن النظام الأبوي يعتمد بشكل رئيس على فكرة الاختلاف هذه التي تقول إن الرجال والنساء خلقوا على نحو مختلف ولهدفين مختلفين. وترى أنّ المصدر الذي جعل النساء في وضع أدنى، هي المنظومة التربوية الغربية المستمدة من الدين المسيحي. والخلاصة أن النظام الأبوي بالنسبة إلى ليرنر أتى نتاج ألفي سنة من التاريخ المسيحي، وهو وليد المنظومة التربوية الغربية المستمدة من هذا الدين.
أيديولوجيا الجندر
يفضح الكاتب "أيديولوجيا الجندر" التي تؤكد أن الهوية الجنسية هي بناء اجتماعي مستقل عن أي واقع بيولوجي، ما يؤدي إلى رفض الأدوار الثابتة للذكر والأنثى، ويعتبر أنّ مؤتمر بيكين المنعقد في العام 1995 هو المروّج الأول لمفاهيم "الجندر" ورفض الأدوار التقليدية، الأمر الذي أدى إلى فوضى في المفاهيم، واتسع ليشمل مختلف البرامج المرتبطة بالنساء، مثل المثليات والمتحوّلات جنسياً، وبات الحديث عادياً عن "الهوية الجندرية"، التي تعني "إحساس الفرد بنفسه وإحساسه بأنه ذكر أو أنثى".
وتختلف هوية الشخص الاجتماعية عن توجّهه الجنسي الذي يتمتع بحماية القانون. وقد تختلف هوية الأشخاص الاجتماعية عن جنسهم عند الولادة وقد تتضمن: المتحوّلين جنسياً (Transgender) "الأشخاص الذين تتضمن تجارب حياتهم اتخاذ أكثر من جنس". ما يعني عدم ثبات هذه الهوية الجندرية وانفتاح العلاقات في أكثر من اتجاه. وهذا، في عرف د.عتريسي، سوّغ للمثليّة "بعد نزع الثبات والمشروعية عن العلاقة ذات الاتجاه الواحد". والأخطر كان إدماج "الجندر" في المواثيق الدولية، ولا سيّما "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" (سيداو) (1981)، واختلط حديث المساواة مع الحديث عن الهوية الجندرية والدعوة إلى المثلية. لذلك، ثمة غموض يكتنف مفهوم "الجندر" يؤهله لخدمة كل أنواع المطالبات.
استهداف "الأبوية"
يرى د. عتريسي استناداً إلى موقفه الفكري الملتزم أن استهداف ما يسمى "النظام الأبوي" (أو الذكوري) غايته خلخلة "الأبوية" (أو "الوالدية" بعبارة ناصيف نصّار). ومن مراجعته للتاريخ الأوروبي، ولا سيّما الفرنسي، يتبيّن له تراجع الدور المنوط بالأب، المعتبر رمزاً للسلطة. ومع طغيان موجات النسوية، بادرت النسوية الغربية في تطرّف إلى محاولة إنتاج منظومة معرفية خاصة بها. وفي السيّاق يشير الكاتب إلى وثيقة وضعتها الأمم المتحدة كدليل تدريبيّ تحت عنوان "مبادئ توجيهية في سبيل صياغة شاملة جنسانياً" باللغة العربية، تطلب من موظفيها عدم استخدام المصطلحات التي تحدّد الذكورة والأنوثة، من ذلك على سبيل المثل: استخدام قيادات بدل قادة، دار رعاية الشيخوخة بدل دار المسنين، أوساط أكاديمية بدل أكاديميون، اللجنة الفاحصة بدل لجنة الفاحصين، عمالة مهاجرة بدل عمّال مهاجرون، جهة تنسيق بدل منسّق...إلخ.
وواضح من هذا المطلب اللغوي أنه يرمي إلى النيل من "الذكورة" حتى في اللغة، ما يتنافى مع ما يقتضيه المجتمع من تعاون بين الرجال والنساء، فلا تستقيم المساواة بضرب أحد طرفيها. ويُفنّد الكاتب الصلة المعقودة في بعض الدراسات الأكاديمية، وخصوصاً في مؤلف شرابي "المجتمع الأبوي" (أو البطريركي)، بين "الذكورية" و"التخلّف"، من خلال استحضاره نموذج الحضارة اليونانية، فالمجتمع الأثيني كان ذكورياً بامتياز. ويأخذ د. عتريسي على بعض منظمات المجتمع المدني المحلية المبالغة في استخدام مقولات الذكورية من دون تدقيق، فذلك يودي، في زعمه، إلى تهديد استقرار الأسرة والتناغم المفترض بين الجنسين.
تفنيد التعميم
يتساءل صاحب "التربية وعلم النفس" (1994) عن مسؤولية "النظام الأبوي" فعلياً عما يُنسب إليه من إشاعة التخلّف والتسلّط والقمع، وما يرومه الباحث هو تفنيد التعميم. فالحديث عن "المرأة" بالمطلق غير جائز، فظروف المجتمعات مختلفة وكذلك ظروف الأفراد نساء ورجالاً. لذا، يلجأ إلى النموذج اللبناني، المفترض أنه "ذكوري"، ليدرس مؤشّر التعليم عند الفتيات، ويستنتج أنه مرتفع، وبالتالي لا "أساس واقعياً لما تروّج له الأدبيات الجندرية والنسوية من تهم للأبوية والذكورية بالتضييق والتسلّط والعداء والمنع على النساء والفتيات"، والمثال نفسه يبيّن لنا حضور النساء الواسع في المجال الوظيفي والإداري، ما يسمح له بالقول إن قضية المرأة ليست واحدة، وإنه لا يصح اتهام "النظام الأبوي" بالظلم والاستبداد.
في المقام الأخير، يغمز د. عتريسي من قناة "الكوتا النسائية"، التي إن حصلت ستكون هبة من المجتمع الذكوري، من دون أي جهد من طرف النساء الطامحات للعمل العام، اللاتي عليهن أن يثبتن أنفسهن ببرامج سياسية ورؤى اجتماعية تعكس قدراتهن. وثمرة الكتاب أو زبدته: "إن الجندر مخادع، لا يلتزم بأي ثوابت بيولوجية ولا بأي مرجعية اجتماعية".