التجميل وعنف الصورة
الجمال المرتبط بالميتافيزيقا، يعبث به "الميتافيرس" ويعيث به خراباً وإفساداً، وهو لا يعود آيةً من جمال الخالق، وإنما أضحى نموذجاً من قبح ثقافة الاستهلاك والتشييء وعنف الصورة.
منذ بدايات انطلاق ثورة الاتصال الرقمي وازدهار منصات التواصل الاجتماعي، بدأت صور المرأة تتوارد بغزارة في الإعلانات وحتى الصفحات الخاصة كجزء مهم من عملية التسويق، التي ارتبط بها شكل ظهور المرأة حتى في صفحاتها الخاصة. فنادراً ما نجد في فضاء "إنستغرام" تحديداً صوراً لامرأة "على طبيعتها"، أو من دون مساحيق مبالغ بها ومؤخّراً (منذ سنوات)، من دون عمليات تجميل.
وقد سجّلت ثورة "الريلز" والمقاطع القصيرة ظهوراً قياسياً أشبه بانفجار أعظم "big bang" شهدته مجرات الميتافيرس "metaverse"، ولم يعد المشاهد "الإنسان" قادراً على استيعاب سرعة ما يحصل في هذا الفضاء.
وبالرغم من تعدّد الظواهر المتصلة بهذا العالم وتعددية قضاياه التي برزت في سائر منصاته، غير أن اللافت والأكثر خطورةً، هو الظهور المتصل بوجود المرأة وكينونتها. فدوامة الاصطناع التي قاموا بعلمنتها وإخراجها تحت مسمّى يبدو للوهلة الأولى علمياً "ميتافيرس" (أو ما وراء الكون)، جرّت الكيان الأنثوي داخلها بشكل غير منطقي، لا من ناحية تسارع تطوّر المعايير التي تحقنها عناوين من قبيل الموضة والجمال في وعي المرأة، ولا من ناحية النمذجة التسليعية التي تمارس بالتزامن مع الضخ المتواصل لقيم الرأسمال، ضغوطاً سيكولوجيةً على هذا الكائن، الذي أمسى وجوده يشهد انشداداً مزلزلاً تجاه هذه الدوامة، بكل ما قد يحويه هذا الوجود من قيم أخلاقية ترتبط بالذات والمعنى.
لقد راكمت هذه الثورة الرقمية، بالترافق مع كل ما قدّمته من تحسينات وتقدّم على المستوى الوظيفي والتواصلي والعلمي، كمّاً هائلاً من المعايير الحديثة التي تكشّفت كنتاج متوقّع لحضارات قامت على ثقافة رأس المال والتحررية معاً. وهذان توأمان كانا كفيلين بإحداث تورّم ثم انبجاس للمعاني الجديدة المنسجمة مع متطلباتهما.
وإذ كانت المرأة، مذ كانت، الكائن المحب للجمال والباحث عن إكسير يخلّد مفاتنه ومكامن جماله وعذوبته، فقد تلقّت مخرجات هذا الانبجاس بتماهٍ شديد، وبشكل كامل، من دون أدنى مقاومة أو تفكيك أو انتقاء، مبدية استعداداً – وفي كثير من الأحيان تعطّشاً - لتغيير هويتها وملامحها، حتى تكون مطابقةً للمعايير "العالمية".
في الرشاقة وفي الملامح والخطوط ومواضع النفخ والشد والحقن، أمست النساء وجهاً واحداً، أو سعين ليصبحن وجهاً واحداً، يسوّق لجماله الخاص عبر هذه المنصات التي باركت هذه "النهضة" في وعي المرأة!
لقد سعت المرأة على امتداد التاريخ، إلى الحفاظ على ملامحها الجميلة، من خلال خلطات سحرية كانت تعدّها من الطبيعة. وكانت حريصةً منذ آلاف السنين، على إبراز جمالها من خلال التبرّج واستخدام المواد التي تطوّرت مع الوقت وصولاً إلى المساحيق المتوافرة في الأسواق اليوم.
وقد كانت أولى دوافع التبرّج الاهتمام بصحة البشرة، وعند قدامى الفراعنة، ارتبط مفهوم التجمّل والتعطّر والتزيّن بالحلي بالأناقة، وكانت النساء تتزين بالكحل والحناء والخضاب والوشم وغير ذلك. وعند الفرس الحخامنشيين، كان التبرّج محصوراً بالمرأة المتزوجة، ولم يكن جائزاً لغير المتزوجات وضع المساحيق، وكان القانون يعاقب على ذلك. ومع ظهور الإسلام، هذّبت رغبة المرأة في إبراز جمالها، ووضعت القوانين العامة التي تنظّم هذا الأمر في المجتمع.
ما حصل بعد ذلك، وصولاً إلى اليوم، ومع تأثيرات استيراد الحداثة الغربية، والإسقاط النمطي للصور المعيارية، أمسى التبرّج مرتبطاً بإخفاء العيوب أكثر منه اهتماماً بصحة البشرة ونضارتها، مما حتم على أصحاب شركات مواد التبرّج استخدام المواد الكيميائية الأكثر والأسرع تأثيراً من أجل تحصيل المزيد من الزبائن.
يمكن القول، إن الصورة النموذجية المنبجسة (المصطنعة)، عبثت بوعي المرأة لذاتها فأصبحت متلقّيةً مستعدةً لتغيير هويتها، فاستغلت الشركات هذا الاستعداد وزوّدته بالمواد القاسية المؤثّرة بشكل كبير، مما أرضى المرأة لناحية سرعة النتائج الظاهرة وإطراء المحيطين بها، فأقبلت على المزيد. الأمر يختزل بتصوّر علاقة تبادلية نفعية. غير أن الشركة المنتفعة في الواقع لا تنفع المرأة بقدر ما تضرّها. وهذا ما يؤكّده أطباء الجلد اليوم ممن لم ينساقوا خلف هذا المذهب النفعي في التعامل مع مرضاهم، حيث ينصحون بعلاج البشرة وتعزيز خلاياها الطبيعية من أجل إطالة عمرها وتأخير الشيخوخة، وليس باستخدام المواد التي تضفي عليها بريقاً زائفاً قصير العمر.
مع ذلك، فالأمر لم يتوقّف هنا! فــ "الريلز" اليوم، وكل المنصات تحتلها وجوه نعرفها جيداً، أو كنا نعرفها، وواكبنا تغيّراتها- المريعة غالباً - على مدى عقود من الزمن، ما قبل وما بعد عمليات "التجميل" التي عاثت تخريباً بعقل المرأة اليوم، قبل مظهرها.
صاحبة أحد مراكز التجميل في دولة خليجية، تتباهى على صفحاتها بنجاح آخر عملية شدّ للوجه والعنق والجبهة خضعت لها، وهي تعترف لجمهورها بأنها تخضع كل عام تقريباً لعملية من هذا النوع، مع عشرات عملية الحقن والنفخ عند أرقى أطباء التجميل، وتقول إن الطبيب مبدع حقاً لأنه أخفى شقوق الجراحة داخل تجويف أذنيها، وداخل فروة رأسها، وتتباهى بأنفها الذي ارتفع طرفه أكثر من قبل. ومع كل عملية شدّ تخضع لها هذه المرأة، تضطر إلى المزيد من النفخ في الشفتين وهكذا على هذا المنوال.. وتكرّر في المقابلات والحوارات بأن العمليات اليوم هي ضرورة تجنّب المرأة الوقوع في الاكتئاب المصاحب للتقدّم في السن، وهي أصبحت سهلةً في متناول الجميع، فلِمَ نحتفظ بخطوط وجهنا طالما أصبحنا قادرين على الإمساك بزمام السنوات؟
على المقلب الآخر، إعلامية ترفع دعوى بحق أحد أطباء التجميل، بعدما أفسد لها وجهها. وهو يقول إنها كانت قد خضعت مراراً لشدّ بشرة وجهها وعنقها، وأرادت في المرة الأخيرة أن يعيدها 30 سنةً إلى الوراء، فلم يكن أمامه إلا تنفيذ رغبتها. وهي اليوم عاجزة عن النوم وهي مغمضة العينين. فهي تغفو وتبقى عيناها مفتوحتين، لكثرة ما شدّت بشرتها. احتلت المناوشات بينهما كل صفحات الفضاء الافتراضي، والجمهور العربي انقسم بينهما ونسي كل ما يحصل في هذا العالم!
في الشارع، عشرات النساء اللواتي قلبن رموشهن وقصصن أنوفهن ونفخن الصدور ووضعن "إكستنشن" للشعور، في محاولة لمواكبة الهراء الذي يحصل في السوشيل ميديا. ولن يستطيعوا المواكبة، فالسرعة جنونية، والمجانين لا أحد يردعهم من الانخراط في هذه الحفلة التنكرية بامتياز؛ تنكرية بشكل سريالي، يؤدي فيها المشرط الجراحي دور البطولة، فيخلق صورةً تضج بالعنف والتمزيق والدم!
وأمام التي تتباهى بنجاح عملياتها، والتي توشك على الانتحار بعد تشويهها بالكامل، تجلس المرأة "الفاضلة" و"الجميلة" التي لا تزال موجودةً في هذا العالم، تقلب هذه الصفحات، وتظهر لها كل هذه النماذج، فيعتريها هلع مبكر من التقدّم في السن ومن التجاعيد التي قد تظهر في وجهها. فماذا ستفعل؟ وهل ستعجب زوجها بعد ذلك، مع وجود كل هذه "الباربيات" في الشاشات وفي الشارع؟ وما لم تمتلك هذه المرأة الرادع القيمي الأخلاقي، وما لم تتحصّن بالثقة العالية بنفسها وبما حقّقته في حياتها، قد تنخرط من حيث لا تشعر في هذه الدوامة، ابتداءً بـ "حقنة فيلر"، وقد لا تفعل، لكنها تبقى ضحية القلق طوال ما تبقّى لها من عمر.
المراد قوله، إن عصر الاصطناع الذي بدأ مع تشكّل عالم "الميتافيرس"، ترك ما ترك من الأثر الأكبر في وعي المرأة - وليس في شكلها - ذلك أن مظهر المرأة هو انعكاس لوعيها بذاتها وبكيانها؛ وفي ذلك فينومنولوجيا من نوع خاص، فالصورة لم تعد انعكاساً طبيعياً، بل هي عبارة عن فينومنولوجيا الباطن أو فينومنولوجيا النفس.
أما السلوك في حد ذاته (قرار الخضوع للعمليات)، فيلزمه تحليل نفسي من أجل تفكيك علله ومدلولاته. والتمظهر الفينومنولوجي يبقى أبعد ما يكون عن الجمال بمعناه الواقعي، فالرؤية الجمالية متماسكة ترتبط فيها النتائج بالأسباب ارتباطاً وثيقاً ودقيقاً، ولا تتشكّل أمام تمظهرات مصطنعة ترتبط بسيكولوجيا آنية محددة ارتباطاً يعتريه الاهتزاز واللااستقرار.
من هنا، يتبدّى للباحث عن الجمال، ولو عن غير وعي، بأن الرؤية الجمالية تقوم على الرؤية الميتافيزيقية بتعبير هيغل والفلسفة الغربية، أو على الرؤية الإلهية عند فلاسفة الشرق (وأهل العرفان بشكل خاص)، فرؤية الجمال تعكس جمالاً داخل المخلوق الذي يمثّل جزءاً من الجمال الإلهي، على ما يراه مولانا جلال الدين الرومي. وإن مفهوم الجمال الصافي يمثّل الظاهر العيني للفكرة، كما عبّر هيغل في فلسفته عن الجمال، فهو يمثّل بالتالي وجوداً حقيقياً هو النفس. فماذا يمثّل الجمال المصطنع؟ أي حقيقة وأي فكرة؟ بل هل يعد جمالاً أم محض رغبة معلنة في الإثارة؟
في إحدى مقابلاتها، سئلت منى واصف التي تعد أسطورة الفن في سوريا، عن سبب عدم إجرائها أي عملية جراحية في حياتها، فقالت بأنها تحترم متابعيها وجمهورها، الذي شاخ وهو يتابعها وبرزت في وجهه علامات التقدّم في السن، ولا يعقل أن يكبر هذا الجمهور وتبقى هي شابة!
هذا التعبير، على قدر ما هو بديع في الإحساس، يحمل دلالات عميقةً، مثل الشعور بالقيمة لدى الفرد، التقدير الذاتي، اكتساب الحكمة مع العمر، احترام الجسد، واحترام رؤية الآخر وعينيه.
يبدو في النهاية، بأن الجمال المرتبط بالميتافيزيقا، يعبث به "الميتافيرس" ويعيث به خراباً وإفساداً، وهو لا يعود آيةً من جمال الخالق، وإنما أضحى نموذجاً من قبح ثقافة الاستهلاك والتشييء وعنف الصورة. فهل ندرك جيداً، نحن الذين حكم علينا الانشغال بالحروب، فيما الغرب يحيك لنا العلم والتقدّم ويدسّ فيه السمّ اللذيذ، هل ندرك ماذا نأخذ من "الميتافيرس" وخالقيه وماذا نرفض؟ أم أننا قطيع ينتظر رعاةً غرباء يحدّدون له مسار حياته ومصيرها!