البارون بيلينغ في الشام: صفحة منسية من تراثنا الموسيقي
عشرات الفنانين السوريين واللبنانيين تتلمذوا في مدرسته. من هو البارون بيلينغ؟ وكيف حلّ في دمشق؟ وما الذي دفعه إلى الانتقال منها إلى بيروت؟
في زمن الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان، شغل الساحة الفنية في التأليف الموسيقي والعزف عشرات الفنانين الذين تتلمذوا في "مدرسة البارون بيلينغ"، ليمثّلوا الموسيقى الغربية التي نافست الشرقية التقليدية. وأذيعت مقطوعات الخريجين الموسيقية، من مؤلفين وعازفين، عبر أثير الإذاعات المحلية في دمشق وبيروت وحلب، أو عزفت في حفلات فنادق الشام، واستمرت هذه المدرسة ربع قرن في رفد الوسط الفني بالموسيقيين المبدعين، ومنهم: عدنان الركابي ونجلاء عبسي ومحمد كامل القدسي وحسني الحريري والأديبة سلمى الحفّار وهشام الشمعة وصادق فرعون وشمس الدين الجندي، وشكري شوقي، ووليد الحجار...، إلى جانب المؤلفين الموسيقيين الذين ألمّوا بالمدرستين الغربية والشرقية معاً، ومنهم عازف القانون عبّود (عبد الرحمن) عبد العال، وحسن دركزنللي وتيسير عقيل، وهشام الشمعة وآخرون. فمن هو هذا البارون؟ وكيف حلّ في دمشق؟ وما الذي دفعه لتركها بعد 25 عاماً للانتقال إلى بيروت؟
نحن مدينون في الكشف عن هذه الشخصية الكبيرة للباحثة الروسية اللبنانية، تاتيانا كوفاشيفا بحر، عبر معرضها الوثائقي "الموسيقيون الروس في لبنان: تنويعات في الثيمة العربية"، في "بيت المغترب الروسي" في موسكو. وقد أضاءت على الحقبتين الروسية واللبنانية من حياة بيلينغ.
أما في المرحلة الدمشقية من حياته، فنلحظ فيها جهد الباحث صميم الشريف في كتابه "الموسيقى في سوريا – أعلام وتاريخ"، حيث سرد ما جاء على ألسنة تلامذته. وقد توّج هذا المنحى الأستاذ الموسيقي جرجس مسلّم العبد الله، الذي تخصص في "أكاديمية غنيسين" للموسيقى، ونشر أخيراً بحثاً محكماً في دورية "بشير كونسرفاتوار ستافروبول"، بعنوان "سوريا في حياة إراست بيلينغ: الإبداع والتراث".
ربع قرن في دمشق
في إثر انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، لملم الشتات الروسي نفسه وعاد الأحفاد إلى أرض الأجداد. وظهرت مؤسسات رائدة في توثيق أعمال أبناء الموجة الأولى من الهجرة الروسية، أي مهاجري عشرينيات القرن العشرين، ومعظمهم كانت وجهته الغرب. إلا أن المؤلف الموسيقي وقائد الأوركسترا، إراست بيلينغ، الذي احتل حيّزاً مهماً في الحياة الفنية في عاصمة القياصرة اختفى ذكره. فهو على عكس المهاجرين الآخرين، نزح جنوباً عبر بلاد فارس وحلّ في دمشق. وبالتالي اختفى الموسيقار بالنسبة إلى الروس، ومعه زوجته السوبرانو ألكسندرا وابنتهما الوحيدة الراقصة تمارا، وانقطعت أخبارهم.
احتضنت دمشق عائلة بيلينغ، وقد حظي باحترام أهلها ورعايتهم. وروى لتلامذته، كما ذكر الشريف، أنه "لم يرضَ أن يظل أسير المعونات التي تقدّم له من سكان الحيّ، فانبرى إلى العمل مع زوجته وابنته. انصرف إلى تعليم عزف البيانو والكمان، وكانت زوجته تخيط الدمى من بقايا الأقمشة وتبيعها للمخازن، بينما أخذت تمارا الجميلة تعلّم الرقص بأنواعه الدارجة وقتذاك... للراغبين من الشباب وغير الشباب، إضافة للباليه للفتيات. حتى قال: هذا شيء لا يُصدّق، لقد أصبح بيتي خلية نحل من إقبال شباب الأسر الدمشقية وشاباتها على دراسة الموسيقى وتعلّم الرقص".
وعلى عتبة الثلاثينيات، انتشرت ظاهرة تأسيس النوادي الأدبية والفنية والموسيقية والثقافية في الشام، وكان إراست بيلينغ الوافد حديثاً في ذروة عطائه الإبداعي وقد تجاوز الــ 48 من عمره. آنذاك، أسس المربي الأستاذ مصطفى الصواف "النادي الموسيقي العربي"، وكان الأول من نوعه في التدريس وفق القواعد الأكاديمية، وقد التفّ المثقّفون حول الصواف، فيما عزّز الأخير النادي بطلاب انتقاهم بنفسه.
انضمّ إراست إلى هذا النادي متطوّعاً عندما لمس الجدية في طرق التعليم والأساليب الحديثة المعتمدة. وقد توسّع هذا النادي ورفده الصوّاف بنادٍ آخر سنة 1934، سمّاه "دار الموسيقى الوطنية" ضمّ نخبة من الموسيقيين، واستمرّ في أداء رسالته حتى عام 1957.
ألّف بيلينغ معزوفة "فانتازيا دمشق" للبيانو والأوركسترا الكبيرة على حبّ أهل المدينة، وكان لها صدى كبير حين قدّمها على آلتي بيانو مع نجلاء عبسي. وأثناء الحرب العالمية الثانية تأثّر البارون باستبسال المدافعين عن ستالينغراد فألّف رائعته الثانية "فانتازيا ستالينغراد" وعزفها منفرداً في "فندق الشرق".
أما ما يُشاع، ونقله الشريف، عن أن القائم بالأعمال السوفياتي دانيل سولود (1908-1988) كان حاضراً في الحفل، ثم "زاره في منزله وأخبره أنه أرسل باسمه طلباً يستعطف المسؤولين بالسماح للبارون وأسرته بالعودة إلى وطنه"، ثم جاء الرد سلبياً من موسكو، فيبقى تحت علامة استفهام وإن حدث فليس آنذاك، لأن انتصار السوفيات في ستالينغراد وتحريرها كان عام 1943، أما إقامة العلاقات الدبلوماسية بين موسكو ودمشق، فأتت على يد السفير السوفياتي في القاهرة نيقولاي نوفيكوف ربيع 1944، ووصول المستشار سولود ليمثّل موسكو في بيروت ودمشق كان بعد هذا التاريخ. على أي حال لم يُفتح باب الأمل في وجه بيلينغ للعودة إلى روسيا.
من هو البارون بيلينغ؟
ولد إراست بيلينغ في مدينة نيجني نوفغورود، سنة 1878، في عائلة موسيقية عريقة. كان جدّه البارون هاينريش أوغست بيلينغ (1793-1854) قد انتقل من مدينة دريسدن إلى سان بطرسبورغ عام 1815، وسرعان ما حظي بالشهرة فيها. إذ كان عازف الأرغن في كنيسة القديسين بطرس وبولس، وأنشأ جوقة غنائية، بالإضافة إلى الجمعية الألمانية لعشّاق الغناء الكورالي. ولعل الأبرز أنه بين عامي 1824 و1832، درّس هاينريش (الذي عرف باسم أندريه أندريفيتش) بنات القيصر نيقولاي الأول الموسيقى. وبرز من أبنائه إيفستافي (غوستاف) بيلينغ (1833-1902)، وحفيده إراست.
بعد ولادة إراست، انتقلت العائلة من نيجني نوفغورود إلى العاصمة. أنهى إراست ثانوية سان بطرسبورغ الكلاسيكية الثانية العالية، ثم التحق بكلية الحقوق فأنهى سنتين جامعيتين قبل أن ينتقل إلى المعهد العالي للموسيقى، حيث أكمل دراسته عام 1908. تتلمذ في المعهد على أيدي كبار المؤلفين الموسيقيين الروس، وكان من بين أساتذته نيقولاي ريمسكي كورساكوف (1844-1908) ونيقولاي سولوفيوف (1846-1916)، وليونيد آوير (1845-1930).
في العام 1907، عمل إراست عازف كمان في أوركسترا بلاط القيصر ألكسندر الثالث، وبعد 3 أعوام أصبح قائد أوركسترا مبتدئاً، إلى جانب الموسيقار هوغو فارليتش (1856-1922)، الذي اعتمد عليه.
بعد ثورة شباط/فبراير 1917، احتفظ إراست بمنصبه في أوركسترا مقاطعة بتروغراد (سان بطرسبورغ في تلك المرحلة)، وشارك مع هوغو فارليتش في ما سمّي بالأوركسترا الحكومية. بعد ثورة تشرين الأول/أكتوبر قاد الأوركسترا سيرغي كوسيفيتسكي، واحتفظ بيلينغ بمنصب القائد الثاني، وأدار معظم حفلات الأوركسترا التي نظّمت عامي 1917 و1918 ما سمّي بـ"الحفلات السيمفونية الشعبية"، تماشياً مع ظروف المرحلة.
في الموسم التالي عملت الأوركسترا بقيادة بيلينغ في معظم حفلات عرض الأفلام الصامتة حيث كانت تعزف الموسيقى المرافقة، وكان ذلك رائجاً في تلك الحقبة. كما رافقت الأوركسترا بموسيقاها حفلات الباليه، بالإضافة إلى تنظيمها الحفلات الكلاسيكية.
لكن في العام 1920، بدا للسلطات الجديدة أن إراست "غير مناسب لأوركسترا العاصمة" فنقلته إلى فيتيبسك (بيلاروس)، حيث رأس قسم الموسيقى الإقليمي في مفوضيّة الشعب، وأدار أوركسترا المقاطعة التي أغلقت عام 1921، فعاد إلى بتروغراد حيث لا عمل له. لكنه تابع نشاطه بشكل متقطّع وأنشأ أوركسترا للهواة ورافق بالعزف بعض الحفلات الموسيقية، ورافقته فيها زوجته السوبرانو ألكسندرا بيلينغ، التي كانت شخصية بارزة في الحياة الموسيقية في العاصمة ومقرّبة من بلاط القيصر قبل الحقبة السوفياتية.
بيروت الخمسينيات
بعد ربع قرن من العمل في تعليم العزف على البيانو والكمان في منزله الدمشقي، ثم في المعهد الموسيقي الشرقي التابع لوزارة المعارف السورية، براتب شهري لا يزيد عن 100 ليرة، عرضت الأكاديمية اللبنانية للفنون على بيلينغ العمل فيها لقاء 500 ليرة شهرياً. لم تُجدِ مطالبته بزيادة 25 ليرة، وإلا لكان بقي في دمشق! فقبل عرض الأكاديمية ورهن كمانه ليسدّد بعض الديون وسافر مع أسرته إلى بيروت.
كان إراست آنذاك قد تجاوز السبعين من عمره، وكان وصوله إلى بيروت حدثاً مهماً في الأوساط الفنية في المدينة. كان أساتذة الموسيقى والغناء الروس يملأون المعاهد الموسيقية الثلاثة في المدينة، بعدما أسست أسرة كوغل، وعلى رأسها أركادي كوغل (1896 – 1985)، معهد الموسيقى في الجامعة الأميركية في بيروت.
وأسس أحد تلامذتهم ألكسس بطرس الأكاديمية اللبنانية للفنون، وأطلقت مسيرة المعهد العالي للموسيقى... في بيروت، تتلمذ على يدي بيلينغ المؤلفان الموسيقيان بوغوص جلاليان (1927-2011) وجورج باز (1926-2012). أما زوجته ألكسندرا فقد افتتحت محترفاً لصناعة الدمى، ودعيت ابنتهما تمارا لترأس قسم الرقص في الأكاديمية اللبنانية للفنون، وهي المرة الأولى التي يدرّس فيها الباليه الكلاسيكي على أساس أكاديمي في لبنان.