الاعتراف بين صراع الهويات والظلم الاقتصادي
تتصدّر الهويّات اليوم المشهد العالمي للتنازعات ذات الخلفية الحضارية والثقافية. اخترقت هذه الخلافات حدود الدول، وانسالت داخل المجتمعات حتى الغربية منها، التي من المفترض أنّها صارت مهيّأة دستوريًا وشرائعيًا وثقافيًا لتقبّل الاختلاف والتعدد الثقافيين.
يشهد حضورنا الكوني تقلّصًا في فضاءاته الرمزية التي باتت تنطوي على كثافة الدعاوى المحرّضة على التخندق والانغلاق باسم الهويّات والثقافات والحضارات. وفي الوقت الذي تذوي فيه أشكال الصراعات الإجتماعية ذات البعد الاقتصادي، تنتعش صنوف أخرى تطالب بالاعتراف بالهويات على أنواعها؛ العرقية والدينية والجنسية والإثنية، والقومية، والثقافية والأيديولوجية، وتتفشى مقولات التفوّق الحضاري التي تمارس استعلاء فتفرض نموذجها ليس الاقتصادي ومنظومتها القيمية باعتبارها الأرقى، مستغلّة الفضاء العولمي لتمارس نمذجة حضارية على شعوب الهويات الدنيا أو المنتقصة. تتسرّب هذه التمايزات الفارضة لمعايير قهرية تختزل هوية الآخر ضمن تصنيفات نمطية دونية، إلى داخل الفضاء العمومي لمجتمعات الغرب الحداثي نفسه الذي بات مأزومًا بالهوّة أو بالشروخات الفاضحة بين قيمه التي لطالما تغاوى بنسبتها إلى لحظته التنويرية، وعمل على تأصيلها في مؤسساته وتشريعاته، وبين ما تمارسه هذه المؤسسات نفسها باسم القانون ضد الأغيار والمختلفين والأغراب، من الأقلّيات غير المواطنين من تهميش وإقصاء وتبخيس لحقهم الذي تحفظه لهم قيم الديموقراطية والحرية، ومن عيشٍ لقناعاتهم السياسية والعقدية-الدينية وممارستهم لها في الفضاء العام لبعض المجتمعات الغربية.
هذا الأمر يجعل قيم التعايش والتساكن والتلاقي والتقارب محفوفة ببؤر الرفض والتنابذ. وإن كانت بعض بلداننا العربية عرضة لاضطرام الاحترابات الهويّاتية الطائفية والمذهبية والعرقية الانعزالية، ما يؤدّي إلى استحالة الوصول إلى حالة العيش المشترك، يبدو في المقابل، أنّ حضور قيم الانفتاح على الآخر وقبوله كما هو في الواقع الاجتماعي الغربي، بدأ يخفت ويصيبه الضمور. فهذا الحضور يتعرّض للإزاحة والاقتحام ليسود مكانه الإقصاء والتهميش والتبعيد. ربّما يحتاج هذا الطرح هنا إلى أسانيد وشواهد تحيلنا من التعميم إلى التخصيص الذي يجعل ما نذهب إليه أكثر وضوحًا فيمدّه بالمصداقية والشرعية. وهذا ما نتغيّا تبيانه من خلال عرض لنماذج فكرية وفلسفية واجتماعية انهمّت بالتفكّر من داخل مآزم المجتمع لتشخيص ظواهره المرضية، والخروج بما يمكن أن يبرأ الأفراد والجماعات داخل الحقل الاجتماعي من شرور الرذل والتبخيس والحط من القيمة الذاتية والجماعية.
يبدو الاعتراف[1] La reconnaissance هنا أحد أهم هذه العلاجات وأكثرها محورية في مخبر الاشتغال الفلسفي والاجتماعي والنفسي. ومن الطبيعي أن يتصدّى الفكر النقدي الفلسفي لاستجلاء أعطاب تعيق عيش الإنسان وتمنع عنه التنعّم بالقيمتين الجليلتين المميّزتين لوجوده، وهما الحرية والكرامة. ما يعنينا هنا هو الوجود الاجتماعي بكل ما يعتمل فيه من إشكاليات صاخبة ومتشعّبة غاص فيها كلّ من الفيلسوفين المعاصرين، ممثلي الجيل الثالث لمدرسة فرنكفورت "النظرية النقدية لمدرسة فرنكفورت"، والمنظّرين المرموقين لبراديغم الاعتراف؛ أكسيل هونيث Axel Honneth[2]، ونانسي فريزرNancy Fraser[3]. لن يتفق الفيلسوفان هنا حول الحسم في كون الاعتراف هو وحده العلاج المخفف من غلواء الصراعات الاجتماعية، ففي حين سيذهب هونيث إلى القطعية في تبنّي كون نقصان الاعتراف هو الولّاد لأزمات المجتمع والأفراد داخله، وبالتالي لا ترياق لتجارب الإقصاء إلا بترسيخ قيم الاعتراف وتوثيق عراها في النفوس والعقول والمؤسسات، تنبّه نانسي فريزر إلى ضرورة الالتفات إلى تناقص قيم العدالة الاجتماعية وعدم إشاحة النظر عن التفاوت الطبقي واللاعدالة واللامساواة على المستوى الاقتصادي، من دون أن تهمل أهمية قيمة الاعتراف التذاوتي على المستوى الثقافي والذاتي والأخلاقي والنفسي، فتشجع بالتالي على السير وبشكل موازٍ بين الاعتراف القيمي والعدالة في التوزيع الاقتصادي، لاغية التناقض بينهما.
هونيث مؤصّلًا الاعتراف
عمل هونيث وبجهد رصين على تأصيل مفهومه عن الاعتراف. فهو ربط الاعتراف بمسار النظرية النقدية، باعتباره الطرح الفلسفي المجدّد لها بغير انقطاع عنها، كما أنه عمل على تجذير الاعتراف من ضمن التراث النقدي الألماني.
ويتوقّف هونيث مطوّلًا عند محطّة يورغن هابرماس[4](1929) ليستطلع ما أثرت به النظرية من أنموذج التواصل. فمبادرة هابرماس دفعت بالنظرية النقدية إلى الأمام "لأنه قدّم نظرية في الفعل التواصلي تعتبر بمثابة منعطف حاسم في تاريخ النظرية النقدية أو مدرسة فرنكفورت"[5]. لكن ما بعد الإشادة والتثمين، يمرّر هونيث تواصلية أستاذه في مصفاته النقدية ليوسّعها، فالتواصل ضرورة، لكن ضرورته تنبثق من الاجتماعي المضمّخ بنزاعات شتّى يتطلّب حلّها استحضار مقولة الاعتراف. هذه الأشكال النزاعية في المجتمع، هي ما أغفلها هابرماس. وهونيث لا ينكر أهمية العامل اللغوي منهجيًا، فاللغة في المجتمعات المعاصرة تحوز على أولوية منهجية، لكن "هابرماس لم يترك مكانًا للظواهر الاجتماعية النزاعية، وذلك بناءً على الواقعة الأساسية للمجتمع، ألا وهي الصراع والمنافسة بين الذوات الاجتماعية"[6].
وهكذا فإنّ نموذج التواصل لا يُختزل في نظرية اللغة، بل يجب أن يسع نظرية الاعتراف. كما أنّ هونيث يستحضر الجسد الذي يمثّل إحدى أهم بؤر الانتهاك، حيث فيه تُحفر عميقًا خطوط الاستغلال والأذى النفسي في أكثر حالاته إيلامًا. في لفتته للبعدين الرمزي والجسدي، كبعدين أساسيين من أبعاد الاعتراف، يستفيد هونيث هنا من الفلسفة الفرنسية واجتهاداتها في هذا الإطار، من "سارتر، ميرلوبونتي وفوكو ولاكان، وبورديو، وبخاصة من حيث الاهتمام بالجسد وبالمظاهر السلبية في المجتمع...". فكل "أشكال الاعتراف، لها أصل جسدي ورمزي[7].
هيغل وإلهام الاعتراف
في مسعى تنسيبه لنظريته عن الاعتراف يعود هونيث إلى الفكر الألماني، ليعثر لدى هيغل على مواطن إلهام تدعم رؤيته الساعية إلى بلورة وضوح نظري لمفهوم الاعتراف، "ما زالت كتابات هيغل تشكّل...مع ما تحمل من رؤية واسعة بشأن الصراع من أجل الاعتراف وإلى اليوم أيضًا أفضل مصدر للإلهام"[8]. لكنّ استحضار هونيث لفلسفة هيغل، خضع لتشذيب نقدي نقّى إسهامات الأخير في تصوّره التأسيسي لمفهوم الاعتراف، فخلّصه من "فرضيات المثالية المسبقة". وهو لا يكتفي بتأصيل مفهوم الاعتراف، بل يقوم بتطعيمه بنظريات معاصرة معتمدًا على أعمال عالم الاجتماع الأميركي جورج هربرت ميد(1863-1931). فعلم النفس الاجتماعي "كما تطرّق إليه هذا الأخير، يشكّل جسرًا بين الفكرة الأولى لدى هيغل، وبين موقفنا في الفكر المعاصر. إذ أتاحت أعماله ترجمة نظرية هيغل حول البينذاتية إلى لغة نظرية ما بعد ميتافيزيقية"[9]..."فأعماله (ميد) تقدّم في أيّامنا الأداة الأنسب لإعادة بناء حدوسات هيغل الشاب حول دور البينذاتية..."[10]. فالبنسبة لهونيث تتمثّل فرادة ميد في جهده المُطوّر "بدقة محكمة" لفكرة أنّ الذوات البشرية تدين في هوّيتها لتجربة الاعتراف المتبادل والتي تصيب صميم فكرة هيغل نفسها عن الاعتراف، إلا أنّ ميد يطرحها في إطار علم النفس الاجتماعي، "لذلك لا بدّ لنا أوّلًا من إعادة بناء أطروحة هيغل الأوّلية، في ضوء علم النفس الاجتماعي ذي السّمة التجريبية"[11]. وهكذا يجمع هونيث في صقله لمفهومه عن الاعتراف، أصالة هيغل والمعاصرة التي تمثّلها دراسات ميد.
وأشكال الاعتراف التي يقترحها هونيث هي: الحب، والحق، والتضامن. والحب هو أولى البذور الواعدة بإنبات غرسة الاعتراف في الذات، "الحب باعتباره علاقة تفاعل تقوم على نموذج خاص من الاعتراف المتبادل"[12]. يوسّع هونيث مساحة الحب، فهو أرحب من أن يقتصر على الشغف الجنسي والعلاقة الحميمة الإيروسية بين رجل وامرأة. ويولي أهمية مركزية للمنشأ العاطفي للفرد، لأن إيجابية المعايشة بين الطفل والأمّ يطبع كل حياة الإنسان فيما بعد، "حتى أننا نستطيع من دون مواربة، أن نجعل بدء كل حياة إنسانية مرتبطًا بهذه المرحلة"[13].
والاعتراف من طريق الحق يتعلّق بما يسمّيه الاعتراف القانوني. لذا فهو يرتبط بمسألة الحقوق التي تجعل الفرد في موضع القبول والاعتراف بما له من قبل الجماعة، لقاء ما يتمتّع به من قدرات وإمكانات، وعلى هذا الأساس يمكننا القول بأنّ هذه الحقوق التي ينالها الفرد تتضمّن اعترافًا عموميًا به، من حيث هو شخص يملك قدرات ومؤهّلات. والاعتراف القانوني يحفظ للأفراد حريّتهم واستقلاليتهم الذاتية وهو "يفرض مسؤولية أخلاقية على كل أعضاء المجتمع"[14].
أما التضامن فهو أفق قيم تذاوتي يتعلّم عبره كل فرد الاعتراف بأهمية قدرات الآخرين وصفاتهم. فالتضامن في المجتمعات الحديثة ينشأ وينمو في نسيج شبكة العلاقات الاجتماعية، ويرتبط بوجود التقدير المتماثل بين الذوات، التي حقّقت استقلالها الذاتي.
إذاً، نستطيع القول إنّ التضامن لا يُحاز لأسباب مساواتية على أساس مادي-اقتصادي كما ادّعى الماركسيون المتشدّدون، وإنّما تنجلي قيمة التضامن عن بعد إيتيقي- أخلاقي. يقول أكسيل هونيث:
"إنّ الصفة أو الخاصية الأخلاقية للعلاقات الاجتماعية، لا يمكن أن تُقاس بالتوزيع العادل أو غير العادل للخيرات المادية فقط، بل يجب أن تتضمّن فكرة العدالة أيضًا. ولكن وفي الوقت نفسه، وبشكل أساسي، جملة التصوّرات والمفاهيم المرتبطة بكيفية تحقيق الاعتراف المتبادل بين الذوات"[15].
وفي المقابل، فإنّ التمييز بين ثلاثة نماذج من الاعتراف، يعطينا مفتاحًا نظريًا يقودنا إلى تعيين عدّة أشكال من الاحتقار موازية لها. وهي: المهانة الجسدية أي النيل من الجسد عبر الاغتصاب أو التعذيب أو السجن، وهذه التجربة الجسدية المهينة تسبب ما يسمّيه هونيث "الانجراح الأخلاقي الاجتماعي". وثانيها هو الازدراء الناجم عن الحرمان من الحقوق أو "انتهاك الاحترام الأخلاقي"، أي حرمان الشخص من بعض حقوقه الاجتماعية أو منها كلّها. وثالثها هو الحطّ من القيمة الاجتماعية للأفراد أو الجماعات، ما يصدّع قيمة التضامن ويجعلها عرضة للاهتزاز، بسبب من "الحكم السلبي على القيمة الاجتماعية لبعض الأفراد والجماعات"، أي تحقير أنماط الحياة الثقافية بمعناها الواسع سواء كانت الدينية أو الإثنية أو اللغوية، الفردية منها والجماعية.
بعد التعرّف إلى الاعتراف بحسب صياغة هونيث له، ننتقل إلى التعرّف إليه كما قاربته فريزر.
إعادة التوزيع ونموذج الاعتراف
لا تنكر نانسي فريزر وجود صراعات بأوجه وبأبعاد شتّى. الهويّات اليوم تتصدّر المشهد العالمي- العولمي للتنازعات ذات الخلفية الحضارية والثقافية. اخترقت هذه الخلافات حدود الدول، وانسالت داخل المجتمعات حتى الغربية منها، التي من المفترض أنّها صارت مهيّأة دستوريًا وشرائعيًا وثقافيًا لتقبّل الاختلاف والتعدد الثقافيين الرمزيين. فالأقليات المهاجرة أو المهجّرة الوافدة إلى بلاد مغايرة في الثقافة واللغة والدين والحضارة، توصم بالاختلاف وتُقذف خارج دائرة المواطنة. النضال النسوي الذي لا يزال متصاعدًا، يشي بفوارق لمّا تزل قائمة بين الجنسين. المطالبات بحقوق الإنسان والطفل والمثليين، والمدافعون عن البيئة، والنزاعات العرقية، والعنصرية ضد الملوّنين...كل هذه الحراكات تكاد تبتلع مساحات الصراع مطالبة بإعادة تقييم هويّاتها من أجل نيل الاعتراف بخصوصيّتها الرمزية. إذاً فالصراع من أجل الاعتراف هو رهان وتحدٍّ يعصف بلحظتنا الراهنة. لا تهمل فريزر نموذج الاعتراف بوصفه مطلبًا لتحقيق العدل ورفع الظلم عن الهويّات المقصيّة والمحتقرة، ولكنّها تشجب إهمال الظلم الناتج عن التهميش الاقتصادي نتيجة الخلل في توزيع الثروات واحتكارها، وهي تعزو إغفال التأثيرات الاقتصادية والمادية لما تسمّيه "عالم ما بعد الاشتراكي". لذا فهي تدعو إلى التمييز بين نموذجين: نموذج إعادة التوزيع للتصدّي للاعدالة الاجتماعية-الاقتصادية، ونموذج الاعتراف لمواجهة الإقصاء ذي الطابع الثقافي.
و"وضع ما بعد الاشتراكي" ظهر بعد سقوط الشيوعية، وانهيار الاتحاد السوفياتي(1991)، وتصاعد المشروع الليبرالي وتطوّره السريع.
تهتمّ فريزر بهذه الحقبة نظرًا لتداعياتها الاقتصادية أوّلاً "حيث أفسحت مساواتية اشتراكية منزوعة الشرعية على ما يبدو، الطريق لأصولية سوق حرّة أعيد إحياؤها بطريقة معجزة"[16].
أما اجتماعيًا، فقد تمايز هذا التحوّل بانعطافة على الصعيد الاجتماعي وبخاصة حراكاته التي حملت لواء مطالب بعناوين جديدة في المشهد السياسي- الاجتماعي، إذ بدلًا من العدالة التوزيعية، تظهّر خطاب إشكاليات الهويّة والاختلاف، وهنا بالضبط حصل التحوّل من "إعادة التوزيع إلى الاعتراف". تعبّر فريزر عن انزياحات الظرف ما بعد الاشتراكي قائلة: "حيث عوّضت الهويّة الجماعية مصالح الطبقة كمحل للتعبئة السياسية، واللاعدالة الأساسية المحسوس بها لم تعد تكمن في الاستغلال، ولكن في الهيمنة الثقافية. بالإضافة إلى ذلك، أزاح الاعتراف الثقافي إعادة التوزيع الاقتصادي كدواء للّاعدالة وكهدف للصّراعات السياسية".[17] فالحركات التحررية التي كانت تنشد إلغاء التفاوت الطبقي، وتروم إحراز عدالة في الأجور وتحسين ظروف العمل، نضبت وأخلت الساحات لحركيات تبغي اكتشاف هويّتها والاعتراف بتمايزها.
هذا لا يعني انتفاء الحركات ذات التطلّع المساواتي الاقتصادي، ولكنّها هزيلة، مضعضعة وفقدت حضورها الذي كان لها في المرحلة السابقة على الليبرالية. لا يُنبئ هذا التراجع بتبدّد أشكال اللامساواة، بل الأخطر أنه يطمسها ويضعها في العتمة، فالمداخيل ضئيلة والبطالة أزمة عالمية، وظروف العمل لا تحترم قوانينه، والتربية والتعليم يتردّيان بخاصة في المجتمعات التي تتهاوى إلى الفقر، والرعاية الصحية مهدّدة، والتلوث يتهدّد الأمن الغذائي والصحّي لبلاد كثيرة. هذه المظاهر تزحف بقوّة في كل بلدان المعمورة، الجنوب كما الشمال.
لذا تسأل فريزر: كيف والحال هذه يمكن القبول بالتخلّي عن مطالب إعادة التوزيع؟ "ما جدوى المخيال السياسي الجديد عن الهويّة والاختلاف والهيمنة الثقافية والاعتراف؟ وهل يشير هذا التحوّل في البراديغمات إلى وعي زائف؟ أو هو على العكس يترجم تصحيح العمى الثقافي لبراديغم مادي، فقد بحق قيمته بفعل سقوط الشيوعية من النمط السوفياتي؟"[18].
لا تريد نانسي فريزر إلغاء أي من الحراكات على حساب الأخرى، ولكنّها تحدّد مهمّتها "أطروحتي العامّة هي أنّ العدالة اليوم تتطلّب في الوقت ذاته، إعادة توزيع واعتراف. لا واحد منهما كافٍ بذاته"[19].
تقول فريزر: "يمكننا أن نميّز بين نموذج إعادة التوزيع ونموذج الاعتراف...يؤكّد نموذج إعادة التوزيع Redistribution على المظالم الاجتماعية والاقتصادية، التي يُعتقد بأنها ناتجة عن الاقتصاد السياسي الذي أدّى إلى الاستغلال والتهميش الاقتصادي والفقر. ومن جهته، يؤكّد براديغم الاعتراف على المظالم ذات الطابع الثقافي...التي أدّت إلى السيطرة الثقافية ونكران الاعتراف والاحتقار"[20]. ولقد أحدث هذا الافتراق بين النموذجين خلافًا بين صفوف اليسار:" لقد كان هنالك في الولايات المتّحدة الأميركية، طلاق داخل اليسار بين أولئك الذين يتبنّون أفقًا اقتصاديًا أو توزيعيًا، وبين اتجاه جديد يهتمّ أكثر بسياسة الاعتراف، ممحورًا فكره وانتباهه حول مسائل الهوية والاختلاف، وبخاصة حول مسائل الأقليات"[21].
فالمتبنّون لنموذج إعادة التوزيع يعالجون ما ينتج عن التهميش الاقتصادي بطرحهم، "لإعادة توزيع المداخيل، وإعادة تنظيم تقسيم العمل، وبإعادة بنينة الجانب الاقتصادي أو بصفة عامة إعادة التوزيع". في المقابل، يقترح المنظّرون لنموذج الاعتراف مخرجًا للجور اللاحق بذوي الهويات المنتقصة، "من خلال التغيير الرمزي والثقافي، عبر إعادة تقويم الهويات المحتقرة، وإعادة الاعتبار للتنوع الثقافي ..."[22]. تقترح فريزر صيغة دمج بين النموذجين من دون أن يزيح أحدهما الآخر أو يطغى عليه لاكتمال قيمة العدل المنشودة.
في التشبيك بين الاعتراف وإعادة التوزيع
إنّ الحديث عن "التركيز المبالغ فيه على الاعتراف وعدم الانتباه للتوزيع...هو نوع من أجندة مركّزة... من دون أن نفهم الكيفية التي يتغير بها الاقتصاد السياسي. لم يعد الأمر مقتصرًا على أننا نسينا إعادة التوزيع، بل في الحقيقة نساهم من دون أن نعي إسهامًا إيجابيًا في النيوليبرالية. ونحن نكسبها نوعًا من الشرعية...على أنها نوع من الأداة التبريرية .. التي تشرعن للنظام الاقتصادي السياسي الجديد"[23].
تتوخّى فريزر محاججة نقدية حذرة ودقيقة، وذلك لتردّ على المطالبين بالاعتراف بالهويّات، وتدعوهم إلى التنبّه إلى أن بعضها أو بعض الجماعات ذات الخصوصيات الهويّاتية، تتمسّك بقيمة الاعتراف لتنعزل أكثر في نطاق هويّتها، وهي تشجّع على "الجهوية والانقسام وعدم التسامح، ما يقوّي مشاعر متزمتّة ومتطرّفة، ويعمل على الحفاظ على البنى الأبوية التسلّطية"[24]. كما أنّ هذه الهويّات تنقلب إلى أيديولوجيات ضاغطة على أفرادها، "وتقوم بنوع من الضغط الأخلاقي على الأفراد الذين ينتمون إليها، حتى يمتثلوا لثقافة الجماعة. وهذه الثقافة لا ترحّب عادة بالاختلاف والتجديد والتجريب، وإنّما تصف كلّ مخالف بعدم الأصالة"[25]. إن تبنّي مطالب الجماعاتية[26] بتماهي سياسة الهوية مع مطلب الاعتراف هو ما ترفضه فريزر، لأنّ العودة إلى الهويات ينبئ بخطورة تكريس مبدأ الهويات المقفلة أو ما تسمّيه "الهويات المنمّطة"[27]. لذلك انتهت فريزر إلى نتيجة مؤدّاها أن نموذج الاعتراف بالهويّة يؤدّي "إلى أخطاء خطيرة لأنه يعاني من إفلاس نظري وإشكال سياسي، ويطابق بين سياسة الاعتراف وسياسة الهويّة...ويقوم بإزاحة سياسة إعادة التوزيع"[28].
بعد نقدها للتماهي المفرط بين سياسة الهوية وسياسة الاعتراف، أو اختزال الاعتراف في إشكالية الهويّات، تقترح فريزر حلولها التي تستنبطها من القانون وهي متمثّلة بصيغة التكافؤ. وهذه الصياغة ليست قيمة اجتماعية خاضعة للمزاج التقديري العشوائي الاجتماعي، أو أنها اعتباطية في المعيار تهبط وترتفع تبعًا لأسباب ما، بل التكافؤ محميّ بالقانون. فبحسب فريزر، فإن الاعتراف كقرين للعدل، سيظلّ رخوًا إذا لم يتدعّم بمعيارية اجتماعية تتّسم بالصلابة والإجماع الملزم. ووضعية هويات الجماعات أو الأفراد المهمّشين، تتعلّق بأنساق قيمية أشاعت هذه الوضعية وأرستها، تنميطًا وسلوكًا تمثّل في المنع في المشاركة، لكنّ أسّ هذه الأنساق ليس رمزيًا أو عرفيًا، إنما نجده في المنزلة أو المكانة القانونية. فعدم الاعتراف بالهويّة، لا يرجع إلى الخطابات أو التصوّرات المنمّطة التي تكرّسه، ولكن منبعه هو المؤسسات والقوانين التي تتبع معايير استنسابية تعيق التكافؤ في المشاركةParité de participation. تعزّز فريزر تحليلها بأمثلة مستلّة من الواقع في المجتمع الغربي؛ مثل قوانين الزواج الخاصّة بفئة الأمّهات العازبات غير المتزوّجات، والنظر إلى العائلات التي يكون رؤساؤها من الرجال عائلات شرعية، بينما تلك التي يكون رؤساؤها نساءً فهي منزوعة الشرعية.
وتحاول فريزر أن تشرح مفهوم التساوي في المشاركة، كإطار منظّم وضابط للعدالة. ينتظم هذا النوع من التشارك عبر المؤسسات وبخاصة القانونية منها التي تجتهد في "إيجاد معايير نموذجية للمساواة القانونية"، بمعنى قوننة المساواة، ومحو الفوارق المادية والإخضاع الاقتصادي اللذين يحولان دون إتاحة المشاركة المستقلة للأفراد. تضع فريزر القضاء على أشكال اللامساواة وتوزيع الثروات بالتساوي في خانة "الشرط الموضوعي" للتساوي في المشاركة. "بهذه الكيفية يتمّ التخلّص من التدابير الاجتماعية التي تعمل على مأسسة الفقر والاستغلال، والتباينات الكبيرة في الثروة والدّخل وأوقات الفراغ، أو حرمان بعضهم من إمكانية التفاعل مع غيرهم من الناس"[29].
بالإضافة إلى الشرط الموضوعي للمأسسة المساواتية على المستوى الاقتصادي، تقترح فريزر "شرطًا تذاوتيًاIntersubjectif "، هذا الشرط يرتبط بنموذج الاعتراف وبغيته إحقاق العدل الرمزي ونيل الاعتراف برتبة تقدير. ومأسسة نماذج الاعتراف تقضي على مضاداتها الثقافية التي تبثّ الاحتقار وتشيع الازدراء، "وبهذه الكيفية يتمّ استبعاد النماذج الممأسسة للقيم التي تنفي صفة الشريك الكامل في عملية التفاعل الاجتماعي على بعض الأشخاص"[30]. و"تبعًا لهذا سيشمل التصوّر ثنائي الأبعاد للعدالة المرتكز على معيار التساوي في المشاركة، إعادة التوزيع والاعتراف من دون اختزال أحدهما في الآخر"[31].
الاعتراف مقارنًا بين هونيث وفريزر
هل نبلغ العدل من طريق أشكال الاعتراف التذاوتية؛ الحب والحق والتضامن؟ وماذا عن الأزمات الاجتماعية التي تضرمها الحقوق المنقوصة أو المنعدمة في الأجور العادلة، والتعليم اللائق والطبابة المتاحة للجميع؟ أو ليس مجرّد طرح تساؤل اليوم، عن الإجحاف اللاحق بشعوب بأسرها تعاني الجوع ويعيث الفقر في أمنها الغذائي والصحّي هو مدعاة دامغة لاستدعاء الفحص وراء مسبّبات تفاقم العوز والفاقة؟ إن تبرّم هونيث وضيقه ذرعًا بالتفسير الماركسي الاقتصادي، كأداة نظرية تحليلية، لا يسوّغ له غضّ الطرف عن اللاعدل الاقتصادي ومظاهره التي باتت منتشرة في العالم. تبدو هنا معاينة نانسي فريزر لمظاهر اللاعدالة أكثر التحامًا مع الواقع وأكثر صدقًا في الانسجام معه ومع مجرياته. وعن اعتراف هونيث، تقول فريزر:" كل محاولة تبرير ادّعاءات الاعتراف من وجهة نظر الخير أو تحقيق الذات، إنما هي محاولة قطاعية. لا يمكن لأيّة مقاربة من هذا النوع أن تجعل ادّعاءاتها ملزِمة معياريًا للّذين لا يشاطرون المفهوم الإيتيقي للمنظّر"[32]. أمّا لمَ لا تتّفق فريزر مع هونيث حول "المفهوم الصّوري للحياة الأخلاقية"؟ فذلك لأنّه "يتعذّر وجود مشترك كوني لمفهوم الخير أو ما يخص تحقيق الذات. تبعًا لهذا فإنّ كل محاولة لتبرير ادّعاءات الاعتراف التي تستند إلى مفهوم...تحقيق الذات ستكون حتمًا ضيقة"[33]. فالاعتراف بالنسبة لفريزر لا يقوم على التصوّرات الأخلاقية، بخاصّة إذا كنا نروم أن نجعل منه أساسًا قيمة كونية هي العدالة. فالتوجهات الأخلاقية لجماعة ما ليست ملزمة لجماعة من ثقافة أخلاقية مختلفة أو خاصّة. وفي المقابل، يمكن التنظير لنموذج من العدالة يلقى قبول الأشخاص المختلفين في خلفيّتهم القيمية الأخلاقية، والذين يتباينون في مفاهيمهم حول الأخلاق أو الخير. هذا النموذج هو التساوي في المشاركة "والحق أنّ التساوي في المشاركة هنا، يمكن أن يبرّر كيف تكون ادّعاءات الاعتراف ملزمة... بالنسبة لكل من يقبل الامتثال لعملية الاندماج، ضمن شروط التعدّدية القيمية"[34].
على كلّ حال، إنّ الاختلاف حول الاعتراف بين فريزر وهونيث، لا يُفسد في انتمائهما للنظرية النقدية. ففريزر تقرّ بذلك قائلة:" كنا أنا وأكسيل هونيث الوحيدَيْن من جيل ما بعد هابرماس اللّذين لا يزالان يرتبطان بمشروع نظرية نقدية للمجتمع متعدّدة الاختصاصات"[35]. فهي تطرح تصوّرها للعدالة من ضمن الإطار النقدي والنظري لمدرسة فرنكفورت.
هوامش الدراسة
[1] يعدّ مفهوم الإعتراف من أهم ما يعمل عليه في مجال الفلسفة الإجتماعية المعاصرة، ومن الكتب المؤلّفة حوله،:"الصراع من أجل الاعتراف لأكسيل هونيث، و"مسارات الاعتراف" للفيلسوف الفرنسي بول ريكور، وكتاب"الاعتراف والتوزيع" لنانسي فريزر.
[2] أستاذ جامعي ومدير معهد الأبحاث الإجتماعية في غوته في فرنكفورت. يشكّل براديغم الاعتراف ثقلاً تنظيريًا في فلسفة هونيث. من أهم مؤلفاته: الصراع من أجل الاعتراف، أمراض العقل ، مجتمع الاحتقار، التشيؤ ، الإجتماعي وعالمه الممزق.
[3] - فيلسوفة أميركية معاصرة (1947)، اهتمّت بمسائل مثل؛الفضاء العمومي، العدالة الإجتماعية والتوزيعية، الديموقراطية، وبالحركات النسائية. من أهمّ مؤلفاتها: ما العدالة الإجتماعية؟ الاعتراف وإعادة التوزيع.
[4] - من أبرز ممثلّي الجيل الثاني لمدرسة فرنكفورت. من أهم مؤلفاته: المعرفة والمصلحة(1956)، العلم والتقنية كأيديولوجيا، نظرية الفعل التواصلي.
[5]- Axel Honneth, La société du mépris, vers une nouvelle théorie critique, op.cit,p.13.
[6]-.159. Ibid, p
[7]- Ibid,p.163-164.
[8]- أكسيل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف، القواعد الأخلاقية للمآزق الاجتماعية، ترجمة دكتور جورج كتّورة، المكتبة الشرقية ، بيروت، ط1، ص7.
[9]- أكسيل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف، مصدر سابق، ص130.
[10]- المصدر نفسه، ص131.
[11]- المصدر نفسه، ص127.
[12]- المصدر نفسه، ص176.
[13]- المصدر نفسه، ص181.
-[14]المصدر نفسه، ص187.
[15]- Axel Honneth, Reconnaissance et Justice, esquisse d’une théorie pluraliste de la justice, Le passant ordinaire, n38,2002,p.127.
[16]-www.eurozine.com/authors/frazer.html,p.1.
[17]- Nancy Fraser, Les dilemmes de la justice dans une ère « post-socialiste »,in : www.cairn.info/revue-du-mauss-2004-1-page-152.htm, p.152.
[18]- Ibid,p.153.
[19]- Ibid,p.153.
[20]- Nancy Fraser, Qu’est-ce-que la justice sociale? Reconnaissance et redistribution, Traduit par Estelle Ferrarese,Paris, Editions La Découverte,2005,p.45-46.
[21]- Nancy Fraser, Articuler gauche culturelle et gauche sociale, vers la parité de participation, in pensées critiques, Dix itinéraires de la revue Mouvements 1998-2008, Paris, La Découverte, 2008-2009,p. 76-77.
[22]-Nancy Fraser, Qu’est-ce-que la justice sociale? Reconnaissance et redistribution, op.cit,p.45-46.
[23]- مجلة: حوار كوني، النسوية في الأزمنة النيوليبرالية، حوار مع نانسي فريزر، أستراليا، العدد 3، ديسمبر، 2018، ص6.
[24]- الزواوي بغّورة، الاعتراف، مرجع سابق، ص121.
[25]-.78. .op.cit,p Nancy Fraser, Qu’est-ce-que la justice sociale? Reconnaissance et redistribution,
[26]- الجماعاتية: يشير مصطلح الجماعاتية إلى الفلاسفة الناطقين باللغة الإنكليزية، والذين برزوا في مجالي فلسفة الأخلاق والسياسة في سبعينيات القرن العشرين. ومنهم تشارلز تايلور. والجمعاتية تتخّذ موقفًا نقديًا تجاه الليبرالية، وبشكل خاص تجاه الفردية المتطرّفة، والنفعية ، وتدعو إلى الاهتمام بالجماعة، وبالقيم الخاصة بجماعة ما. أنظر: الزواوي بغّورة، الاعتراف، مصدر سابق، ص70.
[27]- op.cit,p.79. Nancy Fraser, Qu’est-ce-que la justice sociale? Reconnaissance et redistribution,
[28]- Ibid,p.82.
[29]- Nancy Fraser, Qu’est-ce-que la justice sociale? Reconnaissance et redistribution, op.cit,p.54
[30]- Ibid,p.54.
[31]- ibid,p.55.
[32]- Ibid, p.158.
[33]-49. Nancy Fraser, Qu’est-ce-que la justice sociale? Reconnaissance et redistribution, op.cit,p.
[34]- Ibid,p.50.
[35]- .12. ,op.cit,p Nancy Fraser, Articuler gauche culturelle et gauche sociale