الإنسان وعصر النعومة: استهلاك، استهلاك، استهلاك!
من الأجساد إلى اللوحات والفنون، وصولاً إلى الهواتف الذكية.. لماذا تجتاح النعومة حياتنا؟ وما هي أوهامنا المرتبطة بها؟
يعرض الفيلسوف والناقد الثقافي الألماني من أصول كورية بيونغ - شول هان، في كتابه "خلاص الجمال" (ترجمة بدر الدين مصطفى، دار معنى 2020)، التحوّلات التي لحقت بمفهوم الجمال بصفة عامة، والأستطيقي على وجه التحديد. وهو يرى أنّ الثقافة الاستهلاكية والاقتصاد النيوليبرالي فرضا شكلاً معيناً للجمال، وأضفيا عليه الكثير من صفات السوق التي عززت من راهنيته ورسّخت من سرعة زواله.
ويعتمد الكتاب على أطروحات فلاسفة كثر من هيغل حتى هايدغر في تأكيد المعنى الكلاسيكيّ للجمال في مواجهة هذا الشكل الاستهلاكي: الخالد في مقابل الزائل. يتبنّى المؤلف تعريفاً للجمال يجعل منه تجربة وجودية تتغلغل داخل الروح وتمتزج بتضاريسها فتخرج مصبوغةً بصبغة الوجود شأنها في ذلك شأن الحقائق الأبدية.
النعومة: شعار العصر الراهن
يحدد شول هان النعومة كواحدة من السمات المشتركة التي تجمع بين جهاز الآيفون وإزالة الشعر بالشمع البرازيلي. ويفسر لم نجد اليوم ما هو ناعم جميلاً، إذ تعكس النعومة، إلى جانب تأثيرها الجمالي، حاجة اجتماعية عامة. إنها التجسيد المثالي لمجتمع اليوم الإيجابي. فما هو ناعم لا يؤذي. كما أنه لا يظهر أي نوع من المقاومة. إنه يبحث عن كل ما هو متجانس معه. والشيء الأملس (الناعم) يقصي كل ما يناقضه، ويستبعد أي شكل من أشكال السلبية.
حتى الاتصالات في العالم الرقمي، أو عبر الجهاز الرقمي، وفقاً لهان، تحدث بنوع من النعومة الفائقة: أحاديث لطيفة يتم تبادل الإيجابيات من خلالها. إذ تمثل المشاركة sharing وأعجبني like وسائل للتواصل السلس.
في المقابل، ثمة إلزامٌ قهري ينجم عن النعومة، إذ يدعو مشاهد "ما هو ناعم" إلى اتخاذ موقفه من دون مسافة، حتى يكون بمقدوره اللمس. يقول هان ذلك عن منحوتات الفنان الأميركي جيف كونز التي تشبه فقاعات الصابون اللامعة الممتلئة بالهواء، وكونز ملك الأسطح الملساء. على أنّ الحكم الجمالي على عمل فني ما يفترض وجود مسافة تأملية، غير أنّ "الفن الناعم" يلغي تلك المسافة. لذا فلا ينشأ الإلزام القهري المباغت والرغبة في امتصاص العمل إلا عبر فن ناعم يخلو من المعنى.
فالواقف برهبة متأملاً منحونة لمايكل أنجلو، يفترض مساحة بينه وبين العمل لا تلزمه قهرياً أن يحاول لمسه بيديه، وإذا كان لا بدّ من اللمس فسيجيء بعد المساحة التأملية، وسيكون لأنّ العمل أمامه بثّ في نفسه رهبةً وجلالاً، اللمس في هذه الحالة (على ندرته) يكون مدفوعاً برغبة للوصول إلى الجليل. أما أمام ما هو نعمة، فاللمس قهريّ، يفرضه فنٌّ يخلو من المعنى. الأعمال الناعمة تستند إلى طبيعة تكيّفية مع المشاهد، وتثير إعجابه بنفسه. إذ كل ما تريده هو نوع من الإرضاء، لا الصدمة.
القضاء على الجانب الروحاني
بحسب الفرنسي رولان بارت، تعتبر حاسة اللمس الأكثر غموضاً بين جميع الحواس، على عكس البصر الذي يعدّ أكثر جاذبية. تحافظ حاسة البصر على المسافة، في حين تعمل حاسة اللمس على القضاء عليها. ومن دون مسافة فاصلة، وفق بيونغ - شول هان، يختفي الجانب الروحاني في الشيء. إذ يفضي الوصول الكامل للشيء (عن طريق اللمس) إلى أن يغدو متاحاً للتمتع والاستهلاك. ويعمل اللمس على تدمير سلبية الآخر بالكامل، ولا يمتلك اللمس القدرة التي عند البصر على إثارة الدهشة. بالتالي، فإنّ الشاشة التي تعمل باللمس على نحو بالغ السلاسة تغدو موضعاً يستبعد الغموض ويفضى إلى الاستهلاك الكامل. وتقتصر فقط في إنتاجها على ما يثير إعجاب المرء.
فلنقارن مثلاً، في الحالة السورية، بين زمنين: زمن أجهزة شركة "نوكيا"، لا سيّما جهاز كان اسمه "الدمعة" وبين أي هاتف حديث. حين أتيح "الدمعة" في الأسواق صنع رهبةً بين الناس. كان شيئاً يرى، لا يلمس. شيئاً من أجل التأمل، لا يلزم الرائي قهراً أن يحاول تلمّسه. ومثل ذلك الحواسيب الأولى التي كانت منتشرة في ثقافة "الكافيه نت" في أماكن عدة من دمشق. فتلك الحواسيب من أجل الرؤية، حتى التعامل معها كان يتمّ عن مسافة، قياساً إلى الحواسيب الملساء اليوم التي تعمل أيضاً عن طريق اللمس، وتطوى وتغلق وتقلّص.
هذه السهولة المفرطة، أو النعومة المفرطة، في الأجهزة نفسها، فرضت معها نوعاً ناعماً من التواصل البشريّ، آنياً ولحظياً، وقائماً على المشاركة السريعة التي لا تقدّم معنى أو جدوى. في حين كان التواصل الإنسانيّ، قبل ذلك، تواصلاً بصرياً، حسياً، وصادقاً.
في عالم اليوم، تمارس عملية تنعيم الجميل من خلال إقصاء أي شكل من أشكال الصدمة أو الإصابة، الناتجة عنه. غدا الجميل مستنزفاً في علامات الإعجاب like.
غزو الإنترنت الناعم: ما هو قابل للاستهلاك
على المستوى الفني، يقول الناقد والباحث المغربي، عز الدين بوركة، إن الخفاء يعد ضرورياً للجمال. فالشيء يكون جميلاً في ما يملكه من ثنايا، في احتجابه، واختبائه. ويظلّ الشيء الجميل أصيلاً في ذاته ما دام مختبئاً. المحتجب في الأساس "ملتبس". الجمال إذن مرتبط بالغموض، الذي يهبه إمكانية التأويل، بينما تتكئ الفيديوهات والصور في منصات الإنترنت التواصلية على قيمة العرض، وهي قيمة رأسمالية بحتة. ما يجعل الجسد يتحول إلى سلعة معروضة للمشاهدة: "إنهن خاضعات لقوة رأس المال المعاصر، الذي "يخضع كل شيء إلى قانون العرض القهري"، بينما يكتسب العمل الفني قيمته بالغياب، فهو حاضر حينما يغيب عن النظر، أيّ حينما نستحضره ذهنياً لنؤوله في صمت ذاتي، وبما يفرضه من تأويل ومحاولة الكشف.
ويقابل ذلك اليوم الإفراط الموحش في التقاط صور "السيلفي"، وهو ما يمحو عن الصورة قيمتها الجمالية والتذكارية. إذ "يشير التقاط صور السيلفي إلى الفراغ الداخلي للأنا. الأنا المعاصرة فقيرة للغاية تقبع في أشكال مستقرة من التعبيرات التي قد تؤطرها، والتي من شأنها أن تمنحها هوية قوية". فالذات الخاضعة لسطوة صور "السيلفي" هي ذات قلقة وغير آمنة ومشتتة.
وتلعب المشاهد اليوتيوبية (على منصة يوتيوب) للمسمى "روتين اليومي"، التي تستمد قيمتها من العرض المستمر نموذجاً تجسيداً حيّاً لهذا المعطى، حيث يستحيل استحضارها ذهنياً، فهي لا تنبع عن العلاقة بين المشاهدة والتأويل والخيال، بل من إفراط مهول في النظر، و"الإفراط في النظر فحش"، كما يخبرنا هان في كتابه. فهو يفتقر إلى سلبية ما هو مخفي، وما لا يمكن الوصول إليه، وما هو السريّ القابل للتأويل، مما يجعله يتحول إلى عريّ من أجل العريّ، حيث يعرض الجسد للإغواء الأعمى وللمزيد من المشاهدات، بلا رمزية أو غموض أو لعب (الذي يعدّ أساس كل عمل فني). ويعمل تراكم المشاهدات وتسارع وضع الفيديوهات إلى "مضاعفة رأسمال الانتباه"؛ أيّ جعل المتلقي عاجز عن "إغماض عينيه"، في حين يتعلق العمل الفني بالقطع والفصل.
لقد انتقلنا منذ غزو الإنترنت لكل البيوت، إلى مجتمع شفاف، مجتمع تنحي فيه الحدود بين المجال العام والمجال الخاص الحميمي، أصبح معه من الصعب حجب الأشياء وسترها، فالسّر ليس من "أخفى" فحسب، بل من "أسرّ"؛ أيّ كشف وأخبر أيضاً، وفي عصرنا الحالي، حسب بوركة، يحتمل مصطلح السّر المعنى الثاني فقط. فنغدو جميعاً داخل "المجال العام" الذي "يصبح مساحة للعرض"، حيث يعمل مجتمع الشفافية، بوصفه مجتمعاً للكشف والتعرية، ضد أشكال القناع، ضد المظهر الرمزي. إنه يجعل المجتمع عارياً ويعرض الأعمال الفنية مكشوفة لا غموض فيها؛ إذ لا بد أن يكون قابلاً للاستهلاك.