الإقناع المظلم: كيف يغسلون أدمغتنا؟
يتحدّث المؤلف عن التأثير السامّ لوسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل أو تغيير القناعات للأفراد والجماعات والتي تجعل المستهلكين مثل "كلب بافلوف المكيف" ويسوق أمثلة مختلفة.
مؤلّف هذا الكتاب، "جويل إي. ديميسديل" ـــــ الباحث في معهد الطب النفسي في كاليفورنيا ـــــ من مواليد عام 1947، يبدو في الفصول الأولى وكأنه لم يخرج بعد من تأثير الدعاية المناهضة للشيوعية في القرن الماضي. وقد يُهيّأ لنا أنه يمارس علينا نوعاً من الإقناع المظلم ضدّها.
فالأنظمة الشيوعية المتعاقبة في الاتحاد السوفياتي ومن ثم الصين هي "بؤرة الممارسات السوداء المرتبطة بغسل الأدمغة"، وما يسمّيه المؤلّف الإقناع المظلم، وما طوّرته وكالة الاستخبارات الأميركية و"مشروع مانهاتن للعقل"، لم يكن إلا رداً أو إجراءات استباقية لفداحة الأساليب الشيوعية في غسل الأدمغة والتحوّل الأيديولوجي.
وبدوري، لربّما أمارس عليكم هذا "الإقناع المظلم" بتقييمي الاستباقيّ والإيحاء لكم بقناعات معاكسة قبل أن تُتمّوا قراءة المقال. إذاً، هل ترون أصدقائي القرّاء كم علينا أن نوقظ لدينا ملكات الحصافة ودقّة الملاحظة والحسّ النقدي أثناء قراءة الكتب أو "بدائل الكتب" التي أصبحت للأسف مصادر معرفتنا اليوم وأعني وسائل التواصل الاجتماعي!
بُنيَت الفكرة الأساسية للكتاب على فرضيّة أنّ أبحاث العالم الروسي بافلوف كانت منطلق ما عرف فيما بعد بغسيل الأدمغة، وإن كانت جذور هذه الممارسات قديمة في التاريخ حيث استخدمت تقنيات تعذيب وتحوّل ديني مختلفة لنيل الاعترافات في السجون والكنائس قديماً.
بافلوف الذي كان يجري أبحاثه على الكلاب في وكالة الاستخبارات المركزية في الاتحاد السوفياتي السابق، معهد الطب التجريبي، خلص إلى ركائز أساسية اعتمد عليها لاحقاً كثير من الساسة وقادة المخابرات العسكرية في مختلف أنحاء العالم حول تطوير سلوكيات البشر، وإمكانية أن تلغي ردود الفعل الشرطية ردود الفعل غير الشرطية أو ما يسمّى "الغريزة الطبيعية".
اهتم لينين بتجارب بافلوف وتمنّى أن تساعد في بناء "الإنسان السوفياتي الجديد"، كذلك أولى ستالين فيما بعد أهمية لدراسات بافلوف لكن باتجاه معاكس لنوايا لينين، إذ اعتمد عليها لسحق خصومه بدفعهم عن طريق الإيحاء وتعريضهم لقلّة النوم والجهد الجسدي الشديد للتحوّل في أفكارهم وإدلائهم باعترافات لا أساس لها ودفعهم ليكونوا ضحايا محاكماته الصورية الأشهر في التاريخ والتي ذهب ضحيتها نحو مليون إنسان، ومن أشهر الضحايا ممن دعموه سابقاً وكانوا شركاء في ثورة عام 1917، بوخارين وكامينييف وسواهم.
في الصفحات الآتية، يسرد الكاتب بدايات استخدام المواد المخدّرة لنيل الاعترافات.
بعضها كان من العقاقير التي تستخدم لتخفيف آلام الوضع والولادة للمرأة الحامل حيث اكتشف أحد الأطباء الأميركيّين أنّ المرأة تنام ما يسمّى "نوم الشفق" إذ تنسى الولادة والألم المتصل بها، لكنها تُجيب بدقة عن الأسئلة التي توجّه إليها.
أشهر هذه المواد هي السكوبولامين التي سمّيت "مصل الحقيقة"، فعندما تمّ تجريبها على المرضى النفسيّين تبيّن أن المريض يصبح أكثر انفتاحاً لتلقّي العلاج والتذكّر والثرثرة إلى درجة أن يقول أشياء لم يكن ليقولها من قبل. ثم بدأ استخدامها على السجناء ودوّت الصحف بعقار الحقيقة هذا.
من أشهر المواد التي تمّ تطويرها واستخدامها بعد ذلك الباربيتورات الوريدية، الأماتيل، الميسكالين، أيضاً استخدمت الماريجوانا والأمفيتاميتامينات.
ساهمت هذه المواد في تطوير حالة من اللامسؤولية لدى أسرى الحرب والمساجين إذ يصبح الشخص ثرثاراً وحرّاً في نقل المعلومات (التي كان يعتقد أنه لن يفشي بعضاً منها إلا تحت تأثير المخدّر).
لكن للاعترافات بهذه الطريقة إشكاليّاتها حيث يمكن أن تقود المخدرات لنيل اعترافات من الأبرياء، وتبيّن بالفعل أنّ البعض قد يتذكّر أشياء لم تحدث (ذكريات زائفة)، لذا كان هناك نزاع مستمرّ حول أخلاقيات الاستجواب بالمخدرات.
بعد ذلك يستعرض المؤلف أحداثاً وقصصاً من أماكن مختلفة من العالم، لا يمكننا أن نتفق أنها تندرج جميعها تحت عنوان غسيل الأدمغة، ولا يفيدنا الكاتب كثيراً، فهو يسرد ملابسات الوقائع ويجمع تقارير المحاكم ثم يترك لنا الحكم.
فعلى سبيل المثال، كانت نهاية حرب الكوريتين وحلفائهما بمثابة ضربة موجعة للولايات المتحدة الأميركية، وفي هذه المرحلة ولد مصطلح غسيل الأدمغة من قبل الصحافي "إدوارد هنتر" الذي أطلقه بشكل رئيسي على العملية التي من خلالها أقنع الصينيون 21 جندياً أميركياً بالبقاء في الصين بعد الحرب حيث تحوّلوا للشيوعية، واتهموا في بلادهم بالخيانة وتعرّض ذووهم للضغط الاجتماعي بحجة سوء التربية.
اعتقد هنتر أن الصينيين استخدموا أساليب تعريض الأسرى أو المساجين لعمليات الإعداد الوهمية والضغط الجسدي مثل الحرمان من النوم والوصول إلى حافة الجوع. وفي هذه الحالة وارتكازاً إلى أبحاث بافلوف يمكن للسجين أن يصبح أكثر عرضة للتلقين والاقتناع.
تمّ تلقينهم المسالك الشيوعية وقسّموا إلى مجموعات يمارسون فيها النقد حيث ينتقدون أنفسهم وبعضهم البعض، وبهذا السياق بدأ هؤلاء الأسرى بالاعتراف بشن الحرب الجرثومية والمشاركة في الدعاية المناهضة للحرب. وهكذا.. "رأت أميركا يد الشيوعية الشيطانية منغمسة بالحرب" على حدّ تعبير الكاتب.
ننتقل لرواية حادثة عن تأثير الجماعات الدينية، والتي ذهب ضحيتها 914 شخصاً في أميركا في عملية "انتحار ثوريّ" جماعيّ، قتل فيها الناس أنفسهم وأطفالهم.
قاد المجموعة قسّ أميركي يدعى جيم جونز، يبدو من وصف المؤلف له أن صفاته الشخصية تطرّفت بين قمة الخير ومنتهى الشر، وكان "بليغاً جذّاباً". بشّر بإنجيله الاجتماعي، ودعا الناس إلى عبادته بدلاً من الله "صلّيتم إلى الله السماوي فلم يسمع صلاتكم قطّ.... لم يعطكم طعاماً، لم يمنحكم سريراً.... أنا إلهكم في العمل الاشتراكي، أعطيتكم كلّ هذه الأشياء".
تشارك أتباع القسّ وإيّاه التزامه بكنيسة لا تهيمن فيها الطبقة الاجتماعية والعرق، والتزم المصلّون بالرعاية الاجتماعية لزملائهم، وقدّمت الكنيسة الطعام والملبس والمأوى والاستشارات القانونية، ودعمت كبار السن ودرّست الشباب... وفي إحدى عظاته حذّر جونز أتباعه من التجارب الحكومية في السيطرة على العقل من خلال جراحة الدماغ والعقاقير التي من شأنها أن تحفّز السلبية قائلاً "إنهم يحاولون الحصول على سلالة كاملة من الإنسان الآلي...".
خلال التحقيقات تساءلت هيئة المحلّفين حول ما إذا كانت عضوية المرء في طائفة ما تؤثّر على المسؤولية القانونية له! بعض المحلّفين اعتقدوا أنّ العضوية في طائفة لا ينبغي أن تبرّئ الفرد من اللوم أو الذنب أو المسؤولية. إذاً، هل ساق المؤلف هذه القصص ليقول لنا إنّ الانتماء لتجمّع ما بمثابة أن نكون عرضة لغسل الأدمغة؟ ربما...
يتحدّث الكتاب في جزئه الأخير عن "القرن الحادي والعشرين"، ومستقبل غسيل الأدمغة في علم الأعصاب ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يأتي على ذكر الكثير من التجارب والأبحاث الطبية على الدماغ والذاكرة وهي شيّقة جداً لهواة البيولوجيا العصبية.
ثمّ يتحدّث عن التأثير السامّ لوسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل أو تغيير القناعات للأفراد والجماعات والتي تجعل المستهلكين مثل "كلب بافلوف المكيف" ويسوق أمثلة مختلفة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في "بثّ الدعاية السوداء"، وهي بمعظمها عن "التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية، والجهود المبذولة من قبل روسيا لتقويض الثقة في المؤسسات الديمقراطية الأميركية وعمليات التصويت". إضافةً إلى التنمّر عبر الإنترنت ودفع المراهقين بعضهم بعضاً للانتحار.
اعتمد الكاتب في معالجته لموضوع غسيل الأدمغة أمثلة من جميع أنحاء العالم، الولايات المتحدة وكندا وكوريا والصين وكمبوديا وروسيا وهنغاريا وألمانيا. وكانت في معظمها تجارب تحت إشراف سريّ أو معلن من قبل وكالات الاستخبارات المركزية في تلك البلدان. والمشترك بينها جميعاً هو فعّالية تقييد النوم وإجهاد الجسد وضعف المدخلات الحسية في تدنّي مستوى إدراك المريض، الأمر الذي يجعله أكثر مرونة تجاه الإيحاء والتحوّل في أفكاره. وهذا يجعلنا نتساءل عن كمّ التحوّلات القاتمة التي تنتظر الناس في بلدان الفقر والحروب والمجاعات، وكم من الإمكانات العقلية تتقوّض في ظلّ طغيان التأثير غير المحمود غالباً لوسائل التواصل الاجتماعي. وهل تتيقّظ الدول وتتعاون لتنفيذ تحوّلات إيجابية أم نستمرّ في التقدّم خلفاً على مستوى الوعي البشري...؟!