الأنوثة والأمومة في رواية "ميثاق النساء"
أظهرت الكاتبة الجوانب النبيلة في مجتمعها كالشهامة والمروءة والكرم وبيّنت حقوقها كإنسانة ـ وهذا الأمر يمكن إسقاطه على غالبية التركيبات الاجتماعية كفسيفساء ملوّنة تزيّن مجتمعات بلاد الشام.
استطاعت حنين الصايغ في روايتها الأولى "ميثاق النساء" الصادرة عن دار الآداب لعام 2023 أن ترفع الغطاء عن خفايا المجتمع التقليدي وتفكّك منظومته الدينية والفكرية، موجّهة الأسئلة تلو الأسئلة لواقع ريفيّ تحكمه عادات وتقاليد وفهم معيّن ومحدود للدين والحياة، وأن تكشف مفاهيم سلطة بطريركية ترى واجبها الحفاظ على ثبات تلك الأعراف وإحكام السيطرة على العائلة والمجتمع، من خلال صورة المجتمع الذي جسّدته وصوّرته، ففي حالات العجز يلوذ الإنسان للتمسّك بأخلاقيات المجتمع السائدة والانتماء للحاضنة الدينية التي تحظى بإجماع المحيط ورعايته، ويتبدّى كلّ ميل أو إشارة للخروج عن هذا الإجماع أشبه بنقض النواميس والأعراف السائدة، إذ سرعان ما يصنّف فاعلها في عداد المارقين وتجري عليه سائر التصنيفات المغالية في وصمه بصفات بعيدة عن الحقيقة.
تشرح الصايغ أن أعراف الطائفة سجن بعاداتها وانغلاقها وأحكامها القاسية على النساء تحديداً، والعرف الذي يرتفع ويصبح قانوناً يأتمر الجميع به مشكّلاً قيداً شديد الوطأة في تعارضه الواضح بين فكرة الاختيار للفرد وثقل الخروج من البيئة مطروداً، وبين إلغاء كيانه وروحه والإدراج مع القطيع السائد بحيطان عالية ترتفع وترتفع وتشكّل سداً ومتراساً أمام حرية وخيارات الفرد.
صوت الراوي هو الصوت الذي اختارته لبطلتها بحيث ظهر العمل كنوع سرديّ يشابه السيرة الذاتية في البوح والحوار الداخلي مع الذات، لتظهر وتكشف من خلال المونولوج الداخلي أولاً وحوارها مع الآخرين ثانياً تفاصيل وأفكار مجتمعها وصراعها معه، حيث تكون المرأة هي الحلقة الأضعف في تلك التركيبة الاجتماعية التي يحمل عليها كلّ فرد رجولته وشرف وعرضه في تورية لفعل الهيمنة والمصادرة، وخاصة عندما تكون المرأة في أحسن حالاتها قطعة أثاث جميلة في منزل زوجها، وتقوم بما يرغب لتزيين وتلميع حياته.
تسلّط الصايغ عدسة السرد عبر نماذج نسائية تفاوت مستوى وعيها ونسبة قهرها والفرص المتاحة لكل منها عبر الشخصية المركزية "أمل"، والشخصيات الثانوية التي تتحرّك في مدارها من الجدّة إلى العمة للأم والأخت ولكلّ منهن قصتها ومعاناتها.
فالشخصية المحورية "أمل" خاضت معارك صامتة داخل نفسها وعبر عقد صفقات ظالمة لها عقدتها مع المحيط كمرحلة انتقالية، بدءاً من خروجها من سيطرة الأب وقبولها بزواج يوافق على إكمال تعليمها حتى حصولها على الثانوية وبعدها التعليم الأكاديمي بالجامعة الأميركية، وفي كل مرحلة مناورات وحسابات أكلت من عمرها ووقتها وانشطارها النفسي، فالرجل يرمّم نقصه الداخلي بإعلاء وصايته على زوجته أو النساء اللواتي يخصونه، لأنّ الإنسان الحرّ لا يقبل بعبودية غيره وهذه متلازمة هامة تضع يدها عليها.
"أمل" اشتغلت على عقد النقص لديها، فإحساسها بالدونية والضعة وأنها كائن لا يستحقّ وما إلى ذلك من تداعيات في تقعيد إنسانيتها وميلها للاختباء والمساومة وعقد الصفقات مع الوسط الخارجي مناورة منها لتصل إلى أهدافها الأساسية، إلى أن قوي عودها واستطاعت التحرّر من قوقعة الارتباط التقليدي، وخاصة عند حصولها على عمل يناسب إمكانياتها العلمية وتطلّعاتها الثقافية لتكون وفق تعبيرها وإحساسها "هي الفراشة داخل الشرنقة"، وما محاولاتها الخروج إلا تمارين ساهمت في تقوية أجنحتها حتى استطاعت الطيران عالياً.
قضية حسّاسة تثيرها "حنين الصايغ" بجرأة كبيرة وهي علاقة المرأة بالأمومة والأنوثة، الأمومة التعبير المقدّس الذي يجتهد المجتمع على تحميل أطيافه للمرأة من تضحية وتفانٍ وخدمة لا متناهية، وفي أعطافه تسير كل حجج التسليم والمسايرة وكبت المشاعر والصبر وإلغاء الذات. حربة ذات حدين: الإحساس العاطفي العارم تجاه قطعة منها؛ تجاه كيان أتت به إلى الحياة ولكنه يشدّها إلى الأرض، وبين إحساسها بوجودها الشخصي وحياتها الخاصة حيث عبّرت أن كل حمل أشبه بالثقل الذي يشد الأنثى إلى الأرض، حيث تلغي الأمومة أنوثة المرأة، فالنساء بعد الأمومة يصبحن أمهات فقط.
شخصية الأخت "نرمين" التي كانت نموذجاً مبهجاً للتمرّد وفرح الحياة والرغبة في اكتناه المجهول، والتي استطاعت الارتباط بزوج ضمن الطائفة يأخذها إلى الغرب وتكسب عالماً جديداً يضمن حريتها وانطلاقها من دون جهود شخصية منها، وتلاقي كل الدعم من زوج متحرّر كان يردّد لها "سأكون الريح تحت جناحك".
ولكن لعل رواسب المجتمع والبيئة تؤدّي دوراً مهماً في تشويه الوعي، وخاصة عند العجز عن مواجهتها بعقل مفتوح، هذا ما كان من شأن نرمين التي كانت في قمة حبها للحياة وإيمانها بذاتها، ولكن الفراغ الروحي الذي عاشته، وانعدام مشروع خاص بها قادها إلى الارتداد إلى المربّع الأول وهو الالتزام الطائفي وطقوسه وقوانينه، الأمر الذي لم يخلق لديها إلا المزيد من الاضطراب الداخلي والتعب النفسي.
هذه الشخصية وبسبب فقر العالم الروحي في الغرب وعدم انخراطها في عمل أو قضية ما لبثت أن انزلقت إلى مفاهيم رجعية غلّفت خواءها النفسي والفراغ الذي تعيشه، حيث رجعت لرفض كل المحيط الجديد والانكفاء على عالمها الضيّق الذي ولدت فيه، إذ عبّرت الصايغ عن حالات الانكفاء تلك "إننا نساعد مخاوفنا على التحقّق بالتركيز عليها" لا بالتركيز على أساليب الخروج منها والتغلّب عليها.
وعلى الرغم من أنّ شخصية الأم التي ربّت وكبّرت البنات، وكانت امرأة مكافحة ومقهورة عجنت قهرها مع خبزها، وتغاضت وكبرت على مشاكلها الخاصة لتفهم وتحس ببناتها ومكابداتهن، حيث المعاناة جوهر الحياة وسرها الأكثر قداسة تقول "رأيت أمّي تطعم روحها للأمومة على مرّ السنوات، ولكن الأمومة لم تكتفِ بروحها، بل نالت من صحّتها أيضاً، ومن بريق عينيها، ومن حبّها للحياة".
لم يشكّل صوتها في عرض معاناة ومشاكل المرأة في ظل التركيبة الاجتماعية التي تتناولها تحريضاً ضد الدين أو الطائفة، وإنما على العكس أظهرت الجوانب النبيلة في مجتمعها كالشهامة والمروءة والكرم وبيّنت حقوقها كإنسانةـ وهذا الأمر يمكن إسقاطه على غالبية التركيبات الاجتماعية كفسيفساء ملوّنة تزيّن مجتمعات بلاد الشام، ولكنّ الفكر الذكوري حاول دمج العرف والعادات والتقاليد والدين في بوتقة واحدة كي تزداد جبهة الممنوعات أمام عالم المرأة التي تحاول القفز فوقها وتجاوزها.
ربما كان تحديد وتسمية الطائفة باسمها ورغم الجرأة في تقديم صورة عن طقوسها وأفكارها وثقافتها، ولكن هذا الوضوح يحد من إمكانية فهمها وإسقاطها على عقليات طوائف أخرى تشابهها، إذا لم نقل كلّها، كونها تنتهج المسار ذاته بالنسبة لقضية النساء، فقضية المرأة واحدة والأعراف والتقاليد التي تكبّل وجودها واحدة كذلك.
أمل ونرمين وأم أمل والعمة والجدّة نماذج مختلفة لشرائح مختلفة من النساء يجمعهنّ الألم، ولعل حنين الصايغ تريد في نصها إيصال فكرة أن الوجع هو الميثاق الجامع للنساء، وهو الأمر الذي يجب أن يكون منظورهن وعقيدتهن التي يجتمعن عليها، لا ما اتفقت عليه الأعراف البالية والتقاليد المتخلّفة لمجتمع أو بلد. وأن ترى العالم من منظور حقوقها وحريتها لأن الألم هو الميثاق المقدّس للنساء الذي صدرت فيه العمل في العنوان والمعنى والمتن، ميثاق للحرية التي لا تأتي إلا بعد صراع مضنٍ مع الذات والمجتمع والتقاليد.