الأمن ومزاولة المستحيل
الأمن هو مسألة نفسية وإدراكية أو رمزية في المقام الأول، ويرتبط بكل ما يتصل بوجود الإنسان، ويثير استجابات ومقاربات متفاوتة.
صدر أخيراً كتاب "مزاولة المستحيل! أمن الفرد والدولة والعالم، المفاهيم، الأبعاد، التحولات"، للباحث والاستاذ الجامعي السوري الدكتور عقيل سعيد محفوض، عن دار الفرقد للنشر والتوزيع في دمشق-بيروت-الشارقة، وجاء الكتاب في 407 صفحة.
يتناول الكتاب مسألة الأمن في العالم اليوم، أو ما يُعرف بـ"معضلة الأمن" في عالم ما بعد الحداثة، عالم السيولة الفائقة في المخاطر والتحديات (والفرص!) التي توجه الإنسان والمجتمعات والدول، بل تواجه العالم ككل.
الأمن مفهوم "إنسي"، بمعنى أن مقولته المركزية هي "الإنسان"، وخاصة في هدف "الحفاظ على الذات"، واحتواء مصادر التهديد، تحت أي عنوان كانت؛ إلا أن تاريخ الإنسان يُظهر تعرُّض المفهوم للقولبة والتنميط بكيفية أعطت القوامة أو الأولوية للسياسة والدولة أو الجماعة والأمة على حساب معناه ومقتضاه الأصلي وهو "الإنسان". وفي بعض الأحيان أصبح الأمن ذريعة وغطاء للظلم والتسلط والفقر والقهر الذي يطال الإنسان في كل زمان ومكان تقريباً.
والأمن هو مسألة نفسية وإدراكية أو رمزية في المقام الأول، ويرتبط بكل ما يتصل بوجود الإنسان، ويثير استجابات ومقاربات متفاوتة، سواء نظرنا إليه من منظور علوم النفس أو الاجتماع أو الأنثروبولوجيا أو من منظور السياسات والعسكر والقوة وغيرها. وجاءت ثورة المعلومات أو ثورة الشبكات والتدفقات لتضع العالم أمام تحدّيات "غير مسبوقة"، سمتها الرئيسة هي "اللا يقين"، ليس تجاه اللحظة الراهنة فحسب، وإنما تجاه المستقبل أيضاً.
وما أن يكون الحديث عن "الأمن" في عالم "ما بعد"، بل عالم "ما بعد بعد" حتى يبرز حجم التحدي أمام الإنسان والدولة والعالم، إذ كيف يمكن تحديد ما يمثل مصدر تهديد ــ فرصة فيما لم يتحدد أو يتعين بعد؟
وإذا كان الخطر/ التهديد مُلازماً للوجود البشري، فإن الخطوة الأولى لمواجهته هي "المخاطرة"، بمعنى التحفز والاستجابة النشطة له، ولو انطوى ذلك على قدرٍ من المجازفة، على ما يقول السوسيولوجي الألماني أولريش بيك.
يثير القلقُ المتزايد والاغتراب والشعور بفقدان المعنى والفراغ وتزايد الكوارث البيئية والأمراض، أسئلة إشكالية حول التهديد الذي يحيق بالإنسان والجماعات والدول في العالم اليوم، وإذا كانت "المخاطرة" هي أحد الاستجابات القائمة أو المحتملة، إلا أنها لا تمثل الاستجابة الأكثر قبولاً واستقراراً. وثمة بروزٌ متزايد للأبعاد الميتافيزيقية والميثية في التعاطي مع المخاوف والمخاطر في العالم اليوم، فردياً وجمعياً، وخاصةً فيما يمكن أن يؤول إليه حالُ الإنسان اليوم قبل الغد.
يتناول الكتاب إشكالية الأمن في عالم "الحداثة الفائقة"، بقدر متفاوت من التركيز على الأبعاد المعرفية والسياسات والأحوال الراهنة، مع إيراد معطيات وأمثلة وإحالات لظواهر مختلفة من الأمن – اللا أمن حول العالم.
ويتفاوت تركيز الكتاب على مفردات الأمن، فتبدو بعض المفردات والموضوعات أكثر حضوراً من غيرها، ولا بد أن الأمر بحاجة لدراسات معمقة في هذا الباب، وهذا أمر مطروح للباحثين المتخصصين والمهتمين، وخاصة من منظور السياسات العامة ودراسات الأمن ودراسات الإنسان، وبالقطع من منظور علم النفس وعلم النفس الاجتماعي والسياسي، ودراسات المستقبل.. إلخ
ويتناول الكتاب مفهومَ الأمن وأبعاده الرئيسة كما تتجلى في عصر الحداثة الفائقة، بمختلف تفاعلاتها وتداخلاتها، والتحولات التي طرأت على مفاهيم الأمن وخاصة منذ نهاية الحرب الباردة، وبالأخص منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، وتأثير ثورة المعلومات والثورة التقنية والمعرفية التي طالت مفاهيم: المكان أو الجغرافيا، والزمان، والاتصال، والتكوين الاجتماعي والسكاني، ومفهوم الدولة والمجتمع، ومفاهيم الهوية والانتماء، والتفاعلات الاقتصادية، والثورة في الشؤون العسكرية، ومنطق الحروب والمواجهات، والتأثيرات في فضاء القيم والثقافات.
ينطلق الكتاب من أن مفهومَ الأمن يتغير بصورة مضطردة من حيث "تمركزه" أو "براديغمه" بمعنى "نموذجه الإرشادي" أو "المعرفي" من الدولة إلى الشبكة، أو بتعبير آخر من المنظور التقليدي المتمركز حول الدولة، إلى المنظور ما بعد حداثي "المتمركز" حول الشبكة، و"المُنفلت" من عقال الدولة والنظم السياسية، ومن عقال السياسة نفسها، إلى مجتمع الشبكات والتدفقات العالمية العابرة للهويات، والانتماءات، والحدود، والجغرافيات.
ولو أن هذا التغيّر لم يؤدِ إلى "الانفصال" عن الدولة بالكلية، إذ لا تزال ثمة "تمفصلات" في قطاع الأمن ومفاهيمه، بين الخروج عن الدولة والعمل بموازاتها، وأحياناً بالضد منها، وبين الارتباط بها والانشداد إلى معناها وأولوياتها، وخاصة في الخطط والسياسات الكبرى وفي التقانات العالية الحساسية، والخطورة، والتأثير على مستقبل الإنسان. وهذه إشكالية تتطلب الكثير من التقصي والتدقيق.
وهناك إلى ذلك جهود نظرية وعملية أكثر "استقلالية" عن المؤسسات الأمنية، ومن ذلك جهود منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات: الحد من انتشار الأمراض والأوبئة، ونزع السلاح، والحد من انتشار السلاح النووي، وخطر الألغام، ومحاربة أو مناهضة الإتجار بالبشر، وضبط النزاعات، والتدخل الإنساني، ومراقبة تصدير أو استخدام أدوات التعذيب، وصولاً إلى الحفاظ على التنوع البيئي والحيوي، والتنوع الثقافي، وحقوق الجماعات الإثنية والدينية واللغوية وغيرها.
وتأتي الجهود في إطار الحفاظ على عالم أكثر قدرة على الإيفاء بمتطلبات الحياة، ولو أن كل هذا، أو جوانب منه غير مُحصَّن من التوظيف الإيديولوجي والذرائعي من قبل فواعل السياسة في عالم اليوم.
يتعرض مفهوم الأمن لاستخدام "متعسف" أحياناً، إذ من غير الممكن وضع ضوابط للتحقق من استخدامه. وينطوي التعسف ــ المشار إليه ــ على مبالغة في تحقيق متطلبات الأمن، داخلياً وخارجياً. وإذا ما وقع الفاعلُ تحت تأثير الشعور بالاستهداف أو الفرق بين فهم التهديد – وفهم الاستجابة، فإن من المرجح أن يعاني من حضور أو تأثير زائد لهواجس الأمن، وهذا ما يحدث للعالم كله تقريباً.
بنية الكتاب
يتألف الكتاب من مقدمة، وأربعة عشر فصلاً، على النحو الآتي: الفصل الأول في الرؤية والمقاربة، ويتألف من خمسة محاور: أولاً في مقاربة الأمن، وثانياً الأسئلة والأدوات المنهجية، وثالثاً التفكيك، ورابعاً الشبكة، وخامساً "نموذج إرشادي" جديد. والفصل الثاني في معاني الأمن، ويتألف من محورين: أولاً في المعاني، وثانياً تغيّر أو انتقال محرق الأمن، ويتضمن: في الردع، وفي أن المفهوم تخومي، وفي أن المفهوم إجرائي.
وأما الفصل الثالث الأمن من الأسطورة إلى "الحداثة الفائقة"، فيتألف من تسعة محاور: أولاً جنيالوجيا الأمن، وثانياً الأساطير، الأنثروبولوجيا، الحداثة، وثالثاً الحداثة الفائقة، ورابعاً عالم المخاطر، وخامساً أي قطيعة في مفهوم الأمن؟ وسادساً أي تمركز للأمن؟ وسابعاً الحربان العالميتان، وثامناً صدمة نهاية الحرب الباردة، وتاسعاً صدمة 11/9.
الفصل الرابع، الأمن من منظور الحداثة الفائقة مقاربة معرفية تفكيكية، ويتألف من تسعة محاور: أولاً مُؤسِّس، وثانياً شامل أو كلي، وثالثاً كوني/كوسموبوليتيكي، ورابعاً لا نهائي أو دائم، وخامساً لا متوقع، وسادساً نمطي/تكراري، وسابعاً لا يقيني، وثامناً خلاسي/ماكر!، وتاسعاً يوتوبي.
الفصل الخامس، البعد الجغرافي، ويتألف من أربعة محاور: أولاً الجغرافيا المتخيلة، ويتضمن المجال، وجغرافيا الجهاد والميعاد؛ وثانياً المقاربة الجغرافية وفيه الموقع، والمساحة والحجم، والشكل، وثالثاً الحدود، ويتضمن حدوداً غير متطابقة، وضبطاً عالمياً للحدود، وحدود الصدام، ورابعاً "انتقام الجغرافيا" ويتضمن الإجهاد أو الفشل الجغرافي، والشيفرة الجغرافية، والحتمية الجغرافية.
والفصل السادس، البعد الاجتماعي، ويتألف من أربعة محاور هي: أولاً البناء الاجتماعي، وثانياً سياسات الهوية، وثالثاً العلاقة بين المجتمع والدولة، ورابعاً التكوينات الشبكية.
الفصل السابع، البعد الثقافي، ويتألف من عشرة محاور: أولاً المقاربة الثقافية، وثانياً الثقافة بوصفها مسألة أمن، وثالثاً: التغلغل والاختراق، ورابعاً الهيمنة، وخامساً مخاوف عميقة، وسادساً حيث يسقط الظل، وسابعاً بيوــ ثقافي (البيولوجيا الثقافية)، وثامناً: رمزي/قيمي، ويتضمن الإقصاء الرمزي، والدولة الرمزية، والعنف الرمزي، وتاسعاً: السرديات والأساطير، ويتضمن لعبة الرموز، واستبطان، وعاشراً الفعل الرمزي ويتضمن المشهدي ــ الفائق، ونمط الحياة.
يتناول الفصل الثامن البعد الاقتصادي، ويتألف من تسعة محاور هي: أولاً البناء الاقتصادي، وثانياً المخاطر الاقتصادية، وثالثاً التفاعلات الاقتصادية، ورابعاً السياسات الاقتصادية وتتضمن التنمية والديمقراطية، والاضطرابات والثورات، وخامساً سؤال الأمن الاقتصادي، وسادساً الإجهاد الاقتصادي ويتضمن الإنفاق على السلاح، وأسعار النفط، والريوع السياسية للموارد، والريوع المادية للسياسات، وسابعاً تغير ما هو "أمني" في الاقتصاد، وثامناً "المرض الهولندي"، وتاسعاً اقتصاديات الهجرة الدولية.
يتناول الفصل التاسع البعد العسكري، ويتألف الفصل من ستة محاور: أولاً لماذا بناء قدرات عسكرية؟ وثانياً البناء العسكري: الإمكانات والقوة، وثالثاً التفاعلات العسكرية والأمنية، ورابعاً العلاقات المدنية ــ العسكرية، وخامساً أي جيش لأي دولة؟ وسادساً قوة الدولة.
وأما الفصل العاشر فيتناول البعد السياسي، ويتألف من أربعة محاور: أولاً التمركز حول الدولة، ويتضمن الفروق بين الدول، وحول طبيعة الدولة، وثانياً الدولة الفاشلة، وثالثاً النظام السياسي ويتضمن الإصلاح السياسي والأمن، والنظم السياسية والأمن، ورابعاً "هابيتوس" الأمن.
يتناول الفصل الحادي عشر التمركز حول "الغرب" و"العقل" و"الدولة"، ويتألف من سبعة محاور: أولاً الأمن والمركزية الغربية، وثانياً التمركز حول العقل، وثالثاً مركزية كلاوزفيتز أو فوكو ضد كلاوزفيتز، ورابعاً التمركز حول الدولة، وخامساً التمركز حول "التهديد الداخلي ــ الخارجي"، وسادساً التمركز حول النظام السياسي، وسابعاً التمركز حول المؤسسة العسكرية.
يدور الفصل الثاني عشر حول الأمن من الواقع إلى ما فوق الواقع، ويتألف من سبعة محاور: أولاً الواقعي والافتراضي، وثانياً الشبكات والتدفقات، والفعل من دون فاعل، وثالثاً الأمن البشري، ورابعاً المنعة ودرء المخاطر، وخامساً المخاطرة ــ أولريش بيك، ويتضمن المخاطرة بوصفها فرصة، وخصخصة الأمن، والتكنولوجي، الشبكي، الاجتماعي، وسادساً الهلع الباردة – بول فيريليو، ويتضمن وجها جانوس، وانهيار الدولة ونهوض الشبكة، والقوة الناعمة و"الأمن الناعم"، و"الحرب الهجينة"، وسابعاً "الحرب المحضة" وأمن ما فوق الواقع. بعد ذلك الإشارات والتنبيهات، وأخيراً الخاتمة.
خلاصة الكتاب
على الرغم من أن قطاع الأمن لديه مرونة في استخدام أحدث تكنولوجيات ما بعد الحداثة، وما بعد التقنية، أي التقنية الفائقة، إلا أن مداركه لا تتسم بمرونة مماثلة، ويبدو قطاع الأمن، حداثياً أو ما بعد حداثي لجهة الأدوات، ومحافظاً لجهة الأفكار ونظم القيم وتقصي ما يمثل تهديداً – فرصةً.
وتمثّل التدفقات والشبكات ومجتمعات وعوالم المخاطرة، مع قدر متزايد من الغموض واللا يقين تجاه المستقبل، بل تجاه اللحظة الراهنة، أحد عوامل تفكيك البنى التقليدية للأمن، ذلك أن منظور الدولة نفسه، ووظائف النظم السياسية، والمؤسسات العسكرية والأمنية، هو في تغير مستمر، ويواجه سيولة كبيرة نسبياً في المؤشرات الدالة على تجاوزه في الفكر والسلوك من قبل فواعل جدد للسياسة في عالم اليوم، بدءاً من الفرد إلى مؤسسات وشبكات المجتمع المدني والشبكات العابرة للدولة، والهويات الهجينة، والانتماءات والولاءات والعصبيات المركبة والمتداخلة وربما المتناقضة.
ومع ذلك فإن الحديث عن التغيّر في الوزن النسبي لدور الدولة أو الوحدة الدولية في مجال الأمن في مقابل زيادة الوزن النسبي لدور العوامل والفواعل والتدفقات الشبكية، هو على الرغم من تواتره ووجاهته، إلا أنه لا يعكس صورة دقيقة عن مسارات الأمور، ويمكن القول إن هذا الحديث أو الرأي محق فيما يُثبِت، غير محق فيما ينفي، بمعنى أنه محقٌّ في أن التطورات الشبكية غيرت كثيراً من دور الدولة، ولكنه غير محق فيما ينفي عن الدولة وفي السكوت عن دورها الحيوي غير القابل للنقض حتى اليوم.
إذ يزداد دور الوحدة الدولية نفسها في سياسات الضبط والتحكم والتعقب والمتابعة والتجسس، ما يمكن أن نسميه بــ الأمن العميق (Deep Security)، وذلك نتيجة للثورة في الشؤون الأمنية والعسكرية، والثورة الفائقة في التطبيقات الجينية والوراثية والكيميائية.. إلخ.
يمكن الاستناد هنا إلى فكرة لدى هيغل مفادها أن الممكنات دوماً أغزر وأخصب وأغنى من الواقع، وأن ممكنات التهديد–الفرص أكبر وأغنى مما هي في الواقع، وممكنات الأمن أغنى من تطبيقاته وتقنياته وخبراته. وإذا أخذنا بالاعتبار فكرة المخاطرة أو المجازفة، بمعنى أن "المخاطرة" هي الطريق الوحيد لاحتواء الخطر أو التهديد، على ما يقول أولريش بك، وربما تعظيم الفرصة، أمكن القول بأن الأمن مفتوح على عوالم لا متناهية ولا متعينة من التهديد – الفرصة.
إن القعود عن مواجهة اللحظة، حتى مع عدم اليقين تجاهها، هو نوع من الخمول والافتقار لروح العمل والإنجاز. تمثّل الإرادة، الفردية والجمعية، أحد أبرز عوامل وفواعل الأمن، وهذا يفتح الباب على أنماط متفاوتة من الاستجابة لما يعد تهديداً – فرصةً، وأنماط متفاوتة من النجاح – الفشل، ومن ثم أنماط متفاوتة من القوة – الضعف لدى مختلف فواعل السياسة العالمية اليوم.
وهذا يتطلب المزيد من التدقيق والتفكر في الاستجابة الموائمة، والمنسجمة مع طبيعة الحدث العالمي اليوم، من قبيل "إدارة المخاطر" أو "حوكمة الأمن" الذي ينطلق من نموذج إرشادي وأجندة عالمية حول "أمن الإنسان". ولا يمثل ذلك إيديولوجيا أو يوتوبيا جديدة، بقدر ما يمثل ضرورة في نظم القيم والأولويات في عالم اليوم.
الأمن هو من المسائل الأنطولوجية الكبرى، لم يمكن تجاوزها أو الإجابة التامة عن شواغلها وأسئلتها، وله قدرة على توليد المعنى والقوة بكيفية غير مسبوقة، وهو حيز أو فضاء خلافيٌ إلى أبعد الحدود، وما يمثل أمناً أو فرصة لطرف، هو في الوقت نفسه "لا أمن" أو تهديد لطرف آخر.
حاول الكتاب تناول مفهوم الأمن في قراءة معرفية مركبة، وتوسلت أدوات مناهج ومقاربات بحثية ومفاهيمية متعددة، تمفصلت جميعها حول مفهوم "التفكيك"، ولو وضعنا كلمة "أمن" أمام كلمة "تقنية" كما يفعل هايدغر، لتبين أن العالم هو أمن، وأن التقنية التي تجتاح العالم وتبتلعه (0-1) تعيد إنتاجه مرة بعد أخرى.
كيف يمكن التوصل إلى إطار معياري أو براديغم أو ابستيمية لتحديد ما يمثل أمناً؟ والأسلوب الأفضل لاحتواء مصادر التهديد، والتقاط ما يمثل فرصة، أو تحويل التهديد إلى فرصة؟ على الرغم من أن مداخل التحليل والمقاربات والنظريات تتمركز حول الغرب والدولة والسياسة..إلخ وأن ذلك يهمل التراث والخبرات والمدارك "غير الغربية"، إلا أن تحولات ما بعد الحداثة وتدفقات المجتمع الشبكي العالمي تفتح المجال أمام قراءات متعددة ومنفتحة وتداولية بلا حدود تقريباً.
ويبدو التفكير بالأمن مسألة في غاية الإلحاح والتعقيد، وثمة حديث متزايد عن "عالم الكوارث" و"المخاطرة" و"الأزمات".. إلخ ليس بالمعنى التقليدي أو الحداثي المشار إليه فحسب، وإنما بالمعنى "ما بعد الحداثي" المنبثق عن الثورة التقانية والتكنولوجية والبيئية والقيمية والعسكرية (وغيرها) أيضاً. ويزيد على ذلك المخاوف (قل المخاطر) ليس من تهديد الحروب والأوبئة والدمار وقتل الإنسان (أفراد وجماعات) فحسب، وإنما من التأثير المحتمل على طبيعة وجود الإنسان بيولوجياً وقيمياً أيضاً.
التحدي الرئيس هنا هو أن مدارك الأمن لا تستجيب للتغيرات الهائلة في العالم، ومثلما أن العالم يشهد ثورة بل "ثورات" متتالية ومتسارعة وعميقة في التكنولوجيا والأفكار ونظم القيم.. إلخ فإن ثمة حاجة لــ "ثورات" مماثلة في مدارك الأمن وسياساته أيضاً، والنظر في مفاهيم الأمن الكوني والإنساني، وأمن الأفراد، والمجتمعات، وأمن المعلومات، والبيئة.. إلخ بما هي قيم جديدة تواكب عالماً جديداً مختلفاً بالكلية تقريباً.
إن الذين يعترضون على تمركز الأمن حول "الغرب" ثقافة وسياسةً، لا يعترضون على انتقال/استيراد أدواته وبرامجه وتقنياته، ويقوم ذلك على فصل قصدي أو فصام إدراكي بين الأمن كرؤية وثقافة، وبين الأمن كتقنية، والواقع أن هذا ما حدث بالنسبة لــ"استيراد" الدولة والنظام السياسي والبنى الدستورية.. إلخ من الغرب إلى العالم.
وثمة في فضاء الأمن فجوات من الضروري تضييقها، ما أمكن، بين "مدارك التهديد" وبين "مصادر التهديد"، وفجوات أخرى بين "التهديد" و"القدرة على احتوائه"، ما يضع فواعل الأمن، من باحثين وصناع سياسات ومتلقين، أمام "عملية تعديل متواصلة" ــ كما يقول باشلار ــ لأدواتهم ومناهجهم ورؤاهم، ويجب أن تتجه جهودهم – كما يقول بورديو – "نحو الحقيقة"، لا أن "تنطلق منها".
الكتاب: مزاولة المستحيل؟ أمن الفرد والدولة والعالم، المفاهيم، الأبعاد، التحولات.
الكاتب: عقيل سعيد محفوض.
الناشر: دار الفرقد للنشر والتوزيع، 407 صفحة.