الأمن والمخاطرة في عصر الحداثة الفائقة بالإشارة إلى أولريش بيك وآلان تورين
أدى قلق المخاطر والتهديد إلى بروز سياسات احتواء عرفت باسم الحروب الوقائية أو الاستباقية.
يمثل القلق والخوف أو التهديد مسائل ملازمة للإنسان والعالم اليوم، إذ لا تمر لحظة لا يقتل فيها إنسانٌ إنساناً، ويقتل فيها كائن كائناً آخر، وحتى الأمراض والأوبئة والفقر والجوع وغيرها هي أشكال من التهديد والخطر بلا نهاية. وهذا ينسحب على الكائنات الحية الأخرى؛ وكذلك الكوارث والزلازل والجفاف والأعاصير، التي تبدو -في جانب منها- كما لو أنها نوع من رد الطبيعة على "تهديد" الإنسان لها أو تدخله فيها.
وإذا كان الناس قد تعرضوا لأشكال عديدة من التهديدات والمخاطر، وكانت لديهم أنماط مختلفة من الاستجابة بقصد تحقيق الأمن، إلا أن العالم اليوم مُعرَّض لنمط خاص من الخطر أو التهديد والذي هو نتيجة لعملية التحديث والثورة العولمية، بكل مخرجاتها وتأثيراتها، التي غيّرت بالفعل أو تدفع نحو تغيير الإنسان والعالم.
أولاً- من فرويد إلى فوكو وجيدنز
كتب فرويد نصاً مهماً حول الاختلال الذي واجه الإنسان بسبب حضارة تزداد تطوراً،[1] فيما يزداد هو (الإنسان) قلقاً وخوفاً على مصيره، لأن الحضارة التي كان يفترض بها أن تزيده أمناً واستقراراً زادته خطراً وتهديداً.[2]
وفعل مفكرون آخرون الشيء نفسه تقريباً، فكتب إريك فروم عن "النزعة التدميرية البشرية"، وهربرت ماركيوز عن "الإنسان ذي البعد الواحد"، وأولريش بيك عن "المجتمع الخطر العالمي" و"مجتمع المخاطرة"، وأمين معلوف عن "اختلال العالم" و"غرق الحضارات"، الخ.
فالمخاطر التي تحدث عنها فرويد في منتصف القرن العشرين، لا تُقارَن بما حدث بالفعل، أنظر مثلاً مدارك التهديد والدمار الذي نشأ جراء قصف أميركا لمدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية، وقد أصبح الإنسان قادراً على تدمير كل شيء.[3]
ولكن ذلك، لا يقارن بما يشهده العالم اليوم، وما يمكن أن يحدث في حال انزلق أحد فواعل صنع القرار من اللاعبين الكبار نحو خيارات حادة ومدمرة، وقد يحدث ذلك نتيجة خطأ في التقدير أو حتى خطأ تقني، حتى في الأمور غير العسكرية. أنظر السجال حول احتمال حدوث "خطأ تقني" أدى إلى خروج أو انفلات فيروس "كوفيد-19" المعروف بـ"كورونا"، من إحدى المختبرات.
وقد أثار الحدث الذري، النووي فيما بعد، مخاوف غير مسبوقة،[4] وعنى ذلك لميشيل فوكو مثلاً أن "لدينا سلطة سيادية قاتلة، بل ولدينا سلطة يمكن أن تقتل الحياة ذاتها".[5] وهذا من "المخاطر ذات العواقب البالغة"، حسب أنتوني جيدنز.[6]
ويبرز حيال ذلك مقولات "السلام" و"الحد من انتشار السلاح" و"احتواء النزاعات" و"إدارة الأزمات"، منذ فترة الحرب الباردة وحتى اليوم، ربما بتأثير المخاوف والقلق المتزايد على الأمن.
ثانياً- حدث كورونا
أما حدث كورونا فقد أثار مخاوف غير مسبوقة، وحَجَرَ العالم، كما لم يحدث في أي لحظة من تاريخه، قائمة طويلة من ضحايا فيروس كورونا، الضحايا/الموتى بالمعنى البيولوجي قد لا تزيد نسبتهم عن 2-5 بالمئة من المصابين بالفيروس؛ لكن الأمور ليست موتاً يمكن أن يصيب عدداً قليلاً أو كبيراً من الناس فحسب، وإنما أضرار كبيرة تطال النظم الرمزية والمعنوية، واتجاهات القيم حول أمن الإنسان، وأنماط التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسة الخ حول العالم أيضاً.
احتل الفيروس موقعه في أجندة العالم، من دون أن يستأذن أحداً، لا أجهزة الأمن والاستخبارات، ولا وزارات الدفاع أو الخارجية، ولا سلطات الحدود أو المعابر. ولا يستطيع مجلسُ الأمن الدولي أن يُصدر قرارَ إدانة بحقه، كما لا تستطيع الولايات المتحدة وضعه على قائمة الإرهاب الخاصة بها، ولا أن تفرض عليه عقوبات!
ثالثاً- تدفق العنف والمخاطر
وهكذا، تبرز في عالم اليوم، "تدفقات" لا نهاية لها تقريباً من المخاطر، مثل المواجهات والحروب والنزاعات، وصراع الجماعات والهويات والثقافات المهددة وجودياً، والأمراض والأوبئة والفقر والمجاعة، والعنف ضد النساء والأطفال والملونين والمستضعفين، والتمزق الاجتماعي، والعنف الفردي، والعنف الجماعي، والانتحار، والاستبداد، و"الهويات القاتلة"،[7] والصراعات الطبقية والإثنية والعرقية والمذهبية، والشعبوية، والجهادية التكفيرية، الخ. هذه المخاطر (ومحاولة الاستجابة لها) تمثل أهم سمات العالم اليوم.[8]
تؤدي مدارك التهديد واللا يقين والاغتراب إلى قابلية تهديد وعنف متزايدة بوصفها استجابة طبيعية لعالم يمثل العنف والمخاطر سمتين بارزتين فيه.[9] ذلك أن "العالم القديم، في الحقيقة، لم يعد هو عالم اليوم. فبفضل العولمة والثورة التكنولوجية الكبيرة في هذا الزمن صارت حياة كل الأمم الآن (على قاعدة) "البقاء للأقوى"، وتجربة تحديات وفرص لم تُجرَّب من قبل، الأمر الذي هزّ أسس القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، وهي قوى "كانت تظن أنها راسخة في هيمنتها وثرائها، والذي فتح لمجتمعات أخرى- أكثر جرأة وأكثر انحيازًا لطليعية التحديث- إمكانية النمو بخطى عملاقة وبلوغ وتجاوز القوى الكبرى القديمة. هذه البانوراما الجديدة تعني، ببساطة، أن عالمنا اليوم أكثر عدالة، أو، إن أردتم، أقل ظلمًا، أقل إقليمية، أقل إقصاء، من عالم الأمس"، بحسب الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا.[10] وهذه نقطة خلافية على أية حال، وفيها كلام كثير.
رابعاً- الأركيولوجي والانثروبولوجي
يمكن القول إن العالم يشهد نمطين عامين حيال المخاطر:
- الأول تمثل بتراجع بعض المخاطر على الصحة ومواجهة الأمراض ومخاطر الطبيعة على الإنسان، وقد حدث ذلك خلال مراحل متتابعة من التطور البشري.
- الثاني تمثل بتصاعد المخاطر على القطاعات نفسها ولكن بكيفية جديدة أو تطورية، لأن أنماط الأمراض ومخاطر الطبيعة في تغيّر مستمر، وثمة أنماط من الكوارث البيئية غير مسبوقة أو هي في تحول مستمر.[11]
وهناك مدارك متزايدة بأن قدرة الإنسان أو العلم على مواجهة تلك الأنماط من المخاطر الفيروسية والبيئية تبدو أقل كفاءة وحيوية، وهذا يفسّر حالة الهلع التي انتابت العالم بسبب انتشار فيروس "كورونا".
تتسم المخاطر ومصادر التهديد بطابع أنثروبولوجي إذ أن لها سِيَر وتحولات. وكان "حدث كورونا" مناسبة لإعادة التفكير في تاريخ الأمراض والأوبئة، والكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وأعاصير الخ وسيرة الإنسان معها أو سيرتها معه. ويمكن الحديث عن "أركيولوجيا الأمن" أو بالأحرى "أركيولوجيا المخاطر"، كون المخاطر أو مصادر التهديد–الفرص تمثل طيات وطبقات في مدارك الإنسان وتفاعلاته معها واستجاباته لها.
أنظر مثلاً تاريخ الحروب، وتاريخ الطب أو لنقل تاريخ الأوبئة والأمراض والكوارث،[12] وحتى تاريخ أزمات الغذاء والمجاعات، الخ. هذا نمط من "التاريخ الجديد" كما قدمه مارك بلوخ وفرنان بروديل وجاك غودي وآخرون،[13] الذي يمكن أن يكشف عن الكيفيات التي واجه بها الإنسان تلك المخاطر.
خامساً- البيو-تكنولوجي
تمثل التطورات الجينية والهندسة الوراثية مصدر تهديد كبير نظراً لتدخلها في المنتجات والأدوية والتقانات والغذاء. صحيح أنها تمثل فرصة كبيرة لتجاوز تحديات كثيرة، إلا أنها تمثل في الوقت نفسه مصدر تهديد كبيراً أيضاً على الإنسان نفسه لجهة الأمراض المتأتية عن التدخل في الجينات أو ما يُعرف بـ"الهندسة الجينية"، وحتى المخاطر على مستقبل الإنسان نفسه مع تزايد القدرة على التأثير والتدخل الدوائي والطبي والوراثي. [14]
وأثار "الاستنساخ" قلقاً كبيراً ليس لجهة التدخل في الأجنة وإمكانية استبعاد استعدادات معينة أو لجهة نوع جنس المواليد، فحسب، وإنما التدخل في الجراحة ونقل وزراعة الأعضاء، أيضاً. ويفتح ذلك الباب "على نوع من ما بعد البشرية" الذي يتم اصطفاؤه على أساس تفوق الشيفرات الجينية؟ وهذا يثير رعباً لا يوصف لدى البشرية.[15]
سادساً- استجابات أكثر خطراً
يبدو أن "عالم المخاطر" وتنامي وعي الإنسان به، يدفعان بالأخير إلى المزيد من الانخراط فيه، وبما يجعله أكثر خطراً، ويزداد الإنفاق على بحوث الطاقة وهندسة الخلائط الكيميائية والمعدنية، والأدوية والمبيدات، وتقانات السلاح النووي والكيميائي والجرثومي، وهندسة الخلايا الجذعية والجينية الخ بكيفية تزيد من التدخل في شروط الحياة والبقاء، وتزيد من قدرة الإنسان على تدمير الحياة.
وكل ذلك أو أكثره، مدفوع بالاعتبارات الاقتصادية والمنافسة،[16] إلى جانب الاعتبارات الأمنية والعسكرية. وبعد ما كان استخدام السلاح النووي محظوراً، يبدو اليوم أكثر قابلية لفكرة استخدام "أنواع تكتيكية" منه، ذلك أن تدمير جزء من البشرية وتأثير استخدام السلاح على الأجزاء الأخرى، بات أمراً أقل مدعاة للاعتراض وربما مقبولاً في عالم اليوم. وهكذا، "تتحول ردود أفعال خبراء الأمن" جراء احتمالات من هذا النوع، من "لا يمكن أن يحدث"، إلى "لا يمكن أن يحدث هنا"، إلى أن يتصادف ويقع.[17]
للخطر – كما يقول أولريش بيك - "نفس القوة المدمرة للحرب"،[18] حيث تواجه النظم الاجتماعية والاقتصادية تحديات متزايدة، بسبب الهجرة أو اللجوء أو بسبب انهيار الثقة بالمؤسسات المالية والشركات وغيرها. وثمة تحديات متزايدة لمجتمعات ودول الرفاه في البلدان المتقدمة "ترفع كلاً من تكاليف الخدمات والطلب عليها"، مثل: تزايد البطالة، وتحديات الهجرة واللجوء، وشيخوخة السكان، وتزايد أعباء الرعاية الصحية الخ.[19]
ويعزز الخوف أو الخطر سياسات الأمن بشكل يزيد من مصادر الخوف والتهديد نفسها، فمدارك التهديد التقليدي أو المعلوماتي أو الفيروسي مثلاً، تزيد من الاعتمادية على أسلحة أكثر تطوراً، بما فيها أسلحة السايبر، والأسلحة البيو-تكنولوجية، وهذا جزء من ديناميات "الحروب الجديدة" أو "الحروب الهجينة" أو "حروب الجيل الخامس" وربما "حروب الجيل السادس".
سابعاً- انكشاف الإنسان وعالمه
تؤثر مدارك ومصادر التهديد على الحريات والخصوصيات، بمعنى أن الخوف يحدد "الإحساس بالحياة، حيث تحتل مسائل الأمن والحرية والمساواة المراكز المتقدمة من حيث الأولويات على مقياس تدرج القيم؛ مما يؤدي إلى تغليظ القوانين وزيادة حدتها، أو إلى نوع من "الشمولية ضد المخاطر".[20]
ويبدو أن سياسات الاستجابة لمدارك التهديد تصب في صالح الشركات والمؤسسات الاقتصادية والعسكرية والإعلامية وشركات الخدمات المتصلة بها، مثل النقل والتأمين والتجارة والتحويلات أو التدفقات المالية الخ.[21]
ويستبطن المواطن مدارك ومخاوف الأمن، بحيث يتلقى برضا وسعادة تشديد إجراءات الأمن، حتى ما يتضمن منها تقييداً لحريته، تحت عنوان "الأمن أولاً". وهكذا تغدو الأبواب مفتوحة على الرقابة اللصيقة بالناس، والتدخل في أدق خصوصياتهم، مثل المسح الضوئي والرقابة على الحياة والاتصالات والتحركات والسجلات الطبية والدوائية والمالية والمصرفية الخ.
وفي العام الذي حدثت فيه هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، كشف الاتحاد الأوروبي عن شبكة عالمية للتجسس باسم "شبكة أشيلون" تشرف عليها الولايات المتحدة، ترصد وتحلل المكالمات الهاتفية والبريد الإلكتروني وكل أشكال البث الفضائي عبر العالم، ومراقبة الشركات وكل أشكال الحركة على الأرض وفي الفضاء.[22]
ثامناً- مخاطر غير مقصودة بذاتها
ثمة مخاطر تتأتى من تطورات غير عدوانية أو غير مقصودة بذاتها، مثل تأثير التكنولوجيا الفائقة، تُغيّر أنماط القيم الاجتماعية وقيم الأسرة والعائلة والولادة، ويتجلى ذلك بنقص-زيادة في الولادات ومن ثم نقص-زيادة في السكان، وفي الحيوية السكانية أو الاجتماعية، والإجهاد–النمو الاقتصادي، وأنماط الاستهلاك، حسب المجتمعات والبلدان والمناطق والشرائح والطبقات الاجتماعية؛ أو تَفَلُّت فيروسات خطيرة من المختبرات وتسببها بأوبئة وأمراض خطيرة، أو حصول خطأ نووي.
تاسعاً - آلان تورين: الاجتماعي والثقافي
يتحدث آلان تورين عن ديناميتين اجتماعيتين تؤثران في مفهوم أمن الإنسان والعالم، هما "أفول الاجتماعي" في سياق، و"قوته" في سياق معاكس، يقول إن "الصورتين اللتين تسترعيان النظر هما: تقهقر التنشئة الاجتماعية، أي أفول الاجتماعي، وتغلغل العنف بألف شكل وشكل في كل مكان، مطيحاً بكل المعايير والقيم "الاجتماعية"، ... (و) تزايد المطالب الثقافية، سواء بشكل طائفي محدث، أو بشكل دعوة إلى ذات فعالة شخصية، والمطالبة بحقوق ثقافية. لقد كنا بالأمس نتحدث عن "فاعلين اجتماعيين" وعن حركات اجتماعية، أما في العالم الذي دخلنا فيه فغالباً ما يقتضي الكلام على ذوات فاعلة شخصية و"حركات ثقافية"".[23]
ذكرنا أن إدراك المخاطر يختلف بين منطقة وأخرى، وبين مجتمع وآخر، وحتى بين شريحة وأخرى، لأن "عالم المخاطر" من منظور الدول والمجتمعات المتقدمة يختلف عنه من منظور الدول والمجتمعات النامية، كما أنه لدى رجال الأعمال وأصحاب الشركات يختلف عنه لدى العمال والمهمشين، ولدى الجماعات المهددة في بقائها، وكذلك الجماعات المناهضة للعولمة، والتدفقات العابرة للحدود، الخ.
عاشراً - قلق المعنى والهوية
تزداد مؤشرات القلق حول الهوية وأنماط القيم الثقافية والرأسمال الرمزي والمعنوي، وخاصة مع بروز أنماط من المدارك والروابط والأيديولوجيات الخطرة،[24] سواء أكانت دينية أو جهوية أو لغوية أو عرقية الخ. كما تتزايد العودة إلى أنماط القيم والمدارك المتأصلة والغيبية والأسطورية والخرافية التي كانت سائدة في عالم ما قبل الحداثة حول الأمن، ذلك أن "الكوزمولوجيا المتعلقة بالأفكار السحرية والمفاهيم القدرية لا تزال قائمة على أنها عادة ما تستمر في البقاء باعتبارها معتقدات خرافية، يعتقد فيها الناس إلى حد ما ويتبعونها على استحياء. وهم يستخدمونها ليدعموا قرارات محسوبة. ولذلك ليس من المستغرب بأية حال أن الناس يستشيرون المنجمين وبخاصة في المراحل الحاسمة من حياتهم".[25]
وهذا يفسّر – مع عوامل أخرى - الصعود المتزايد للحركات "الجهادية" والتنظيمات الأصولية حول العالم، بل وثورة الهويات التي حدثت في النظام العالمي، كما لو أنها محاولة لمواجهة عالم الحداثة المليء بالمخاطر والدمار والحروب والأمراض، وكما لو أن التهديد مرتبط بالتحديث،[26] والأمن مرتبط بالعودة إلى ما قبل الحداثة!
أدى قلق المخاطر والتهديد إلى بروز سياسات احتواء عُرفت باسم الحروب الوقائية أو الاستباقية، وينسحب ذلك على سياسات الاحتواء النشطة والمبادرة. وفي دراسات "عالم المخاطر"، يتم الحديث عن المخاطرة بوصفها رد الفعل النشط لاحتواء المخاطر نفسها، وهذا يتعدى البعد الأمني والعسكري إلى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الخ.
حادي عشر - "المخاطرة"
ولكن المخاطر لا تمثل تهديداً فحسب، إذ أن لها أوجهاً للفرصة، من خلال حث الإنسان على احتوائها وابتداع وسائل وطرق لمواجهتها، وهذه هي فكرة "المخاطرة" التي تحدث عنها مثلاً أولريش بيك،[27] وإلى حد ما أنتوني جيدنز.[28]
و"المخاطرة" -هي بتحديد أولي- نظرية اجتماعية تصف إنتاج وإدارة المخاطر في المجتمعات الحديثة، وفي النظام العالمي. ولا يعني مجتمع المخاطرة أنه مجتمع يزيد في معدلات الخطر بقدر ما يعني أنه مجتمع منظم لمواجهة المخاطر، لأنه مشغول بالمستقبل وبالأمن بشكل متزايد، وهو الذي ولّد فكرة الخطر. أي أنه ولّد فكرة الأمن بكل أطيافها وتجلّياتها.
تُحيل فكرة المخاطرة، وفق بيك، إلى حاجة العالم اليوم، الذي يشهد سيولة مفرطة أو فائقة في مصادر ومدارك التهديد، إلى استجابة لا تقليدية حيال التهديدات والمخاطر، تتطلب نوعاً من "الإقدام" و"المخاطرة" بالخروج على النمط، وابتكار رؤى ومقاربات واستجابات بما أمكن من القوة والشجاعة، من أجل إنقاذ الإنسان وعالمه!
الهوامش
[1] - سيغموند فرويد، قلق في الحضارة، ترجمة: جورج طرابيشي، ط4، (بيروت: دار الطليعة، 1996).
[2] - تزفيتان تودوروف، الأمل والذاكرة: خلاصة القرن العشرين، ترجمة: نرمين العمري، ط1، (الرياض: العبيكان، 2006)، ص 15 وما بعد. وتزفيتان تودوروف الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات، ترجمة: جان جبور، ط1، (أبو ظبي: مشروع كلمة، 2009)، ص 19 وما بعد.
[3] انظر مثلاً: توم فيليبس، البشر: موجز تاريخ الفشل، وكيف أفسدنا كل شيء، ترجمة: يارا برازي، بيروت: الدار العربية للعلوم، 2020.
[4] - إينياسيو رامونيه، حروب القرن الحادي والعشرين،: مخاوف وأخطار جديدة، ترجمة: خليل كلفت، ط1، (القاهرة: دار العالم الثالث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006)، ص 133-134.
[5] - ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة: الزواوي بفورة، ط1، (بيروت: دار الطليعة، 2003)، ص 244.
[6] - أنتوني جيدنز، بعيداً عن اليسار واليمين: مستقبل السياسات الراديكالية، ترجمة: شوقي جلال، ط1، (الكويت: سلسلة عالم المعرفة، العدد 286، تشرين الأول/ أكتوبر، 2002)، ص 266.
[7] - أمين معلوف، الهويات القاتلة: قراءة في الانتماء والعولمة، ترجمة: نبيل محسن، ط1، (دمشق: دار ورد، 1999).
[8] - أولريش بك، مجتمع المخاطر العالمي: بحثاً عن الأمان المفقود، ترجمة: علا عادل وآخرون، ط1، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2013).
[9] - انظر وقارن: جان بودريار وإدغار موران، عنف العالم، ترجمة: عزيز توما، مراجعة: ابراهيم محمود، ط1، (اللاذقية: دار الحوار، 2005).
[10] - ماريو فارغاس يوسا، انهيار الغرب، ترجمة: احمد عبد الله، العربي الجديد، (30 تشرين الثاني/نوفمبر 2016).
[11] - انظر مثلاً: كريستيان بارينتي، مدار الفوضى: تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف، ترجمة: سعد الدين خرفان، ط1، (الكويت: عالم المعرفة العدد 411، نيسان/أبريل، 2014).
[12] انظر مثلاً: شلدون واتس، الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة الامبريالية، ترجمة: أحمد محمود عبد الجواد، مراجعة: عماد صبحي، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، 2010.
[13] - انظر مثلاً: جاك لوغوف، التاريخ الجديد، ترجمة: محمد الطاهر المنصوري، ط1، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007).
[14] انظر مثلاً: فرانسيس فوكوياما، مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية، ط1، (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2006).
[15] - إينياسيو رامونيه، حروب القرن الحادي والعشرين،: مخاوف وأخطار جديدة، مصدر سابق، ص 137.
[16] - انظر وقارن: أنتوني جيدنز، عالم منفلت: كيف تعيد العولمة صياغة حياتنا؟، ط1، (القاهرة: دار ميريت، 2000)، ص 31- 46.
[17] - أنتوني جيدنز، بعيداً عن اليسار واليمين، مصدر سابق، ص 66.
[18] - أولريش بك، مجتمع المخاطر العالمي، مصدر سابق، ص 30.
[19] - بول هيرست وجراهام طومبسون، ما العولمة: الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم، ترجمة: فالح عبد الجبار، ط1، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 273، أيلول/سبتمبر 2001)، ص 242.
[20] - المصدر نفسه، ص 31.
[21] - انظر وقارن، أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي، مصدر سابق، ص 28.
[22] - انظر مثلاً: محمد سبيلا، زمن العولمة: ما وراء الوهم، ط1، (الدار البيضاء: دار توبقال، 2006)، ص 62.
[23] - آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة: جورج سليمان، مراجعة: سميرة ريشا، ط1، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011)، ص 33.
[24] - انظر مثلاً: أوليفييه روا، الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة، ترجمة: صالح الأشمر، ط1، (بيروت: دار الساقي، 2012)؛ وأنتوني جيدنز، عالم منفلت، مصدر سابق، مواضع مختلفة.
[25] - أنتوني جيدنز، عالم منفلت، مصدر سابق، ص 34.
[26] - أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي، مصدر سابق، ص 22.
[27] المصدر نفسه، مواضع مختلفة؛
[28] - أنتوني جيدنز، عالم منفلت، مصدر سابق، ص 31-46.