استعارة معرفية.. هل الأدب تحصين ضد الموت؟
منذ أن بدأ الإنسان التدوين، لم يكفّ عن طرح سؤال الموت والسعي للخلود بطرائق شتى، فكيف يمكن أن يكون الأدب تحصيناً ضد الموت؟
تحاول نظرية الأدب الحديث أن تقف على تعريف واضح للأدب وتصنيفاته في عدد هائل من الكتب الموضوعة في هذا الشأن. ومع ذلك فإنّ سؤالاً واحداً يقوّض البناء ويُرجع إلى اللاطمأنينة، لاطمأنينة 70 مدرسة أدبية ونقدية، أحصاها نبيل راغب في موسوعة النظريات الأدبية، وقد تكون أكثر من ذلك كثيراً.
في الأدب، تفوق أسئلة المعنى أيّ شيء آخر، ويصير الجواب عنها شيئاً لامُشتهى فحسب، بل هو الغاية أبضاً. لا ما هو الأدب، ولا من هو المؤلف، ولا ما غاية الأدب، ولا أسئلة الأدبية عند الشكلانيين الروس وحلقة براغ أو البنيوية وكل ما بعدها، بل سؤال المعرفة. سؤال بسيط مفاده: أين المعرفة في الأدب؟ أو: ما المعرفة في الأدب؟ أو على الأكثر: هل الأدب معرفة؟
هل الأدب معرفة؟
سؤال المعرفة هذا سؤال شائك وخطير، لأنه يضع الأدب في خانة العلم. ومع ذلك فإنّ استخدام مفردة «المعرفة» هنا ليس الغرض منه الإيحاء في تلك المعرفة العلمية أو التجريبية، أو المعرفة بصفتها حقلاً من الفلسفة، بأيّ حال من الأحوال.
إنما المعرفة بصفتها موروثاً ومصدراً جمعياً يتشاركه الكتّاب جميعهم ويغرفون منه، سواء كانت هذه المعرفة في المرويّات الدينية أو الأسطورية والكتب المقدسة، أو في جملة ما تمّت كتابته من أدب وشعر وفلسفة وتاريخ وسياسة وجغرافيا واقتصاد، يمتد ذلك إلى الكتب الرياضية والعلمية البحتة. أي أنها معرفة تبدأ من عند الأسلاف كلهم وتنتهي عند الكاتب. الآن وهنا. ثمة طريقتان لتناول هذه المعرفة هما: إنتاج معارف جديدة من خلالها، أو كشف لغز أو جزء من الوجود وفقاً لقول ميلان كونديرا، أو إعادة تدويرها والدوران في فلكها وصياغتها مرة جديدة.
يعطي ميشيل فوكو كتابه «الكلمات والأشياء» عنواناً فرعياً هو: «أثريات»، وهي كلمة موجودة أيضاً في العنوان الفرعي لكتابه «ولادة العيادة» (الطب السريري بحسب الترجمة العربية)، وكذلك كانت قد ظهرت في مقدمة كتابه «تاريخ الجنون».
يشرح فوكو «أثريات» هذه في حواره مع ريمون بيللور عام 1966 بالقول إن: «ما أردت الإشارة إليه بكلمة «أثريات» ليس فرعاً علمياً، وإنما نطاق بحث هو التالي: المعارف والأفكار الفلسفية والآراء التي تصدر كل يوم، وكذلك المؤسسات، والممارسات التجارية والبوليسية والعادات والأعراف، تحيلنا في كل مجتمع على معرفة ضمنية أو متضمنة خاصة بهذا المجتمع. وهذه المعرفة تختلف اختلافاً عميقاً عن المعارف التي يمكن أن نجدها في الكتب العلمية، وفي النظريات الفلسفية وفي الطروحات الدينية، ولكنها هي التي تتيح في لحظة معينة ظهور نظرية أو رأي أو ممارسة».
يقترب هذا الوصف من المُبتغى هنا عند استخدام كلمة «معرفة» إلى جانب كلمة «أدب». إذ ليس القصد منها إجراء تخمين عن عدد النصوص التي يمكن عدّها أدباً وفكراً معاً مثلما فعلت جاكلين روهيلي: «لا نعرف بالضبط عدد النصوص التي كانت أدباً وفكراً في آن... مع ذلك، يمكن أن تناهز مليون نص منذ الإغريق حتى اليوم». ويمتد الاستخدام هنا ليشمل، كما سلف وسيجيء، الكشف عن أجزاء من الوجود، لا كمبحث فلسفي، بل الوجود الإنساني بصورة عامة.
إذاً، إنّ استخدام «معرفة» هنا ليس إلحاحاً جديداً على قيمة الأدب باعتباره شكلاً من أشكالها، ولا عملاً بقول رينيه ويليك في «نظرية الأدب»: «الشعر جدي ومهم مثل الفلسفة تماماً ويعد معادلاً للحقيقة»، ولا هو أيضاً عمل بالقول المتطرف الداعي إلى عدّ المعرفة الأدبية هي الأساس الذي تقوم عليه كلّ معرفة أخرى. إنما يتم توظيفها هنا باعتبارها في الأدب معرفة إنسانية، جمعية، أو مزيجاً من معارف شتى، أو كشف جزء من الوجود.
يتمثل ذلك، أدبياً، لا في معرفة فن العيش الشوبنهاوري الحكيم، ولا العادات الذرية، ولا في التمكّن من حل معادلة رياضية، بل في تلك المعرفة التي تتلخّص بالتالي: كيف نثور، كيف نبيع روحنا للشيطان، كيف نحاول استعادتها، كيف نقامر، كيف نتردد، كيف نهرب وكيف نرجع، كيف نتخلى وكيف نفقد وكيف نستعيد، كيف نكون وكيف لا نكون. وكذلك، وربما الأهم: كيف نموت. أو: ما هو الموت؟
«أما البشر فأيامهم معدودة على هذه الأرض»
إنّ اعتبار الأدب تحصيناً ضد الموت (بصفته اللغز الأول للوجود)، أو استعداداً ضدّه، أو معرفة من نوع ما، أو تحصيناً، أو استعداداً، أو تأهّباً أو تحفيزاً، يرجع إلى بداية التدوين الأدبي نفسه. إذ لا تتباين أسئلة إنسان مثل جلجامش عن أسئلة إنسان القرن الــ 21. لقد تغيّرت الرحلة، وكذلك الطريق، لكنّ الوجهة واحدة: إما كيف نظلّ أحياءً؟ وإما كيف نصبح أكثر استعداداً؟
إنّ أعمالاً مثل «الموت عمل شاق» لخالد خليفة، و «ثلاث حكايات عن الموت» لحيدر حيدر، و «قصة موت معلن» لغابرييل غارسيا ماركيز، و«عن الحب والموت» لباتريك زوسكند، و «مرض الموت» لمارغريت دوراس، و «انقطاعات الموت» لخوسيه ساراماغو، و «موت إيفان إيليتش» لتولستوي، و «عن الذاكرة والموت» لسعد الله ونوس، و «الموت السعيد» لألبير كامو، و «موت سرير رقم 12» لغسان كنفاني، وعشرات غيرها، ليست إلا كشف لغز، أو تحصين وتطويع وتمكين، وهو ما يعني أنها في النهاية «معرفة».
هذه الأعمال كلّها، تتصل جزئياً أو كلياً بالسؤال الأول، سؤال جلجامش عن الموت. في المرحلة الثالثة من رحلة جلجامش، التي يسميها فراس السواح «تفكك الواقع - البحث عن المستحيل»، يسير جلجامش عكس الزمن وفي اتجاه منقلب إلى الماضي، متنكراً للواقع رافضاً له، وفقاً للسواح، في استجلاء لسرّ المستقبل، وبحث عن معنى الحياة والموت.
في مطلع المرحلة، لم يكن جلجامش يمتلك أي أوهام بشأن مسألة الحياة والموت. كان قابلاً بفكرة الموت، باحثاً عن معنى الحياة في الالتزام الأخلاقي وتحقيق جلائل الأعمال التي تخلد الذكر. وقد قال لإنكيدو: «أما البشر فأيامهم معدودة على الأرض». والديدان التي تنهش جسد صديقه إنكيدو تنتظره، وجثة إنكيدو ما هي إلا جثة جلجامش نفسه، الذي يقول: «وقد انتابني هلع الموت حتى همتُ في البراري... وحيثما قلّبت وجهي أجد الموت».
يفرّق السواح بين الدافع الحلمي الذي يسوق جلجامش في رحلته للبحث عن الخلود، والدافع الحقيقي الكامن وراءه. فهو لم يكن باحثاً عن الخلود وفقاً له، كما تؤكد معظم التفسيرات والدراسات، بل كان باحثاً عن المعنى في الحياة. ودرس جلجامش هو أنّ الحياة قائمة بالتغير الدائم، والوجود صيرورة لا ثبات. وحديث سيدوري، فتاة الحان، بالنسبة إلى السواح هو بؤرة الدرس الذي تعلمه جلجامش: «فالآلهة لما خلقت البشر، جعلت الموت نصيباً لهم». وسرعان ما يصبح الدرس حول الموت هو درس في الحياة ومعناها. وإنّ جري جلجامش وراء مصيره الخاص، لم يكن إلا شكلاً ظاهرياً لجريه الأعمق في سبيل حل معضلة وجودية تتعلق بالشرط الإنساني عموماً. والدروس التي يستخلصها السواح كثيرة، وموجودة في كتابه «قراءة في ملحمة جلجامش».
هكذا أقاموا طقوس الجنازة
يختتم هوميروس ملحمته «الإلياذة» بجملة أخيرة: «هكذا أقاموا طقوس الجنازة لهكتور مروّض الخيول»، وكان النشيدان الأخيران منها (أي الإلياذة) وصفاً تفصيلياً لجنازة كل من بتروكلوس وهكتور. الأمر الذي يوحي كم كانت مراسم الجنازة تعني اليونانيين وتحظى باهتمامهم، كما أنّ نظرة موجزة للملحمة ومن بعدها كثير من المسرحيات اليونانية، لا سيما مسرحية سوفوكليس «أنتيغون»، تكشف أنّ أغلب الصراع اليوناني ناشئ عن صدامات تتعلق بالموت والطقوس التي تليه مثل تطهير الجسد وتطيببه بالعطر، ومن ثم دفنه. ومن معظم الأدب اليوناني، لا سيما المسرح، تستخلص الدروس التالية:
كان اليونانيون إذا مات لهم إنسان يغلقون عينيه، ويضعون بين أسنانه قطعة من النقود كي يدفعها أجرةً لخارون، الملّاح الذي ينقل الموتى في العالم الآخر، كما يُغطى وجه الميت بقناع، وتغسل الجثة وتدهن بالعطور، وتُكفّن في 3 أكفان بيضاء. ثم يرقد الميت في بهو المنزل على سرير تُحاط به القرابين، وأثناء عرض الجثة يقوم الرجال والنساء بالنواح على التبادل: الرجال وهم واقفون وأذرعتهم ممدودة إلى الأمام وراحة اليد مفتوحة والأصابع مضمومة. أما النساء فينتزعن شعورهنّ. ويظلّ عرض الجثة نهاراً بكامله، وفي اليوم التالي قبل الفجر - كي لا تنجس الشمس من هذا المشهد - تُرفع الجثة وتحمل على عربة أو سرير، تتبعها امرأة معها إناء فيه مواد الرش أو الوضوء، وكانت إما من النبيذ أو العسل، ثم يتوقف النواح والعويل، وتسير الجنازة في مركب مؤلف من الرجال ومن أقرب الأقربين للميت، في صمت.
وإنّ نظرةً إلى الصراعات في بعض الروايات الصادرة في فترات قريبة، مثل «الموت عمل شاق» للراحل خالد خليفة، و «احتضار الفرس» لخليل صويلح، وغيرهما كثير، تبيّن أنّ السؤال واحد، منذ جلجامش حتى اليوم.