إيران والقضية الفلسطينية
يؤكد المؤلّف أنه لا يمكن فهم علاقة إيران بالقضية الفلسطينية إلّا من خلال الإلمام بالخلفيات الفكرية والسياقات التاريخية والموضوعية التي رسمت مسار المؤسسة الدينية في إيران.
منذ اليوم الأوّل لها، كشفت إيران الإسلامية، التي تأسّست بعد انتصار الثورة الشعبية فيها قبل أربعة عقود ونصف العقد، على حليف الكيان الإسرائيلي الأقوى في المنطقة، أي نظام الشاه محمد رضا بهلوي، عن عدائها المطلق لهذا الكيان، وسعيها لإزالته، ما أحدث زلزالاً هائلاً لا تزال تداعياته تتوالى حتى تاريخه على مستوى المنطقة والعالم.
إنّ الموقف الإيراني، السياسي والشعبي والعملي، المُدافع عن القضية الفلسطينية، والداعم لقوى المقاومة والتحرير داخل فلسطين وخارجها، هو موقف مبدئي وأخلاقي لا يمكن التشكيك فيه، خصوصاً بعد مضي عقود صعبة ومريرة أثبتت فيها إيران مصداقيتها الكاملة في تحمّل أعباء موقفها على كلّ المستويات.
في هذا الكتاب (أطروحة دكتوراه)، سعي موضوعي وحثيث من قِبل المؤلّف من أجل فهم مواقف إيران من القضية الفلسطينية منذ حكم الشاه، مروراً بالثورة الإسلامية (شباط / فبراير1979)، ووصولاً إلى العام 2010. كما بحث المؤلّف الموقف التاريخي للمرجعية الدينية في إيران من قضية فلسطين قبل الثورة وبعدها، وتأثيره في القرارات والسياسات الإيرانية، مع تسليط الضوء على مواقف إيران من المتغيّرات الفلسطينية، من قبيل: المفاوضات، التسوية، وغيرها؛ بالإضافة إلى تحليل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه علاقة إيران بالمقاومة، واستشراف مستقبل الصراع في المنطقة ومصير القضية الفلسطينية.
قسّم المؤلّف دراسته إلى بابين، وفي كلّ باب ثلاثة فصول، إذ عَرَض في الباب الأول (إيران والقضية الفلسطينية في ظل حكم الشاه) الأطر النظرية للدراسة، والمحدّدات السياسية والاستراتيجية للعلاقات الإيرانية – الإسرائيلية، والانعكاسات الداخلية والخارجية لمواقف إيران الشاه من "إسرائيل"؛ فيما عالج الباب الثاني (إيران والقضية الفلسطينية في ظل الثورة الإسلامية)، مواقف النظام الإسلامي الجديد من قضية فلسطين، خاصة لناحية الدور الإقليمي والمحدّدات السياسية والاستراتيجية له، إلى المواقف الداخلية الإيرانية من هذه القضية، وتحديداً المؤسسات والتيّارات والاتجاهات المختلفة؛ وصولاً إلى تحليل تداعيات تلك المواقف والردود الإقليمية والدولية عليها.
في خلاصة فصول الباب الأول، استنتج المؤلّف أن إيران (الشاهنشاهية) استفادت من إمكاناتها ومواردها السياسية للاضطلاع بأدوار إقليمية ودولية ذات شأن مؤثّر؛ كما استفادت من موقعها الاستراتيجي وثقلها السكّاني وقوّتها العسكرية. إضافة إلى ذلك، احتواء إيران على إرث تاريخي وثقافي وحضاري عميق مكّنها من مخاطبة الشعوب والدول المجاورة.
ورأى المؤلّف أنه لا يمكن فهم علاقة إيران بالقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، إلّا من خلال الإلمام بالخلفيات الفكرية والسياقات التاريخية والموضوعية التي رسمت مسار المؤسسة الدينية في إيران، ومكّنتها من تأسيس الجمهورية الإسلامية والتفاعل مع متغيّرات المنطقة وقضاياها المصيرية.
ومقابل تخلّف المجتمع العربي والطابع الرجعي لبعض الأنظمة العربية (خلال النصف الثاني من القرن الماضي)، والذي حالَ دون تقدير "إسرائيل" استراتيجياً على أنها كيان استيطاني؛ بل وعدّها رائدة التقدّم في المنطقة، كانت القوى الثورية الإيرانية، بمختلف تيّاراتها اليسارية والإسلامية، في صراعها ضدّ النظام الملكي الشاهنشاهي، تنظر إلى القضية الفلسطينية بوصفها قضية رأي عام في إيران، ولها وجود عميق في وجدان الشعب الإيراني. ومن ثمّ، رفضت هذه القوى علاقة الشاه بـ"إسرائيل"، وعدّتها خيانة لمواقف الجماهير الإيرانية ونيْلاً من كراماتها وهدراً لثرواتها؛ فكان التنديد قوياً والموقف حاسماً.
وقد حدّد المؤلّف ثلاثة متغيّرات أساسية مثّلت الدافع الرئيس لتقارب النظام السياسي الإيراني في عهد الشاه مع "إسرائيل": الأول: دخول النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية مرحلة جديدة عُرفت باسم "الحرب الباردة"؛ الثاني: نظرية الأمن القومي الإسرائيلي في علاقات "إسرائيل" بالدول المحيطة في العالم العربي، مثل إيران وتركيا؛ الثالث: مواجهة التهديد السوفياتي-العراقي المدعوم بالقومية العربية، ومركزها القاهرة آنذاك.
وفي السياق، اضطلع شاه إيران بدور الوساطة بين مصر و"إسرائيل" في إطار تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، بداية السبعينيات، من أجل تعزيز نفوذه الإقليمي لدى "إسرائيل"، والولايات المتحدة بصفة خاصة. كما انتهجت إيران خلال تلك المرحلة سياسة متوازنة تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي وقضايا المنطقة.
لكن، كان الدعم الإيراني للقضايا العربية خاضعاً لما يتّفق والمصالح السياسية الشاهنشاهية القومية. وحين يحدث تعارضٌ بين الأمرين، لم تكن إيران تتردّد في تغليب مصلحتها السياسية. لذلك، ظلّت السياسات الإيرانية تتراوح بين التنديد بالاحتلال الإسرائيلي، مقابل استمرار تطبيع العلاقات الاقتصادية وتزويد الدول الغربية و"إسرائيل" بالنفط، وعقد صفقات تجارية وصناعية معها.
في المقابل، تميّز موقف المعارضة الإيرانية لحكم الشاه، اليسارية والإسلامية، من القضية الفلسطينية بالتأييد، في حين كان نظام الشاه يُعدّ من أنظمة المنطقة المهمة الداعمة للكيان الصهيوني. كما شكّل التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته، بالنسبة إلى غالبية هذه القوى، مسألة مبدئية، لارتباط الصهيونية بالإمبريالية والرجعية.
وقد تُرجِم هذا الموقف ميدانياً بالتعاون بين حركات المقاومة الفلسطينية وحركات المقاومة الإيرانية (تدريب هذه القوى في معسكرات الثورة في الأردن ولبنان)، وسياسياً بالنضال المشترك في الدول الغربية ضد التحالف الصهيوني- الأميركي- الشاهنشاهي ضدّ شعوب المنطقة.
من جهتها، عدّت المؤسسة الدينية الإيرانية توجّهات الشاه نحو الشعور الشعبوي والقومي المفرط، والسيْر الطوعي نحو تحويل إيران إلى دولة متقدّمة على المنوال الأوروبي، ضلالاً مُبيناً ومغالطة كبرى يُتوخّى من ورائها إظهار السياسة الغربية في إيران على أنها سياسة شاملة مبنيّة على التجديد والتنمية وتطوير الآداب والعلوم والفنون؛ لكنها تُخفي الميل والخضوع لسياسة التبعيّة.
لذا، كانت مواقف المرجعيات والقيادات الفكرية والسياسية والإسلامية من القضية الفلسطينية، قبل الثورة وإقامة الجمهورية الإسلامية، حاسمة في هذا السياق؛ إذ عدّت تأسيس النظام الصهيوني منبعاً لفساد المسلمين في الشرق الأوسط والعالم، وأن الضرر لن يتوقف على الفلسطينيين فحسب؛ ولذلك، من الواجب على كلّ المسلمين العمل من أجل إيقاف هذا الطغيان ضدّ المسلمين الفلسطينيين.
وكان من نتائج الموقف المعارض للمرجعية الدينية بروز شخصية روح الله الخميني القيادية ونزولها إلى ميدان الصراع ضدّ توجّهات الشاه العلمانية والمرتبطة بالسياسات الإسرائيلية التوسعية؛ وذلك بصفة السيّد الخميني مرجعية فكرية ودينية وسياسية تؤمن أنها تحمل مشروعاً إسلامياً متكاملاً وقابلًا للتطبيق في إيران، في مواجهة مشروع الشاه التغريبي.
في فصول الباب الثاني من الكتاب، عَرَض المؤلّف مواقف إيران من القضية الفلسطينية في ظلّ الثورة الإسلامية، ما بين العامين 1979 و2010، حيث توصّل إلى الاستنتاجات الآتية:
-لقد أسهمت ميزة تمتّع إيران بموقع استراتيجي وبقدرات طبيعية وبشرية وعسكرية، إلى جانب طبيعة النظام الإسلامي الجديد، في جعل إيران موضع ترقّب واهتمام من قِبل الحكومات والشعوب العربية والإسلامية من جهة، ودول العالم المؤثّرة من جهة ثانية.
- إنّ رفع إيران شعار الدفاع عن الأمّة الإسلامية والثورات التحرريّة، فضلاً عن تبنّيها نظاماً إسلامياً جديداً مختلفاً عمّا اعتادته الدول الإسلامية التقليدية، تسبّب في نوع من التنافي مع العالم الخارجي الذي غالباً ما ينظر إلى الدين على أنه مسألة فردية؛ وكذلك مع بعض الأنظمة الملكيّة في العالم الإسلامي التي كانت تنظر إلى التجربة الإيرانية بعين الريبة والشك.
-وعليه، فإنّ الموقف الإيراني من قضية فلسطين بعد الثورة أمْلته محدّدات دينية وثقافية واستراتيجية، إذ رأت إيران أنه من باب الالتزام بمبادئ ثورتها، والوفاء بتاريخها الإسلامي ومصلحتها الوطنية العليا وبأمنها القومي، أن تجعل هذه القضية مبدئية في مواجهة ما عدّته قوى الاستكبار والدفاع عن المستضعفين.
من هنا، توصّل النظام الإسلامي في إيران إلى نتيجة مفادها أن دمج "إسرائيل" في المحيط الإقليمي (من قِبل الولايات المتحدة وحلفائها) إنما يهدف أساساً إلى عزْل إيران وتهديد مصالحها الحيوية ومحاولة تشكيل نظام جديد في الشرق الأوسط من دون مشاركتها (كما يحصل حالياً).
-إنّ رغبة إيران في تأمين شرعيتها الثورية والتأكيد للرأي العام العالمي أنها مُلتزمة بمبادئها التأسيسية، المتمثّلة في مناهضة المستكبرين ومناصرة مستضعفي العالم، جعلتها تسعى إلى إدراج القضية الفلسطينية ضمن آليات ممارسة العمل السياسي في إيران من خلال آليات دستورية تشريعية وتنفيذية.
-كان لتأكيد المؤسسة الدينية في إيران محورية العامل الديني في الصراع تبعات داخلية وخارجية؛ فهو حدّد من ناحية علاقة التيّارات والاتجاهات السياسية في الداخل الإيراني بالقضية الفلسطينية، ومثّل من ناحية أخرى، عاملاً مهماً في توجيه السلوك السياسي الخارجي الإيراني حول المسألة الفلسطينية، وطبيعة علاقة إيران بمختلف الفصائل الفلسطينية.
-لقد نجح النظام الإيراني-إلى حدٍ ما- في إبقاء علاقته بالقضية الفلسطينية بمنأى عن ساحة الجدل السياسي الداخلي بين الأحزاب والتكتّلات السياسية المختلفة. لكن، تبقى قدرة طهران على الجمع بين القضية الفلسطينية وثوابتها الثورية ومصالحها الداخلية، رهاناً وتحدياً داخلياً للجمهورية الإسلامية.
- بالنظر إلى الطبيعة الجيوبوليتيكية للمنطقة، فإن التحرّك العربي تجاه علاقة إيران بالمقاومة في فلسطين وغيرها مبنيٌ على ردّ فعل السلوك السياسي الإيراني المتناقض جذرياً مع رؤية جلّ الأنظمة العربية في طريقة إدارة شؤون المنطقة المحكومة بعوامل محلية ودولية، أبرزها: العامل القومي، والعامل الأمني، والعامل الاستراتيجي، إذ تضطلع "إسرائيل" وأميركا بدور محوري في توجيه هذه العوامل وتحديدها.
وبالتالي، تنظر الحكومات العربية الموالية للسياسات الأميركية إلى علاقات إيران(العربية والفلسطينية) بعين الريبة والخوف الشديدين، ما جعلها في بحث دائم عن حليف ضدّ ما تعدّه تدخلات طهران في شؤونها الداخلية، وسعْيها إلى زيادة نفوذها في المنطقة، بطرق غير مشروعة بغرض الهيمنة.
-من أحد أسباب إعجاب بعض حركات المقاومة الفلسطينية بالثورة الإيرانية، مُضافاً إلى المشتركات الأيديولوجية، كون الثورة الإيرانية في نظرها أنموذجاً للتغيير حقّق نجاحاً على الأرض. وهذا البُعد التغييري بدا عنصراً حاسماً في فهم علاقة المقاومة الفلسطينية بإيران. وقد يكون أيضاً غياب النموذج التغييري في العالم العربي والفرص التي وفّرتها إيران من الأسباب الوجيهة التي جعلت فصائل المقاومة في فلسطين، وتحديداً الإسلامية منها، تحاول إعادة إنتاج الخطاب الثوري الإيراني في ما يتعلق بالصراع مع "إسرائيل".
-تحْكم علاقة إيران بالقضية الفلسطينية وبالمقاومة في فلسطين متغيّرات إقليمية ودولية مرتبطة تحديداً بـ "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية. فعلاقة إيران بهاتين الدولتين منذ قيام الجمهورية الإسلامية هي علاقة تصادمية ذات بُعد جيوسياسي واستراتيجي، يرتبط بمصير المنطقة ومستقبلها.
وفي المحصّلة، فإن الثورة الإيرانية مثّلت بالنسبة إلى الفلسطينيين والعديد من شعوب المنطقة، تطوّراً نوعياً في موازين القوى على المستوى الإقليمي في مواجهة سياسات الولايات المتحدة و"إسرائيل". كما نظر كثيرون إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بوصفها نموذجاً عملياً معاصراً للحكم الإسلامي قادراً على تحقيق العدالة ومقاومة الاستبداد. كما أن الأنظمة العربية التي عانت من السياسة العدائية لنظام الشاه كانت تأمل بأن لا يحمل النظام الإسلامي الجديد معه تهديدات أخطر لمجتمعاتها وأنظمتها الخاضعة للتبعيّة الاقتصادية والأمنية للغرب. لذا، كانت تلك الأنظمة للثورة بالمرصاد.
وأخيراً، أوصى الباحث في ختام دراسته بضرورة الاهتمام بالبُعد التنظيري لعلاقة إيران بالقضية الفلسطينية بمنأى عن التناولات الإعلامية ذات الطابع الخطابي الإنشائي؛ إذ على الرغم من كثرة الدراسات حول أدبيّات الثورة الإسلامية الإيرانية ومساندتها للقضية الفلسطينية، فإن التناول المعرفي الأكاديمي لهذه المسألة لم يأخذ حقّه من البحث والدراسة.
كما أوصى الباحث بالتركيز على إبراز البُعد الإسلامي للقضية الفلسطينية بطريقة علمية وتأصيلية، ومن منظور المشروع الوحدوي التقريبي التوحيدي. وكذلك إعطاء بُعد عالمي لهذه القضية انطلاقاً من "براديغم" العدل المؤسّس لنصرة الاستضعاف ومقاومة الاستكبار، تحقيقاً للكرامة الإنسانية التي يستوي فيها جميع البشر، فطرة وأصالة.