أصفهان نصف الدنيا.. رجالاتها صنّاع المجد
قيل في المثل الشعبي الفارسي: "أصفهان، نصف العالم". فما سرّ ارتباط أصفهان بالعالم والعالميّة؟
في المدن أسرار كفيلة بإدخالها التاريخ من أوسع أبوابه. وفيها أنهار تنقل تلك الأسرار، فيرتشفها العابرون، ويدخلون بدورهم التاريخ. في المدن أصوات لا نسمعها، لكنها تحكي لنا الكثير، وتحاكي فينا نزوعنا الفطري إلى أصالتنا الوجودية؛ إلى أصالة وجودنا.
قيل في بهاء الدين العاملي (القرن 16 م)، إنه ولد في مدينة بعلبك، لكنه اختار لنفسه مدينة أصفهان، ليدخل التاريخ من بوابتها العريقة، مثل أروقتها التاريخية التي تصدح باسمه حتى يومنا هذا. الشمعة التي أوقدها في أتون حمام أصفهان، الذي سمّي "حمام البهائي"، كانت أحد تجليات إبداعاته العلمية. معادلات رياضية هندسية صعبة، تحملها الهياكل الحجرية، تروي عبقرية هذا العالم والفيلسوف. حتى أن أنظار السائح في أصفهان اليوم، تدين في جزء كبير من المدينة، إلى البهائي العاملي، الذي صمم الكثير من المباني في الحقبة الصفوية، والذي يعود له الفضل في توزيع مياه نهر "زاينده رود" على المدينة والقرى المجاورة. وهذا غيض من فيض إبداعاته وإنجازاته في المدينة.
لعل هناك سراً في هذه المدينة العريقة تاريخياً. أكثر من 6 آلاف أثر تاريخي عمرها آلاف السنين، تجاور مساحات شاسعة من الطبيعة البكر الخلابة. القصور والمساجد والكنائس والمنارات والحدائق والمباني التي شيدت بأكثر الأساليب دقةً، ما يثير الدهشة حول المواد المستخدمة في بنائها ونقش سقوفها وترصيع حجارتها.
قصر الأربعين عموداً (چهل ستون) الذي يحمل دلالة العدد 40 الرمزية لدى المذهب الشيعي، مع أنه مؤلف من 20 عموداً. سمة التدين والعبادة وسمت المدينة منذ فجر تاريخها، حتى ارتبطت بالتصوف والعرفان والشاعرية والجمال الهندسي، فكانت أيقونة مدن العالم في العمارة الإسلامية، التي عرفها العالم من خلال مساجد المدينة وساحاتها وحتى أسواقها ومناراتها وجسورها. كل ذلك إلى جانب الإعجاز المعماري في الآثار والمباني التاريخية من قصر "چهل ستون" والثلاثة وثلاثين جسراً بمناراتها الساحرة، وجسر خاجو وغيرها من الجسور التي تقطع النهر الذي يغذي قلب أصفهان.
قيل في المثل الشعبي الفارسي: "أصفهان، نصف العالم"! وأطلق على أحد أهم أماكنها التاريخية اسم "نقش جهان" أو "صورة العالم". فما سر ارتباط اسم المدينة بالعالم والعالمية؟
في الفكر والفلسفة، كانت أصفهان مهداً لعظماء الحكمة الإسلامية على وجه الخصوص. فمدرسة أصفهان كانت حلقة أساسية في حلقات التفلسف عند المسلمين الشيعة، ومرحلة متقدمة من العمارة الفلسفية، شيدت وأسست للفلسفة بالاستفادة من الحقبات السالفة. ويلتقي فيها تراث المشائين الإسلاميين من الكندي إلى الفارابي وابن سينا، ثم المدرسة الإشراقية متمثلة بشيخ الإشراق وشهيد التصوف السهروردي.
هكذا كانت أصفهان الحاضنة لتطور الحكمة الإلهية والفلسفة الإسلامية في العصر الصفوي. وبرز دور هذه المدينة في خط نهج فلسفي يجعلها مدرسة حقيقية في تاريخ الفكر البشري. ولا شك في ريادة اسم الميرداماد والملاصدرا لهذه المدرسة، ما أعاد الحياة والاعتبار إلى الفلسفة الإسلامية- والإلهية تحديداً- بعد الرؤية الغزالية بتهافت الفلسفة والفلاسفة. هذا الأمر كان كفيلاً بإزالة الحجب والشبهات عن الارتباط الوثيق بين الفلسفة الإلهية وحكمة أهل الكتاب والحكمة النبوية، كما تهذبت بفضل هذه المدرسة طرق المتصوفة، واتخذ التصوف اسم العرفان بعدما تم تطعيمه بنور المعارف الإلهية.
اليوم، يتناول الحديث عن مدرسة أصفهان سائر الأبعاد الفكرية الثقافية الفنية وحتى السياسية والاقتصادية، تماماً مثلما يتحدث المنظرون عن تأثير حقبة مدرسة فرانكفورت في مسار تاريخ العلوم والفكر والفن والسياسة في أوروبا بدايات القرن العشرين.
لعل عاصمة إيران العتيقة، استحقت لقب "نصف العالم" أو "نصف الدنيا" بفضل كل ما تقدم، وبفضل الخصائص الطبيعية والمعمارية التي ميزتها، ومما لا شك فيه، أن هذه العظمة التاريخية تركت ما تركته من أثر على الخصائص الاجتماعية الأنثروبولوجية، ما أكسب المدينة طابع "العالمية".
اجتماعياً وإنسانياً اليوم، إذا جلت في شوارع أصفهان، فستلاحظ تميز الأصفهاني بالأصالة. وستسأل ما المقصود بالأصالة؟
في الانطباع الأول، يحدثك الأصفهاني بلهجته الفارسية المتميزة والمختلفة عن باقي لهجات البلاد. تتميز اللهجة الأصفهانية بلحن لا يشبه لهجات أهالي المدن الإيرانية الأخرى. والأصفهاني لا يمنعه اختلاف لهجته عن الحديث معك بكل اعتزاز. فإن لم تفهم فتلك مشكلتك!
ثم إن الأصفهاني يحافظ على أصالة مأكولاته، فتجده يحافظ على ارتباطه وتعلقه بالوجبات التي كانت تعدّها جدته وأسلافه، ويفضلها على المأكولات السريعة أو المشتركة بين سائر المدن في البلاد. ففي المدينة مطاعم ما زالت تقدم طبق الــــ"بريوني" الذي تتسم به المدينة وحدها، وقد لا تجده في طهران في أي مطعم! وما زال أهالي المدينة يـأكلون "يخنة" اللبن بالزعفران، ومن المتعارف أن اللبن والزعفران، خلطة لا يستسيغها كثيرون في إيران.
عادات كثيرة، لم يتخل عنها الأصفهاني، ما يشعرك بأنك لم تسافر عبر المكان فحسب، وإنما قطعت أميالاً زمانيةً للوصول إلى هنا. إلى هذه البرهة التاريخية، التي تتعين فيها التفاصيل المكانية.
بلغة التاريخ، قد تتشابه الحجارة بين مدينتين في هذا العالم. ولعل هذا ما دعا إيران ولبنان إلى الإعلان عن توأمة مدينتي أصفهان وبعلبك أخيراً، بعد تاريخ من الأصالة المشتركة بينهما، حضارياً، وأنثروبولوجياً، وتاريخياً. الأولى مدينة تجد فيها نصف الدنيا فهي لؤلؤة بلاد فارس، والثانية مدينة الشمس، التي تلمس قربها من السماء، كلما أحرقت شمسها خديك وأنت تجوس خلال معابدها الرومانية المهيبة وهياكلها التي ترسم أروقة تأخذك عبر الزمن. وفي المدينتين، غير مرحب بأنامل الحداثة المخربة، ومستوردات النمط الغربي في العيش.
في المدينتين، يمكنك ألا تسمي محل بيع القطع القديمة محل بيع "الأنتيكا"، لأن هذه القطع ما تزال مستخدمة في الكثير من المنازل. القديم هنا لا يصبح رثاً، وإنما يزداد عراقة. هنا تتقاطع الأركيولوجيا والأنثروبولوجيا، وتتداخل الأنساق المعرفية، فالماضي حاضر هنا، والمكان يأخذك في سفر عبر الزمان.
لا شك في استحالة الفصل بين بيئة الإنسان وتكون شخصيته وطبائعه وميوله. ولعل عالمية مدينة أصفهان ومجدها، انعكس على امتداد التاريخ في خصال أبنائها وأفكارهم ووعيهم، فازداد وجودهم سعة، فاتسعت رؤيتهم حتى أصبحت عالمية، بمعنى التفكير على مستوى كوني.
يحدثنا محمود مكي في مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الإسباني لوركا، عن تأثير مدينة غرناطة وطبيعتها على شخصية الشاعر وذائقته الشعرية. فتسهب المقدمة في وصف المدينة وسجايا أهلها ولغتهم، وميلهم إلى العيش في عالم صغير وأقل اتساعاً وضخامة، وإلى تصغير كل الأشياء والأبعاد، ما ينعكس على لغتهم التي تكثر فيها صيغة التصغير خلال الحديث. فمدينة غرناطة، كما جاء في المقدمة، لا تقوم على الضخامة والهيبة والجلال بقدر ما تقوم على التواضع والبساطة، وهو ما ينعكس في رمز هذه المدينة، أي قصر "الحمراء" العربي. وغرناطة، بالنسبة إلى الشاعر، مدينة التأمل والفراغ والخيال. ولعلها بذلك تورث أبناءها - كما يقول المقدم - الخمول والتأمل والصمت، وبالتالي الشاعرية العالية الدقة في صورها الشاعرية التي تتطلب تأملاً خالصاً وهدوءاً بعيداً من صخب الأعمال.
إنه تأثير بديهي تمارسه المدن على أبنائها وسائر أبعاد حياتهم. وأصفهان تعد من تلك المدن الزاخرة بدلالات الجلال والجمال والعظمة التاريخية المتمثلة بهياكلها وسقوف صروحها ومساجدها وساحاتها القديمة. وهي بما تقدم من عظمة تاريخية، مدينة أورثت أبناءها التفكير المتعالي والرؤية العالمية الكونية، التي تجذب إليهم الأنظار في الاستحقاقات المصيرية. وربما كان الشهيد، أفضل من تبلورت في نفسه هذه الرؤية الكونية والسعة الوجودية، فأصبح قادراً على احتواء العالم بكل شعوبه الباحثة عن الحرية.. حتى استحق أن يكون شهيداً.
باقة من الشهداء قدموا المصداق في هذا الصدد. لقد أحاط قاسم سليماني نفسه برفاق أصفهانيين، تذكره عزيمتهم الصلبة بعيني "همت" الثاقبتين. ولا غرابة في أن ينتقي للمهمات الصعبة شباباً شربوا من مياه "زاينده رود" (أو النهر الخصب) على وجه التحديد، وربما كان ميلاً داخلياً وعشقاً زاخراً بالدلالات. أحمد كاظمي، قائد جيش النجف الأشرف 8 في حرس الثورة طوال سنوات الدفاع المقدس، كان أصفهانياً. حسين خرازي، قائد جيش الإمام الحسين 14 خلال سنوات الحرب العراقية- الإيرانية، كان أصفهانياً. وممن تعرف جيلنا على وجوههم - ولو بعد الشهادة - سيد محمد حجازي، نائب قائد قوات القدس في حرس الثورة الإسلامي، ابن اصفهان. وبالأمس القريب، الأصفهاني محمد رضا زاهدي، قائد قوة القدس في حرس الثورة بلبنان وسوريا طوال سنوات. أيما كانت طرق شهادتهم، فكلها تؤدي إلى حقيقة واحدة، تحكي قصة اتساع أرواحهم بما لا تستوعبه هذه الأرض.
لقد اختار الشهيدان حجازي وزاهدي ممارسة المهمات الجهادية في جبهتي لبنان وسوريا، حتى يتصديا مباشرةً للعدو الغاصب. ومن أجل البقاء في خطوط المواجهة المباشرة مع أعداء الإسلام والإنسان، دفعتهما سعتهما الوجودية ورؤيتهما الكونية تجاه الأحداث الدنيوية، إلى التخلي عن المنصب والزهد بالرتب العسكرية والامتيازات في بلادهما، من أجل خدمة أحرار العالم، وتحرير الأرض وتطهيرها من المغتصبين، ووهب الشعوب حياةً طيبةً رغيدة. الشهيد زاهدي وطِئ جنوب لبنان باحثاً عن تكليل مسيرته المجيدة بالشهادة، وعلى خطاه البقية.
من تلك المدن العريقة، يأتي هؤلاء الواهبون أرواحهم، ليحملوا الحياة والعيش الهانئ لأبناء الأرض.
بأنفة الأحرار وتواضع العظماء: أصفهان نصف الدنيا.. ورجالاتها أمة بأكملها.. يسير على خطاهم السائرون، نحو الحقيقة. فلا توقفهم أيادي الكيد، ولا تثنيهم أيديولوجيات الاستعمار وفلسفات الاغتصاب عن شق الطريق إلى النور.
قالها الشاعر حامد أصفهاني: "مدينتي مدينة الشهداء تدثرها الدماء.. مدينة الزهور والتوليب المتفتح".