إرث بلال الحسن صرح للثوابت الوطنية الفلسطينية
عايش بلال الحسن، غسان كنفاني في جامعة دمشق وفي الكويت، وعملا معاً وسكنا مسكناً مشتركاً، وكان صنواً لكثير المثقفين في الاهتمامات الأدبية والفكرية. لكنه آثر منذ مطلع الشباب اختيار العمل الصحافي والمقال السياسي ركيزة طموحه العودة إلى مسقط رأسه حيفا.
شبّ بلال الحسن مع رعيله على الانتماء الملتزم في مناخ سوريا التي تتنفس عروبة برئتي القضية الفلسطينية، فلم يشعر ابن فلسطين بالشتات، إنما تيقّن في دمشق وحواضرها أن النكبة همّ عربي نابض يجمع الكتف بالكتف.
رافقته في كفاحه المديد قرينته الشامية العريقة هانية وأنجبا فراس المتخصّص بالأجهزة الطبية، وندى المهندسة الدولية التي ورثت مناقبية عائلتها فانتزعت من "اليونيسكو" معركة الاشراف المعماري على ترميم قبّة المسجد الأقصى.
لم يشبع بلال يوماً من نهم القراءة، إذ كان يعبّها عبّاً، فيحفظ أمهات الكتب والروايات والقصص الأدبية عن ظهر قلب، لكنه لم يكتب وينشر في هذا المضمار، بل اعتمده لتبادل المعرفة وأطراف الحديث مع الأصحاب في سهرات الأنس.
ربما لم يستطع بلال الحسن مجاراة غسان كنفاني في الجمع بين الصحافة والأدب، فقال فيه: "إن عالمه الانساني الداخلي أبرز طاقاته الغنية التي تدفعه إلى الكتابة الثقافية طوال الليل بعد 10 ساعات من العمل الصحافي المتواصل". وربما وجد ضالته في تغريبته الباريسية. إذ اختار تقسيم مجلته "اليوم السابع" إلى قسمين سياسي وثقافي متساويين، أولهما مع جوزيف سماحة وفيصل جلول وعبد الله اسكندر وآخرين، وثانيهما مع إبراهيم العريس وخميس خياطي وبيار أبي صعب.
من فلسطين إلى فلسطين
لم تستهوِ بلال الحسن الايديولوجيا على الرغم من انتمائه إلى "حركة القوميين العرب"، وعمله منذ مطلع ستينيات القرن الماضي في مجلة "الحرية"، لسان الحركة، وجريدة "المحرر" لسانها الآخر. ولم يألف العمل الحزبي على الرغم من تبوئه مصاف القيادة في الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين (نايف حواتمة) وإشرافه على جزء من صندوق المالية المركزية.
وكما ارتأى العمل الصحافي والمقال السياسي طريقه إلى فلسطين، أخذته الطريق إلى "حركة القوميين العرب" ثم الى "الجبهة الديموقراطية" (نايف حواتمة) التي وصل إلى قيادتها وممثلاً عنها في اللجنة التنفيذية لــ "منظمة التحرير الفلسطينية"، إثر اندماج عدة تنظيمات منها أصدقاء بلال في "المنظمة الشعبية لتحرير فلسطين" المتأثرة بعزت دروزي في الجامعة الأميركية في بيروت، بمحاذاة تيارات "العروة الوثقى" (قسطنطين زريق) التي خرّجت في الجامعة نفسها جورج حبش وأحمد الخطيب ووديع حداد.
سرعان ما خرج الحسن من "الجبهة الديموقراطية" في بداية انطلاقتها قبيل أيلول الأسود عام 1970، مع صديقه وابن بلده (الطنطورة - حيفا) خليل الهندي (رئيس جامعة بيرزيت)، اعتراضاً على خطاب الجبهة الايديولوجي حينها، ما رآه بعيداً عن المزاج الشعبي الفلسطيني.
حاولت الشقيقة اللدودة لــ "الجبهة الديموقراطية"، "منظمة العمل الشيوعي" (محسن ابراهيم)، استغلال انشقاق بلال الحسن نتيجة اختلاف الأخوة الأعداء على حقوق مجلة "الحرية"، لكن بلال نأى بنفسه عن المناكفات الحزبية ولم يهنأ له بال حتى برّأ ذمته المالية بتسليم عهدة الصندوق المركزي إلى نايف حواتمة شخصياً، الذي تلكأ أملاً بالمحافظة على صلة تنظيمية مع ابن عائلة لها خالد وهاني في قيادة "فتح".
ظل بلال الحسن حتى الرمق الأخير مفتوناً بشقيقه الأكبر خالد (أبو السعيد)، راعي العائلة، وأحد مؤسسي حركة "فتح" ومنظّري انطلاقتها الاسلامية الشعبية، فحمل عنه بلال قضية حق العودة في حلّه وترحاله. وظلّ متعاطفاً بشغف مع أخيه الأصغر الحمساوي علي، فأخذ عنه معركة إعادة بناء "منظمة التحرير" وضمّ "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وفصائل المقاومة.
لكن بلال الحسن لم يدخل إلى تنظيم "فتح" أو "حماس" أو "الجهاد"، مكتفياً بعضوية "المجلس الوطني الفلسطيني" ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وحرص ألّا تعبّر "اليوم السابع" عن "فتح" والسلطة الفلسطينية، على الرغم من حرص عرفات على إنشائها بعد الخروج من بيروت لهذه الغاية تحديداً، فجعلها بلال الحسن لسان حال الثورة الفلسطينية والقضية.
وعندما أُقفلت "اليوم السابع" عام 1991، ظهرت أسباب الإقفال متغيرات اجتياح الكويت وتأييد عرفات لصدام حسين ثم الغزو الأميركي للعراق (وهذا ما يجري تداوله في رثاء بلال الحسن). لكن الحقيقة أن وراء الأسباب المعلنَة وذريعة تخفيض ميزانية المجلة، قرار اتخذه الحسن لإبراز معارضته للسطلة الفلسطينية ومفاوضات أوسلو، والانتقال إلى خوض معركة سياسية سمّاها مواجهة "ثقافة الاستسلام".
وقبل أن يضطر للعمل كاتباً في الصحافة السعودية (الشرق الأوسط والحياة) خضنا أنا وبلال وجوزيف سماحة وإميل منعم مغامرة تأسيس مجلة "الغربال" وأصدرنا عدداً يتيماً. فهو مجبول بطبعه على العمل في مؤسسة إعلامية لضمان استقراره النفسي والمعنوي وطمأنة نفسه بتأمين سويّة العيش والرزق الحلال.
إحياء الثوابت الوطنية ذخيرة للأجيال الشابة
3 عناوين أخذها بلال الحسن على عاتقه في مرحلة مفصلية كرّست انتقال السلطة الفلسطينية و"منظمة التحرير" من الثورة وحماية الحقوق الفلسطينية إلى التعايش مع الاحتلال:
1 - مواجهة مفاوضات أوسلو السرّية ابتداء من عام 1991 والدلالة على أنها غير شرعية لم تشترك بمواكبتها وإقرارها قيادة "فتح" و"منظمة التحرير"، واقتصرت على إدارة الرئيس الراحل ياسر عرفات وأحمد قريع. أخذ يبحث قبل إعلان الاتفاقات عام 1993 عن وقائع الاستسلام التي بدأت برأيه مع "فتح" و"الجبهة الديموقراطية" في "المجلس الوطني الفلسطيني" في القاهرة عام 1974. وما سمي وقتها بـــ "برنامج النقاط العشر"، فنشر التأريخ في ما بعد في كتاب "عن عرفات وأوسلو وحق العودة وإلغاء الميثاق".
2 - السعي إلى إنشاء تيار فلسطيني معارض للمفاوضات واتفاقيات "السلام"، والعمل على إعادة بناء "منظمة التحرير" بناء على الميثاق القومي الفلسطيني مع انطلاقة الثورة عام 1964 ورفض "تعديله" بحضور بيل كلنتون في غزة عام 1998. وطّد حركته مع معارضي المفاوضات ومنهم محمود درويش وإدوارد سعيد وفاروق القدومي ومحمد جهاد العموري... ولم تنجح المعارضة بشق طريقها.
3 - لم يستسلم بلال الحسن ولم يحرق مراكبه، فأخذ يراهن على الجيل الشاب لحفظ استمرارية الثورة الفلسطينية والحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني و"تولي إدارتها وتسييرها بنفسه"، كما جاء في بيان "الهيئة الوطنية للدفاع عن الحقوق الثابتة" في 4/5/ 2010.
جمعت الهيئة 70 شخصية فلسطينية من بينها منير شفيق وماجد الزير ومحمد أبو ميزر وبيان نويهض الحوت ... وغاب عنها أنيس الصايغ الذي وافته المنيّة قبيل إعلان الهيئة. أدار بلال الحسن الإعلان والمؤتمر الصحافي في بيروت، واعتبر أن مسؤولية الجيل السابق نقل الثوابت إلى الجيل اللاحق، فكتب ونشر في "مجلة الدراسات الفلسطينية" فضلاً عن عمله البحثي في كتاب "ثقافة الاستسلام" (دار الريس، 2005).
واحسرتاه يا بلال، ما حلمت برؤيته في الجيل الشاب أثمر مع "طوفان الأقصى". فمرّ الطلاب شباب يصدحون "فلسطين من البحر إلى النهر"، من تحت نافذة في غرفة باريسية حكم الخطأ الطبي عليك ملازمتها فاقد الوعي. لكن الكثير من الشباب ينهل من إرث الثوابت ومن أعمال الذين سلّموا الراية منارة لكي يرقدوا بسلام.