أي باب نطرق للوصول الى رأس إبن خلدون؟
إبن خلدون هو أول من لاحظ ضرورة إرساء توازن للقوى ليس فقط لإدارة العالم، وإنما أيضاً لإدارة التاريخ.
دعا المؤرخ البريطاني البارز أرنولد توينبي إلى دفن حجر قايين (قابيل) في قبر هابيل. لكن الحجر ظل يتدحرج عبر الأزمنة (جدلية الأزمنة أم هيستيريا الأزمنة؟). هنا الغرنيكا البشرية التي تعقّبها عبد الرحمن بن خلدون خطوة خطوة ليسأل عن التفاعل العشوائي بين الأيديولوجيا القبلية أو الدينية والتاريخ، بين الروح البشرية والتاريخ، قبل أن يفجّر فرنسيس فوكوياما قنبلته عند غروب القرن العشرين حول "نهاية التاريخ" و"موت الأيديولوجيا".
ولكن هل يمكن الدخول الى رأس ذلك الحضرموتي الإشبيلي صاحب المقدمة الشهيرة من باب واحد؟ ربما كانت نظريته حول "العمران البشري" الأكثر دوياً والأكثر إثارة للبحث. قد جعلت فيلسوف التاريخ البريطاني توينبي في حيرة "أي باب أطرق لأصل الى رأس ذلك الرجل؟ باب فيلسوف التاريخ، أم باب العالم السوسيولوجي، أم باب الباحث الأنثروبولوجي؟" .
كان هناك مفكر إسلامي هندي يدعى محمد واضح رشيد الندوي ألقى محاضرة حول البنوك الإسلامية. في سياق المحاضرة، أتى على رؤية إبن خلدون للاقتصاد النقدي. لاحظ كما لو أن الرجل أوحى، بأفكاره إلى ميلتون فريدمان، الأميركي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، بنظريته حول "النقدوية" التي طبقها رونالد ريغان في الولايات المتحدة، كما طبقتها مارغريت تاتشر في بريطانيا.
آراء الغربيين بإبن خلدون
صحيح أن المؤرخ البريطاني بول كنيدي قال "إن التاريخ إشكاليتنا الكبرى" وأن الألماني فريدريتش هاينه رأى في المؤرخ" نبياً بمفعول رجعي"، ولكن ما نستنتجه من كتاب "أشمل الدراسات في فكر إبن خلدون" الصادر عن دار البيروني الذي يضم آراء متنوعة لعدد من الباحثين، أن الرجل الذي ولد في القيروان، ومات في الفسطاط، وهنا اختزال لتجلّيات التراث العربي، أثار أكثر من إشكالية حول مسار التاريخ البشري بكل وجوهه.
هذا لا يعني أن الباحثين لم يعثروا على "ثغرات رؤيوية" في مقاربته لمختلف المسائل التي تطرق اليها في مؤلفاته. البعض رآه رهين ظروف بعينها ومجتمعات بعينها.
آخرون رأوا فيه الموسوعي الفذ الذي لم يكتفِ بالإطلالة البانورامية على مسار الأشياء، بل أنه توغل في عمق الأشياء، من دون أن تكون هناك لا الشبكة العنكبوتية، ولا ثورة الاتصالات. رجل تتقاطع في شخصه السمات الحضرموتية بما تعنيه، والسمات الإشبيلية بما تعنيه. في بعض الأحيان يشعر من يقرأ له أن إبن خلدون موجود في تلك اللحظة التي تحاول فيها التكنولوجيا الانتقال بالكائن البشري الى ما بعد الزمن!
هل مؤدى ذلك أن نظرة إبن خلدون الى الدورة الحضارية قد انكسرت بانكسار الإيقاع (والمفهوم) الكلاسيكي للزمن، وحتى مفهوم الحضارة، ناهيك عن مفهوم الوجود. المثير أن الباحث الياباني م . أوداكا، المشارك في الكتاب، كان شديد الافتتان بإبن خلدون، والى حد القول لصحيفة محلية: "عندما قرأت إلى أين يمكن أن تصل أفكاره، شعرت كما لو أنه ينبئنا بيوم تسقط فيه القنبلة الذرية على مكان ما في هذا العالم. العالم حين يصاب بنوبة قاتلة من البارانويا"!.
نظرية توازن القوى
نعلم، حسبما يشير خوليو جاكوب، أول عالم نقل إبن خلدون الى الغرب، من خلال كتابه "رحلات إبن خلدون" (1636) ، أن ثمة وجهاً ديبلوماسياً لإبن خلدون. دخل وسيطاً لحقن الدماء بين أهل الشام وتيمورلنك. وكان أبرز القضاة الذين رافقوا السلطان المملوكي زين الدين فرج الى دمشق.
غالبية الأبحاث تمحورت حول كونه "فيلسوف العمران البشري" بأبعاده المتشابكة. أي أنه رائد علم الاجتماع. الناشر السفير الدكتور محمد ضاهر رأى، في تقديمه للكتاب، أن أوغيست كونت، الذي يعتبر أحد المؤسسين الكبار لهذا العلم، اطّلع على أفكار إبن خلدون وتأثر بها.
مثلما احتار توينبي، يفترض أن نحتار نحن. حين زرت تونس، وقفت متأملاًّ في تمثال إبن خلدون في شارع الحبيب بو رقيبة الذي أراد لهذا الشارع أن يكون نسخة عن الشانزليزيه الباريسي. كيف يمكن أن تبقى ساكتاً أمام الإيحاءات التي يتركها التمثال لديك؟
بماذا يمكن أن يجيب إذا ما سألته عن نظرته الى التحولات، وغالباً ما تكون التحولات الهوجاء، التي تحدث في القرن. في الكتاب بحث بالإنكليزية للبروفسور الألماني ب. سبولر رأى فيه أن إبن خلدون أول من لاحظ ضرورة إرساء توازن للقوى ليس فقط لإدارة العالم، وإنما أيضاً لإدارة التاريخ.
هل ترانا نتصور، مثلاً، أن إبن خلدون يختزل أسئلتنا بإجابة مقتضبة على غرار ما قاله آرثر شوبنهاور "لعل البشرية تلفظ أنفاسها الأخيرة"؟ الفيلسوف الألماني رأى ذلك منذ نحو قرن ونصف، قبل أن يدعونا الفرنسي ميشال أونفري الى التساؤل ما إذا كانت الكرة الأرضية لا تزال صالحة للاستعمال؟
"على الفيلسوف أو المؤرخ أن يرى". قال ذلك عالم الاجتماع الشهير بيار بورديو. إذا كانت زرقاء اليمامة ترى لأيام، هل كان إبن خلدون، كفيلسوف وكقارئ لديناميات التاريخ، يرى لقرون؟
السؤال طرحناه ذات يوم على العالم المصري جمال حمدان في منزله البعيد عن ضجيج المدن، وضجيج الحضارات. على هدير بابور الكاز، وفوقه إبريق الشاي، (هذا البابور قد يكون سبب احتراقه داخل منزله)، أجابنا "أهمية صاحبنا (إبن خلدون) أنه استطاع أن يحمل كارل ماركس، بنظرته المادية الى التاريخ، وآرثر شوبنهاور، في نظرته الى التاريخ كصورة عن الزمن، على تناول العشاء في طبق واحد".
الصنائع والعمران: دعوة الى التكنولوجيا
ترانا نضرب في الخيال إذا ما قلنا إن إبن خلدون (1332 ـ 1406) دعانا منذ نحو ستة قرون إلى الدخول في عالم التكنولوجيا، وإن لم يتنبه الى المخاطر التي تهدد الأمن الغذائي، لأن السدود لم تكن تقام على نهر النيل أو على نهري دجلة والفرات.
الدكتور علي عبد الواحد الوافي الذي كتب عنه كـ"أول مؤسس لعلم الاجتماع" استعاد قوله "إن الفلاحة معاش المستضعفين"، مضيفاً بـ"أن الصنائع، إنما تكمل بكمال العمران الحضاري"، و"أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها"، و"أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها"، و"أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع".
أليست مشكلتنا الآن، وحين ترتفع المداخن في مناطق شتى من العالم، طغيان الاقتصاد الريعي في العالم العربي باعتماد الدول الثرية، ومن أعلى ناطحات السحاب، على العائدات النفطية، فيما يتسلق الآخرون حتى الهواء لبلوغ الكواكب الأخرى، أو يبذلون جهوداً هائلة لتسويق منتجاتهم الصناعية في أصقاع الدنيا.
من هي الدولة العربية التي تصنع حتى الدراجات الهوائية، على سبيل المثال؟
إحدى تلك الدول الثرية استعانت بخبراء من الدنمارك وهولندا لإنشاء مصنع للألبان ومشتقاتها. الآخرون يستطيعون حتى استنساخ الأبقار.
لكن الوافي يشير الى خطأ منهجي وقع فيه إبن خلدون، وهو أنه "لم يستقرئ الظواهر إلا لدى أمم معينة، وفي عصور معينة"، لينتهي من هذا "الاستقراء الناقص" إلى أفكار وقوانين ظن أنها عامة، وتصدق في كل مجتمع، وفي كل زمان..".
يأخذ مثالاً آراءه في العصبية، وفي الروح القبلية، بقوله "إن الدولة العظيمة الاستيلاء أصلها الدين".
الباحث يرى "أن هذه الحقائق، وأشباهها لا تصدق إلا على طائفة من الدول العربية، والبربرية، في مرحلة من مراحل تاريخها".
تأسيس علم الاجتماع
كما أخذ عليه مبالغته في تقييم "آثار البيئة الجغرافية في شؤون الاجتماع، ونسب إليها أكثر مما لها في الواقع"، وإن لاحظ، من ناحية أخرى ،"أن جوهر منهجه في البحث هو المنهج الذي لا يزال إلى الوقت الحاضر عمدة الباحثين في علم الاجتماع".
الوافي يخلص الى أن "الفضل في إنشاء علم الاجتماع لا يرجع الى فيكو (Vico) الإيطالي، كما يزعم الإيطاليون، ولا الى كوتيليه (Quetelet) البلجيكي، ولا الى أوغيست كونت، كما يقول الفرنسيون، وإنما الى فيلسوف عربي ظهر قبل هؤلاء جميعاً بنحو خمسة قرون"، ليذكّرنا بوصف المؤرخ النمساوي هامر بورشتيفال له (عام 1812) بـ"مونتسكيو العرب""، في مقارنة مع مونتسكيو الفرنسي صاحب كتاب "روح الشرائع".
صلة ملتبسة بالفلسفة
هناك آراء مختلفة في الكتاب حول إبن خلدون والفلسفة. مما قيل في هذا الصدد إن ثمة علاقة زئبقية أو علاقة ملتبسة، بينه وبين الفلسفة، مع اعتبار حساسية التداخل، في نقاط كثيرة بين الفلسفة والسوسيولوجيا.
الدكتور عبد الرحمن بدوي رأى أن إبن خلدون "لم يدرس نظم المجتمع الإنساني بصفة عامة، بل اقتصر بحثه في مجتمع واحد، هو المجتمع الإسلامي، المغربي منه بخاصة"، و"لا عبرة بالشواهد التي قد يلجأ اليها نادراً جداً من التاريخ غير الإسلامي مثل تاريخ بني اسرائيل أو مصر واليونان".
إبن خلدون وأنظمة الحكم
وأشار بدوي الى أن المجتمع الإسلامي "لم يعرف أنظمة الحكم اليونانية هذه: الديمقراطية، والجمهورية، والأوليغاركية، ولم يعرف فكرة "المدينة" بالمعنى الذي كان عند اليونانيين، ولا فكرة "المواطن الحر"، بل عرف المجتمع الإسلامي الخلافة والملك، وبينها دار نظام الحكم في الدول الإسلامية كلها". بل لاحظ أن هذه الدول نفسها سرعان ما انقلبت الى ملك. لهذا كرّس للملك فصولاً عديدة، مراتبه، وألقابه، وشاراته، وولاية العهد فيه.
إبن خلدون وفكرة العصبية
في نظر بدوي، فإن المجتمع المغربي جعله "يعلّق أهمية كبرى على فكرة العصبية، حتى أنه أخذ على إبن رشد عدم التفاته الى حقيقة العصبية"، ليسأل الباحث عما إذا كان إبن خلدون قد اطّلع على كتاب "السياسة "لأرسطو، وليجيب "لا بد أنه اطّلع على الكتاب في تلخيص إبن رشد إن لم يكن في نص ترجمته أيضاً، كما اطّلع على تلخيص إبن رشد لكتاب "الخطابة"، وفيه شطر صالح من الكلام على أنظمة الحكم في اليونان".
وأضاف بدوي أن إبن خلدون "لم يفد من أرسطو ما كان ينبغي له، وإلا كان عليه أن ينظر في أنظمة الحكم في بلاد اليونان، ويبحث في إمكان تطبيقها في بلاد الإسلام".
لكنه لا يلبث أن يستدرك، مبرراً موقف إبن خلدون بكونه "صاحب نهج تطبيقي، لا صاحب نظريات عامة في الدولة، والنظم السياسية، والنماذج العامة للمجتمع الإنساني"، ملاحظاً أنه "لم يهدف الى وضع فلسفة سياسية ولا حضارية، بل الى وضع بحث مونوغرافي، وضعي، وصفي، تطبيقي، للمجتمع الإسلامي في تطوره التاريخي حتى عصره".
أما الدكتور زكي نجيب محمود فيشير الى عنوان الفصل الرابع والعشرين من "المقدمة". هذا العنوان هو "في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها"، حيث يشرح إبن خلدون رأيه في الفلسفة، فيبدأ بعرض طبيعتها، ثم يعقّب على ذلك ببيان أوجه بطلانها. وأود، بهذه الكلمة الموجزة ، أن أبيّن أن الطريقة التي دحض بها الفلسفة من شأنها كذلك أن تدحض العلم الطبيعي. ولما كان إبن خلدون حريصاً على النهج العلمي، فهو ينقض نفسه بنفسه، ولكي يحقق غاية ثانوية بالنسبة إليه، ألا وهي تفنيد الفلسفة، لذا فوّت على نفسه غاية أساسية له، وهي تأسيس المنهج القائم على الاستدلال العقلي من مشاهدات صحيحة".
الوسيط بين الله والانسان
تلقائياً تقودنا المقاربة الفلسفية (أو السوسيو فلسفية) الى الباب الصوفي. فإبن خلدون يعتقد أن "الاتصال بين الحسي واللاحسي جوهر كل دين". كما أن "الروح البشرية هي الوسيط بين الله والإنسان". وقد اقترب من المتصوفة بقوله "إن الإنسان إذا احتفظ بحسن إيمانه، وتجرّد من رغبات اختلاق دين جديد، واجتهد للانفصال عن العالم الحسي، يستطيع أن يقترب من الجوهر الإلهي".
موقف إبن خلدون من علم الكلام
الدكتور أبي العلا عفيفي يرى أن موقف إبن خلدون من علم الكلام يتماهى مع موقف المتصوفة، أي "الارتفاع بالعقائد الإيمانية عن مستوى الأدلة العقلانية، بل إنه ليستشهد على موقفه هذا بما روي عن أبي القاسم الجنيد الصوفي من أنه مرّ ذات يوم بقوم من المتكلمين يفيضون في علم الكلام، فقال "ما هؤلاء؟". قيل له "قوم ينزّهون الله بالأدلة العقلية عن صفات الحدوث وسمات النقص"، فقال "نفي العيب، حيث يستحيل العيب، عيب".
إبن خلدون وآدم سميث
في المقاربة الاقتصادية، يشير الدكتور محمد حلمي مراد الى الباحثين الغربيين والعرب الذين كتبوا في هذه المسألة. إذ يحيلنا الى دراسات هؤلاء، يرى أنه "اذا كانت النظرية العلمية التي وردت في كتاب آدم سميث "ثروة الأمم Wealth of nations الذي وضعه عام 1776، قد أسبغت على هذا الأخير لقب "أبو الاقتصاد"، فما أجدر إبن خلدون، وأحقه بهذا اللقب. فقد سبق الى اتباع النهج نفسه ببضعة قرون(3 قرون)."
وقال مراد: "لعله من المصادفات اللافتة أن يستهل إبن خلدون الفصل الأول من مقدمته بتناول "تقسيم العمل"، أي المنحى ذاته الذي اعتمده الاقتصادي الإنكليزي"، معتبراً أن إبن خلدون "أسبق المنادين بمذهب الاقتصاد المرسل ( الاقتصاد الحر Laissez faire ) ) وإبعاد الدولة عن التدخل في الحياة الاقتصادية. وقد عبّر عن ذلك قبل ظهور الطبيعيين (Les physiocrates ) في فرنسا، وآدم سميث في انكلترا الذين يعتبرهم الاقتصاديون المحدثون أصحاب مذهب الاقتصاد المرسل".
في هذا الصدد، يرى إبن خلدون أن "مضايقة التجار والفلاحين في شراء الحيوان والبضائع، وتيسير أسباب ذلك، فإن الرعايا متساوون في اليسار، متقاربون، ومزاحمة بعضهم البعض ستنتهي الى غاية موجودهم، أو تقرب. وإذا رافقهم السلطان الى ذلك، وماله أعظم بكثير منهم، فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجات، ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد".
هذه نظرية في النقد أيضاً. ربما بذلك استشرف عن بعد الكثير من الإجراءات النقدية التي كانت مثار نقاشات واسعة النطاق في زمننا. ثم "إن الله خلق الحجرين المعدنيين الذهب والفضة قيمة كل متموّل، وهما الذخيرة والقنية لأجل العالم في الأغلب. وإذا تقرر هذا كله، فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع، فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله، وهو القصد بالقنية".
إبن خلدون والثورات
كلام للدكتور علي الوردي عن نظرة إبن خلدون الى الثورات، فهو "يتطرف في ذم الثوار الفاشلين. يصفهم بأنهم حمقى أو مشعوذون لأنهم، حسب رأيه، قاموا بثوراتهم من غير عصبية كانت تسندهم، فأنتجوا الفوضى وسفك الدماء، دون جدوى، وهو يقترح لعلاجهم طرقاً تختلف باختلاف الأذى الذي يلحقونه بمجتمعهم".
انتقادات شتى طاولت بعض أفكاره في هذا المجال، والى حد اتهامه بتشريع العنف، والتناغم مع الأنظمة التوتاليتارية حين يرى أنه "يجب أن يعالج هؤلاء بالمداواة اذا كانوا من أهل الجنون، أو يعالجوا بالقتل والضرب إذا أحدثوا في ثورتهم فتنة وحرجاً. وإذا لم يكونوا من هؤلاء وأولئك، فالواجب إذاعة السخرية منهم واعتبارهم من جملة الكذابين".
الوردي يعتبر أن نظرية إبن خلدون "كانت عبارة عن ردة فعل للنزعة الطوباوية التي كانت تسيطر على أذهان الفلاسفة والمفكرين القدامى، فقد كانوا مشغولين بالأفكار الوعظية العالية والتي لا صلة لها بواقع الحياة".
يضيف الوردي: "إذا اعتبرنا تفكير القدامى Thesis أي الأطروحة في العملية الديالكتية، جاز أن نعتبر تفكير ابن خلدون Antithesis أي النقيض على حد تعبير هيغل".
يلخّص الباحث العراقي الوردي النظرية الخلدونية بأنها "تصوّر لنا المجتمع كمثل الاستقطاب الكهربائي، إذ فيه القطب السالب والقطب الموجب. هذان القطبان في اتصال مستمر حتى يجري التيار دائماً، وتنتج عنه مختلف الظواهر التاريخية والاجتماعية".
لم يكن أهل الفكر فقط من تأثروا بإبن خلدون واختلفوا معه. أهل السياسة أيضاً. راجاراتنام، العقل الديناميكي الذي كان وراء نهضة سنغافورة، تأثر بإبن خلدون في النظرة الى العصبية كإحدى دورات الأجيال الثلاث. لكنه اختلف معه، لأن راجاراتنام يعتقد أن باستطاعة إرادة الانسان أن تكسر تلك الحتمية التاريخية.
على كل، نحن في قرن التحولات الكبرى، إن على المستوى الوجودي، أو على المستوى الفلسفي. قد نكون أمام صناعة أخرى لزمن آخر. كثير من النسيان يمكن أن ينهال على أفكار القدامى، وحتى على أفكار المحدثين.