أمّي فاطمة
هنيئاً مقامك الرفيع عند الله، أيتها المقاومة المجاهدة التي لم تهب "إسرائيل" أبداً، فلم تخرج من بيتها في جميع الحروب. ولم تهزّها صواريخ الطائرات وقذائف المدافع.
إلى صاحبة الوجه المشرق الوردي.. أمّي فاطمة التي لم تخلع يوماً رداءها الأبيض.
**
ها قد انتهت سنوات الفراق، وتحققت أمنيتك بعد 29 عاماً من لوعة الاشتياق. أخالك مع أخي الشهيد محمد، يأخذ بيدك بعدما هيّأ لك استقبالاً حاراً ومهيباً. كيف لا، وأنت التي حملت في بطنك بذرة شهيد، ثمّ وضعته حتى أصبح يافعاً، فنصر الله ورسوله بروحه، وقدم دماءه الزكية على مذبح الوطن، وفي سبيل تحرير الأرض والإنسان من دنس الصهاينة المحتلّين.
منذ أن أذن لك الله بقدومك إليه، استنفرت ملائكة السماء لتزفّك إلى الجنان، حيث كان ينتظرك محمد. وقد اصطفّ معه على مداخلها جمع من الشهداء ممن عرفتيهم وعرفوك، وآخرهم الشهيد حسين ناصر الدّين، قبل عروج روحك الطاهرة إلى الملكوت الأعلى.
اعذريني لأنني لن أقول "أمّي"، فأنا لا أقدر على نطقها وأنت غائبة عني. بل سأناديك بفاطمة، التي لا زلت أتوهم بأني سأراها كالعادة كلّ صباح. حينها، لم يكن يستقيم يومي إلا برؤياك، لكي تمسحي بيديك المتعبتين وجهي، فيسري دفء حنان نورهما المقدس في أنحاء جسدي الذي يتوق دائماً إلى لمسة رضاك.
أيتها المرأة التي حاكت لنا بأصابعها الذهبية خارطة الأيام، فطيفك لا يزال يحوم في كلّ زاوية وشبر من أرجاء المنزل. ومع ذلك، لا أقدر على النظر إلى سريرك الفارغ، بعدما كان قِبلتي، وزيارته فرضاً من فروضي اليوميّة كصلاتي.
كم ندين لك، لا لأنك ربّيتنا وعلّمتنا فقط، لكن حقّك علينا أكبر من أن نقوى على أن نوفيه لك. يكفي أنّك رسمت لنا منذ نعومة أظافرنا طريق العلم، ورصفته بقوالب إيمانك الراسخ الذي لم تزحزحه السّنون والأيام. كنت لنا بمثابة المنارة التي أهتدينا بضوئها، ومشينا بعدها على قناديل عينيها ، حتى وصلنا إلى شاطئ الحقيقة، ونجحنا في التغلّب على أمواج الباطل، التي كنا محصّنين من غدرها بفضل طوق الأمان الذي لطالما حرصت على لفّه حول أعناقنا.
في مدرستك، لم تعلّمينا أصول الحياة فقط، كاحترام الآخرين، والعطف على الصغير، ومساعدة الكبير، ومحاربة الظلم والظالمين، والتمسّك بالحقّ ومناصرة المستضعفين والمحرومين، بل كانت الصلاة في طليعة فصولك الدراسية التي تشربنا حبّها، وقمت بتلقيننا حروفها الذهبية المقدّسة.
من منا، ومعنا جميع من دخل منزلك في جميع الأوقات صباحاً ومساء، لم ير تلك الصورة الخالدة، وأنت تحملين كتاب الله، القرآن الكريم، الذي لم يكن يفارق يديك الطاهرتين ليلاً ونهاراً حتى مطلع الفجر، أو يسمعك تترنمين الادعية، كلّ يوم جمعة، فتخشع الكائنات من صوتك الذي كان يصدح في أرجاء الدار، على الرغم من أنّك حرمت من حلقات العلم، ولم تتلقي يوماً دروساً في القراءة أو الكتابة، أيّ سرّ منحك إياه الله يا فاطمة، لتفكّي حروف كتابه المقدّس بفطرة إيمان قوية على ترتيل آياته المحكمة؟
وعلى ذكر الفجر، فلنا حكاية أخرى وقانونك الخاصّ الذي وضعته لنا. كنت تدورين كلّ فجر على الجميع، تناديننا ونحن صغار، وحتى بعد أن كبرنا، كلّ واحد باسمه، وأنت تقولين: "حيّ على الصلاة". إذ كان النوم في عرفك، في هذا الوقت، خطاً أحمر يحظر علينا تجاوزه، ومن يفكر بالمخالفة كان مصيره التأنيب، وربما عاقبته بغضبك المحذور.
تلك هي فاطمة الصالحة، التي لم تخلع عنها ثوب الصلاة الأبيض كقلبها الناصع، إلا مكرهةً أو لأمر طارئ أو أثناء قيامها بالواجب أو الزراعة. فتعلّقها بالأرض يفوق الخيال. حين لم تكن تحمل القرآن، كان "المنكوش" رفيق دربها الدائم، حتى أصبح منزلنا بفضل يديك المباركتين حديقةً صغيرةً غنّاء تسرّ الناظرين.
كيفما اتجهت كانت تغرس وردةً أو نبتةً أو شجرة. فكلّ حقول وكروم العباسية تقريباً، لك فيها ذكرى بحلوها ومرّها، وترابها يفخر بأنّه طالما احتضن زهرك الذي سقيته بعرق جبينك المجبول بندى فجر ربيعيّ كطلّتك البهيّة.
أحاول دائماً أن أحافظ على إرثك الأخضر الذي تركته لنا. أزرع في المواسم أحياناً ما خفّ حمله من شتول هنا، وأروي أخرى هناك. لكن أقرّ أنّ الأرض تأبى إلا أن تحيا بأنفاسك، و لا تأنس إلا برقة يديك.
صحيح أنّ رحيلك هزّني وهالني، ولا أخفي عليك أنّ رؤيتك في سرير المستشفى كانت أشدّ وقعاً عليّ من ثقل الجبال، فأنت لم تعرفي الضّعف يوماً. غير أنّ طاقة حبل سرتك كان كفيلاً أن يمدّني في تلك اللحظة العصيبة بالقوة والصّلابة ليجعلني أنهض، وأنفض عني غبار الحزن، وأقف صلباً كالجبل، لا تهزّه المصاعب ولا تثنيه المصائب عن إكمال مسيرتك والعمل بسنّتك في مختلف أمور الحياة.
نعم، أنا ابن فاطمة العزيزة العصامية التي كانت تجيد فنّ الحياكة والتطريز، فتحول قطعة القماش إلى لوحة آسرة، زينتها أصابعك الرشيقة بخيوط ملونة، تحاكي جمال عينيك العسليّتين وشعرك الأشقر الذهبيّ، الذي يشبه خيوط شمس الصباح، المشرقة كوجهك الدائم، ومجسّدةً جمال الطبيعة والحياة.
أيتها المرأة العظيمة، هذا الشتاء سيكون الأقسى علينا، لأننا سنحرم من حرارة أنفاسك التي كنا نتدفأ منها، وتمدّنا بالحياة. ليته لا يأتي، لأنّ وهج الفراق أشدّ ألماً ووجعاً من لهيب النار.
نفتخر بك يا خير النساء، وبإنسانيتك الممزوجة بالعاطفة الإيمانية، التي طالت حتى الحيوانات والطّيور التي وقفت فجر رحيلك تغرّد بصوت حزين لم نعتده من قبل، كأنها عرفت أنّك قد غادرت هذه الدنيا، فآثرت إلا أن تودّعك وتبكيك معنا، فترفع رأسها إلى السماء، وهي تدعو لك وتشكرك على رعايتك الدائمة لها، فهي لم تعرف الجوع أو العطش في حياتك، لأنّك كنت تحرصين على أن تقدّمي لها الماء والطعام يومياً.
مهلاً يا صاحبة الوجه الورديّ المشرق دائماً، أثرك الطيب باق في قلب كلّ من عرفك، صوتك لا يفارق آذاننا. أما صورتك فستبقى خالدة في ذاكرتنا، ومحفورة على أوراق الورود والأشجار. أما عرق جبينك الطاهر، فهو كماء الحياة الذي لطالما روى الأرض التي لن تظمأ بعدها أبداً.
هنيئاً مقامك الرفيع عند الله، أيتها المقاومة المجاهدة التي لم تهب "إسرائيل" أبداً، فلم تخرج من بيتها في جميع الحروب. ولم تهزّها صواريخ الطائرات وقذائف المدافع. فقد ظلمت كثيراً في هذه الدنيا، وتحمّلت الأذى، وكنت صابرةً محتسبةً، فلم تحملي في نفسك الزكية الكره والبغضاء لأحد.
أما الآن وقد رحلت، فكلماتي أصبحت يتيمةً في غيابك، تبحث عما يبرّد نار فراقك، وقد تملّكها الشوق لأن تزيّن حروفها بسيرتك الفاطمية التي سنخلّد صفحاتها، ونحفظ سطورها عن ظهر قلب، ونغرف من عبرها كدستور حياة.