أسرار القيادة عند كيسنجر (2 - 2)
نصح لي كوان الولايات المتحدة بعدم "معاملة الصين كعدو منذ البداية"، خشية أن يدفع ذلك بكين إلى "تطوير استراتيجية مضادة من أجل القضاء على مصالح الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ".
الفصل الثالث: ريتشارد نيكسون
يذكر كيسنجر لمجلة التايم الأميركية سبب إدراج نيكسون ضمن أهم ستة قيادات عالمية بقوله: أدرجته لأنني أؤمن بمجال السياسة الخارجية، الذي عرفته فيه أفضل ما يكون، فقد تولى المسؤولية في وضع صعب للغاية ومتدهور وحاول إظهار مخرج منه، وبعض سياساته في الشرق الأوسط وفي الصين، على سبيل المثال، حدّدت نمطاً استمرّ لأكثر من جيل. وبهذا المعنى، أعتقد أنه كان له تأثير تحويلي. لقد كان الرئيس الأميركي، من بين أولئك الذين عرفتهم، الذي فهم بشكل أفضل تأثير المجتمعات على مدى فترة من الزمن في مجال السياسة الخارجية.
إن قسماً كبيراً من دراسة كيسنجر لنيكسون في كتابه "القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية" يتناول سياستين: الجهود المطوّلة لانتشال الولايات المتحدة من حرب فيتنام، والمحاولة الجريئة لبناء علاقات جديدة مع الصين، جزئياً كوسيلة لتقويض الاتحاد السوفياتي.
يعتبر الفصل عن تجربة نيكسون هو فصل دفاعي وتبريري. فخلال الحرب الباردة، أعطى ريتشارد نيكسون، كما يشير كيسنجر ــــــ الذي كان على اتصال يومي به قبل استقالة الرئيس بسبب ووترغيت ـــــ ميزة جيواستراتيجية للولايات المتحدة من خلال "استراتيجية التوازن" وفهم كما يراه كيسنجر "كيفية موازنة الموازين الدقيقة للنظام العالمي".
الفصل الرابع: أنور السادات
يتحدّث كيسنجر عن الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بإعجاب شديد لأنه "اتخذ القرار الشجاع بالانفصال عن بلاده العربية والحلفاء وصنع السلام مع إسرائيل". فقد وقّع السادات أوّل معاهدة سلام إقليمية مع "إسرائيل" بعد 25 عاماً من الصراع، من خلال ("استراتيجية التعالي"). ويصفه بأنه مهندس مصر ما بعد الحرب، فقد أدّى السادات دوراً حاسماً في اتفاقيات كامب ديفيد عام 1973.
وعند وصف "العملية التاريخية" التي أدّت إلى هذا الإنجاز "المتوّج والمؤقت"، يقول كيسنجر: فرق مهم بين السادات وعبد الناصر، عندما يؤكد أسلوب السادات الدبلوماسي الذي كان على الطراز الغربي تقريباً. وكان، في رأي المؤلف، نهجاً حاسماً أدى إلى معاهدة "السلام" بين "إسرائيل" ومصر. على الرغم من أن كيسنجر يعترف بذلك ويضيف أن المنافسة في الشرق الأوسط لا تزال حاضرة بقوة.
الفصل الخامس: لي كوان يو
يعتبر لي كوان يو الممثّل الآسيوي الوحيد في هذا الكتاب. فيبدي كيسنجر إعجاباً شديداً بتجربة لي كوان كمؤسس سنغافورة الحديثة وأول رئيس وزراء لها.
فأهم إنجازاته هو إحداث تغيير جذري في سنغافورة، وهي دولة جزرية معزولة وفقيرة وصغيرة، كانت موطناً لسكان منقسمين، صينيين وهنود وماليزيين، لا يملكون أي تاريخ أو لغة أو ثقافة مشتركة، فحوّلها إلى دولة متماسكة يتمتع أبناؤها بأعلى دخل للفرد في آسيا.
وقد جلب التماسك الوطني إلى سنغافورة رغم كل الصعاب، من خلال "استراتيجية التميز" واستطاع لي كوان فعل ذلك جزئياً من خلال سحق معارضته السياسية بسرعة، ثم تولّي الحكم من دون منازع. وقد تحلّى بقدرة غير عادية على الابتكار في سياساته الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك في خلق الروح الوطنية "للنجاح المشترك"، إذ اتخذ من لغة الملايو والماندرين والتاميل والإنكليزية، أربع لغات رسمية.
في سنواته الأولى، أنفق على التعليم قسطاً مذهلاً يعادل ثلث الميزانية الوطنية. واستخدم لي كوان الحصص العرقية وحصص الدخل للقضاء على الفصل بين أبناء الأعراق المختلفة في الإسكان. وكذلك تحدّى الحكمة الاقتصادية السائدة في ذلك الوقت من خلال استقدام الشركات متعدّدة الجنسيات وتشغيلها بنشاط. لقد حارب الفساد، وخفض التلوّث، وزرع الأشجار، وتلقّى تقريراً أسبوعياً عن نظافة الحمامات في المطار، حيث قد يشكّل المستثمرون الأجانب انطباعاتهم الأولى عن البلاد. ووفق تقدير كيسنجر، فقد بنى لي كوان القوات المسلحة الأكثر اقتداراً في جنوب شرقي آسيا. ويحذّر كيسنجر من أن النمو الاقتصادي قد لا يكون كافياً للحفاظ على التماسك الاجتماعي في سنغافورة.
ويخلص كيسنجر إلى أن سنغافورة لا تزال في مرحلة إيجاد التوازن المناسب بين "الديمقراطية الشعبية والنخبوية الحديثة".
في السياسة الخارجية تميّزت سياسة لي كوان بكونها بارعة أيضاً. "لقد نجح في صد ماليزيا وإندونيسيا المجاورتين، وفي مواجهة التهديد الذي يلوح في الأفق من القوى العظمى. ووصف سنغافورة بأنها "فأر" بين "الفيلة"، ثم قرّر أن يدرس عن كثب عادات الفيلة. وفي النهاية، أصبح مستشاراً يحظى بالاحترام لبكين وواشنطن، إذ نصح الولايات المتحدة بعدم "معاملة الصين كعدو منذ البداية"، خشية أن يدفع ذلك بكين إلى "تطوير استراتيجية مضادة من أجل القضاء على مصالح الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ".
وفي المقابل، نبّه لي كوان حكّام الصين إلى ضرورة "توعية الشباب الصينيين بالأخطاء التي ارتكبتها الصين نتيجة للغطرسة والتجاوزات الأيديولوجية"، وتعليمهم كيفية "مواجهة المستقبل بتواضع ومسؤولية". وتفوّق لي كوان على معظم القادة في فهم المعضلات التي سيطرحها نمو الصين، خصوصاً بالنسبة إلى واشنطن، وحثّ القادة على جانبي المحيط الهادئ على منع تحوّل المنافسة الحتمية بين واشنطن وبكين إلى حرب.
الفصل السادس: مارغريت تاتشر
ضمن القيادات الستة يذكر كيسنجر سيدة واحدة هي مارغريت تاتشر التي كانت أول امرأة تصبح رئيسة وزراء بريطانيا والتي كانت توصف بـ "المرأة الحديدية"، والتي أخرجت المملكة المتحدة من ركودها الاقتصادي في الثمانينيات، وجدّدت معنويات بلادها ومكانتها الدولية من خلال "استراتيجية الإدانة"، بعدما كانت تعرف باسم "رجل أوروبا المريض".
يتحدث كيسنجر عن ثباتها الشخصي ويعتبره أعظم مورد يمكن أن تحصل عليه من أجل القيادة. ولأنها مجهّزة بمثل هذا المورد، شقّت تاتشر طريقها حتى في حزب المحافظين الذي يهيمن عليه الذكور، وفرضت العديد من الحرية سياسات السوق التي بشرت بها الفردية التي كانت.
ويكشف هنري كيسنجر شيئاً أو حقيقة غير معروفة من قبل، وهي أن المرأة الحديدية هي من ضغط على أميركا للمشاركة في حرب تحرير الكويت، وأن جورج بوش الأب لم يكن في البداية متحمّساً لذلك. وقد عزّز موقفها الثابت تجاه جزر فوكلاند في عام 1982 ورفضها قبول استيلاء الأرجنتين عليها. والتهديد الشيوعي خلال الحرب الباردة، ونهجها تجاه الجيش الجمهوري الإيرلندي في ذلك الوقت من العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة .
نشير إلى أن كتاب "القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية" صدر بالإنكليزية عن دار "بينجوين" في نيويورك، هو الكتاب الأخير في مؤلفات كيسنجر. ومن ضمن كتبه كتاب "الدبلوماسية" الصادر عام 1994. نُشر كتابه الأول بعنوان "الأسلحة النووية والسياسة الخارجية" (عن مترنيخ وأوروبا ما بعد نابليون) في عام 1957.