"أرض الزئبق" لنعيم تلحوق .. سِفرٌ فريدٌ للّغة والمعنى
"شيئان اكتشفهما قلبي: اللغة التي تتقن الانتظار، والخيل التي تتقن صهيلها لتحافظ على معناها، بين "ميرنا" و"حنين" صدى الأوراق التي جرّدتني من الهوى، فصرتُ لا أعلم من أكون".
"صاحبي الناقد التشكيلي والمسرحي صرّح لي حين لكمته بصراخي وهو ينظر بعينيه الفاجرتين إلى ابنة الثامنة عشر وهو فوق الثمانين -قبل موته بقليل- : عش اللحظة لا الحياة، لا تفكّر كثيراً، اكتب عنك في الكتابة عن الآخرين، عش العيش لا الحياة.. لماذا تتعب نفسك في البحث عن معناك؟"
هذه ومضةٌ من معالم "سردّية المعنى" التي يقدّمها الكاتب والشاعر اللبناني نعيم تلحوق، في كتابه الصادر مؤخّراً عن دار فواصل للنشر في بيروت بعنوان "أرض الزئبق".
"سردية المعنى" هي العبارة المثبّتة أعلى يمين الجهة الأمامية للغلاف، كأنّها وصفٌ للنوع الأدبي الذي ينتمي إليه الكتاب، وتبدو في "أرض الزئبق" عالماً للكتابة الفنيّة الملتبسة بين السَّرد والتخيُّل والتأمُّل الوجوديّ والسؤال، ونكش زوايا الذاكرة البعيدة، داكنةً كانت أو مشرقة.
فضاءٌ هلاميٌ غير متوقّع، يأخذُنا خلاله تلحوق بانتقالات ساخنة بين المواضيع وتقنيات السَّرد عبر التداعي النفسيّ، كأن الكتابة جلسة مصارحة علنيةٍ حادّة وصادقة، لا إطار أسلوبي لها، فهي زهور تنبت من أعماق الوعي السّاكن لكاتبٍ غزير المعرفة، وتشتعل حال ارتطامها بسطح اللغة، فتومض بالحرارة والدخان والأثر.
انطلاقاً من الإهداء "إلى أمي اللغة.. وأبي المعنى.. روايةٌ لن تكتمل فصولاً" الموحي ربما إلى الرواية الحديثة بوصفها خارجةً على النمط السّردي الكلاسيكي والاكتمال المنطقيّ، إلى مساحةٍ بعيدةٍ عن الأحكام المسبقة والقوالب الجاهزة. إلا أنه منذ النص الأول يعلن تمرّدهُ على هذا الوصف الحداثيّ أيضاً وعلى الرواية اللبنانية والعربية.
يمشي تلحوق في طريقه تحت عناوين فرعية تحضر كلمة "المعنى" في أكثر من نصفها كمضافٍ إليه (سبيل المعنى، بلاغة المعنى، بياض المعنى، إلخ...) فيما تحضر كلمة اللغة مضافاً إليه أيضاً في عنوانين هما "شغف اللغة" و"عبث اللغة" وفي هذا إشارةٌ بالغة، بينما تدور العناوين الباقية في الحقل المعجمي للخوف والتعب والرؤيا والذاكرة.
يمزجُ تلحوق في الأفكار التي يطرحها - بشكلٍ ما - بين العلميّ والخياليّ، وبين الصّوفيّ والعقليّ، وبين الشّعريّ والفكريّ، وبين الإيمانيّ والفلسفيّ، ويذكرُ أسماء شخصياتٍ في مختلف مجالات الحياة، ما يشير إلى ثقافة موسوعيّة وشغفٍ بما هو غامضٌ ومعقّد ومثير وغير نهائي.
يفرّق بين العلم والمعرفة بوصفهما مفهومين متكاملين ومختلفين، يتحدّث عن المجرّات والنجوم والكواكب بأسمائها ويُكثرُ الإشارة إلى الفضائيين، يحدّثهم ويتلقّى منهم ويذهب أبعد من ذلك حين يشيرُ إلى أشخاص حقيقيين بوصفهم فضائيين!
يتحدّث الكاتب بجرأةٍ حادّة وصراحةٍ تامّة عن تجارب حياتيّة قد يعدّها البعض محرجة أو قاسية، يصف بتفصيل ويسردُ بذاكرةٍ متماسكة مركّزاً على ما يستفزُّ العقل والحواس معاً ليمنح القارئ تجربةُ مختلفةً ومحفّزة.
ينطلق النصُّ المعنون "شغف اللغة"، بشكلٍ بعيدٍ تماماً عمّا يمكن أن يوحي به العنوان، من فكرةٍ تتعمّدُ أن تكون إشكالية، وهي أن "انزياح الصّواب خطأٌ جسيم، وانزياح الخطأ صوابٌ كامل". فكرةٌ تصلحُ أرضيةً لما سيأتي بعدها من سردٍ ينقلُ لنا تلحوق خلاله مشاهد متفرّقة تتراوح بين الايروتيك الحسيّ والعاطفة المجنونة والحزن الناتج عن الفراق، ذاكراً خمسة أسماءٍ لنساءٍ المرجّح أنّهن كنَّ شريكاتٍ أو حبيبات، منهنَّ "لؤى" التي تكرّر اسمها كثيراً في نصوص الكتاب، ومنهنَّ "لمار" التي تحدّثَ عنها بنفسٍ حزين، كما ورد وصف "الصهباء" لامرأةٍ تحدّث عنها بحسيّةٍ عالية. ولا ندري إن كانت واحدةً من المذكورات بالاسم أم امرأةً تجنّبَ لسببٍ ما ذكر اسمها، عموماً فالنصُّ يتّخذُ طابعاً قلقاً بالتدريج، وينتهي بهاجسٍ عالٍ واكتشافين لا يخفّفان من القلق والحيرة:
"شيئان اكتشفهما قلبي: اللغة التي تتقن الانتظار، والخيل التي تتقن صهيلها لتحافظ على معناها، بين "ميرنا" و"حنين" صدى الأوراق التي جرّدتني من الهوى، فصرتُ لا أعلم من أكون".
ربّما كان قصدُ تلحوق من هذا الكتاب تكسير كل أنماط الكتابة حديثةً كانت أم كلاسيكيّة، وربما كان يبتغي محض تفريغ هذه الطاقة الذهنية والشكوك الوجوديّة في مدوّنةٍ تحيلها إلى أيقونات وطواطم. ففي الحالتين، قد نجح في كتابه هذا أن يكون ذاته المتفرّدة، لا يشبه شيئاً ولا ينتمي إلى شيء.
وفي ما يلي مقطعٌ من أحد نصوص الكتاب بعنوان "انحناء المعنى" قد يصلح خاتمةً لهذه الجولة في "أرض الزئبق":
"هل لأني أتكلم العربية أنا مهزوم؟ أم لأن شيئاً آخر يحصد الكوكب الذي نعيش فيه ولم أدركه بعد؟
كان الصوت ينادي "الانتماء"، الصوت هو ضمير لغوي مسكون بأبجديات العصور، لا علاقة له بحروفٍ أو عبارات... لقد رسمت وجهي على قدر ما استطاعت ملامحي، وكنت دائماً أبحث عن إشارات وإيحاءات حركيّة أرصدها في تفاصيلي، لأعبّر عن الصوت الذي لم يحدث لي، ولم يحدّثني بعد عمَّن أنا ومن أكون، وماذا أريد؟
بحثت في جنون الكتب المؤلفة، عمن أنا وكيف أكون... فبدأت بسقراط "اعرف نفسك"، فعرفت أنّي لا أعرف شيئاً... ثم "جمهورية أفلاطون"، فتوتّر العصب عندي حين استرحتُ على مُثُل لن أدرك كنهها..! وذهبت إلى الفارابي في مدينته الفاضلة فلم أستطع الحصول منه على وثيقة رسمية تثبت أهلية انتسابي إلى هذا الكون.. فحاججت علي بن أبي طالب فغلبني في نهج البلاغة، عدتُ إلى لزوميّات المعرّي فقتلني الوصول إلى المعنى... صرت بين الفكر والواقع أحار من هو العالم... وما هي مشكلتنا نحن الذين نبحث عن فضائنا الإنساني... فلم يكن ماركس في رأس المال يغويني لأسباب طبقيّة، ما سوى عبارة أغفلها أتباعه النظريون، الأفكار تسقط وتموت حين تصبح أيدولوجيا...".