"أرض الزئبق".. عن أفكار نعيم تلحوق الفلسفية
البارز في سردية "أرض الزئبق"، أنها تدرس إعادة تشكيل الكون وفق رؤى ومفاهيم روائية شعرية فلسفية وإنسانية.
"أرض الزئبق – سردية المعنى"، عبارة عن ملحمية روائية تتجلى فيها فلسفة الوجود ومعنى استخراج المعنى من الوجود وسر الحياة والإنسان، إضافة الى حوار لا ينتهي بين مكنونات متناقضة، استخلص منها المؤلف الشاعر نعيم تلحوق مزيجاً من الرواية والرؤية الفكرية والشعرية المعلقة على أرض زئبقية في كتابه "سردية المعنى: أرض الزئبق".
ذهب تلحوق في سرديته إلى الإضاءة على داخلنا بغية كشف أسرار النفس وما يحتوي عليه من شرود ذهني لاستخلاص المعاني، مستعملاً قدرته التخيّلية على فكّ المعادلة الوجودية عبر استخدامه المصطلحات الصوفية والفلسفية والرموز الدينية والظواهر العلمية لاستخراج المكنون منها إلى ضمير المعنى.
كذلك، اعتمد تلحوق في كتابه على تجربته الذاتية بجرأة متناهية، فكشف الحجاب عن عينيه ليرى، وتمكّن بقدرة فائقة من تحويل المشهد إلى صورة، والصورة إلى معنى، والمعنى إلى خلاصة تعيد خلط الأوراق في أذهاننا لننجو من هذا العالم الكثيف؟.
كتاب "سردية المعنى – أرض الزئبق"، من القطع الوسط يقع في 160 صفحة صادر عن دار فواصل في بيروت العام 2022، للمؤلف تلحوق.
معادلة الخوف
كانت تجارب المؤلف مع المرأة هي المعنى الذي أسّس عليه تلحوق سرديته مع معظم النساء اللواتي عرفهنّ في حياته. لهذا جاء إهداؤه السردية "إلى أمي اللغة، وأبي المعنى، رواية لن تكتمل فصولاً وربما لا تكتمل أبداً، "هذا يشير بأن المعنى عند تلحوق لا ينتهي حتى يتجسّد النور الأسمى ويعلن عن نفسه"، فاللغة هي وسيلة المعنى الذي هو الغاية والغاية التي هي بدورها غاية الغايات.
البارز في سردية "أرض الزئبق"، أنها تدرس إعادة تشكيل الكون وفق رؤى ومفاهيم روائية شعرية فلسفية وإنسانية لا إلهية. ويدعونا إلى التفكير مرة جديدة لإعادة النظر بما ارتكبنا من أخطاء اعتبرناها صحّاً، وكم من صحيح عرفناه فاكتشفنا أنه من الأخطاء الكبيرة.
على مدار سبعة عشر نصّاً، تبدأ الإبحار في أرض الزئبق ونجد المؤلف قد انطلق من "ذاكرة التراب" و"الرحلة نحو المجرة" و"سبيل المعنى" مروراً بـ"عبث اللغة" و"طريق التعب" وصولاً إلى "جسد المعنى" وسقوطه وسكونه حتى "المعنى من المعنى"، يشتاق القارئ إلى متابعة السردية والغوص عميقاً في الإبحار من دون ملل أو كلل.
الأم هي الأرض وهي المعنى
كلما ضحكت أمي في وجهي عرفت أن خوفاً يداهمها، فهي لا تقوى على حركة النبض حين يصيحُ شيء ما في داخلها، هي تفهم أن حركتها معادية لتعب الحياة ومشقّة العابرين للحظاتهم. تعرف متى تقرّب الأبعدين، وتُبعد الأقربين... نبضها سلاحٌ يشعرني أن خوفاً عارماً يخامر مقلتيها كلما ناصَ قنديلٌ في زوايا البيت، أو انطفأت شمعة في خبايا الضوء... الذبول حالة عارمة تتصيّد الإنسان الموقن أنه إلى زوال، والعتمة أكبر قنّاص للضوء فيما يعتقد الكثيرون أن العكس هو الصحيح. لم أوقن حتى اللحظة علام تبتسم أمي على حين غرّة، وهي سقف البيت الذي لم يعرف الضحك والابتسام يوماً.
فلسفة الوجود في سردية المعنى
لا شيء يستحق أن تكون واقفاً على آمالك. معظم الذين توسمتُ بهم خيراً خذلوني، خابوا معي، وخبت بهم. وسألت لماذا عليّ أن أحنق طالما الهواء الذي نتنفسه واحداً. فأنا الخائب الأكبر الذي خيَّب نفسه وما استطاع أن يسترد ثقته بالمحيط. هل هو إحساس فرويدي يرسم كرهك لنفسك والأشياء المحيطة من حولك، أو إنه اللاوعي الجمعي الذي استقصده (كارل غوستاف يونغ) ليحقق نجوميته من خلال استصداره قرار إعفاء نفسه من ذمة البشرية والخلق؟؟ ما الجدوى من وجودك؟ لماذا أنت؟ لماذا الإنسان بكلّه، وما المعنى من وجوده؟.
الفيلسوف الماركسي قال: «إسأل الله»؟!
الشاعر الوجودي قال: «كي أزيد الكوكب حرارة أو برودة»؟! أما المفكر العلماني فقال: «كي أحبَّ ويكون لدي قضية»؟
العالم رغبة إضافية لسلوكنا، نحن الذين ننهش كبد الأرض ظناً منا أنها المستطاع الذي نملكه، وهي نفسها تورثنا الخيبات والآمال التي عقدناها فتُجدِّد عقدها معنا، كل مئة سنة.
أسأل نفسي، هل نؤمن بالأدوار؟
هل تؤمن بالتقمص؟ بالنسخ؟ بالفسخ؟ بالمسخ؟ بالرسخ؟ بالتماهي بالحلولية، بالاتحاد؟ بالمغايرة التي لا تقف عند حدّ.
يقيم الشاعر تلحوق حواراً افتراضياً مع صاحبه الناقد التشكيلي والمسرحي الذي صرّح لي - قبل موته بقليل - «عش اللحظة لا الحياة»، لا تفكر كثيراً، أكتب عنك في الكتابة عن الآخرين، لا شيء يفهم أحد سوى.
أن تعيش، «عش العيش» لا الحياة... لماذا تُتعب نفسك في البحث عن معناك» كذلك هي السعادة التي تحدث عنها المفكر التأملي الهندي أوشو.
مخاطبة مع مخلوق افتراضي
تبدى لي أن أكثر من مخلوق فضائي ( كائن أفتراضي خارج كوكب الأرض ) يرسمون صورة الكوكب الجديد، نحن جينات لم تكتمل بعد لقربها من علامات المحو. كل شيء فيها قابل أن ينتهي بخلل بسيط في ميزان الكون، الثبات وهم، والدوائر لعبة كونية تقتضي الاعتراف بأن من جعل الكون يدور لا يخطئ فيزيائياً، وأن ما رسم من هذا الجمال الذي لم ندرك كنهه بعد، هو تسليم قدري لا معرفي، بأن الكرة الأرضية منذ مليارات السنين، لن تتحوّل إلى طابة ماء، أو قطعة جليد مرة أخرى، يحرسها نيوتن ونيتشه وآينشتاين وأديسون وستيفنيرغ وزوكربرغ.
أخبرني أن الله موصول بعرش لن تعرفه إلا اذا أعلن هو فيه عن نفسه، فهو الذات العليا التي ليس قبلها ولا بعدها أحد أو أثر ؟! وأنه أكثر من عدد فلا هو فرد ولا أحد... إنه هو ... كما هو .. لا يحده حدّ ولا يسعه مد... فاللعب يا صديقي على حجم مجرّتك ولا تبتعد... فكل ما فيك هو فيك، لن يكون لك وقت ولا زمن لتستطلع، فعش حرمتك ولا تتجاوز الحدود، الزمن هو الله، وأنت مرهون بالخطيئة !؟!
نلاحظ أن المؤلف يرسم دوائر متناغمة، هكذا كنت أغرق من خطاياي لأصل إلى الصواب، أدفن بقاياي في العتمة لألحظ النور، لم أفهم أن الضوء عكس النور، الضوء يكشف ظلك، أما النور فيرسم حقيقتك؟!!
اتضح لي أكثر من مرة أني كنت ساذجاً في رسم خريطة العالم الكوني أو الإرادة البشرية، لم تتحكّم الإنسانية بتصرفاتي حين أدركت أني غير قادر على مناقشة الصفحات السوداء في تاريخ هذا الكوكب الذي نعيش. لذا قررت أن أرسم طموحاً أقل، هو أن أحمي ذاتي من التاريخ.
ويكمل المؤلف في سرديته: نحن مخلوقات حيضية، لأننا في رحم أمّ هي الأرض، وكل توارث لا ينبيء إلا على شبيهه أو مثيله، فكيف نقنع أصدقاءنا من المخلوقات الفضائية الأخرى في مجرة لا تحيض، بأننا أنبل المخلوقات وأروعها في المسكونة؟ كل هذا جعل صديقي الفضائي يطرح علي سؤالاً محيراً ألا هو: لماذا تحتفلون بالمفرقعات والأهازيج كلما دارت الأرض دورتها حول الشمس. أليس غباء ما يفعله هؤلاء الحائضون؟؟
دفعني ذلك لاستلهام العقل كوازع ورادع أخلاقي لأسال صديقي الفضائي (الكائن غير البشري والغريب)، كيف تعيشون بلا حيض؟! ضحك في سره وقال: «من قال لك إننا نموت نحن ننتقل لملامسة أهواء النور... وهكذا تدخل الحياة لنا، نحن من نور وهلام لا نسعى إلى جاذبيتنا، بل إلى حبنا... إذا دخل الوجود اليك، فأنت الحق، وإذا لم يفعل فأنت خارج الدورة الزمنية ؟ وخارج الوجود... الوجود هو الحب وبغيره لا نور في العالم».؟!
مهندس سر الكون
هل العالم مسكوت عنه، أم أن الذي اخترعه صامت من لا شيء، اخترع الجنون واخترع الصمت... وأقفل على كل ما تبقى من حروف تهجئة لنكمل حكاية التدوين ..؟. هل هو نفسه من اخترعنا له إسم هو القدر، السر، المكان المهندس الأعظم، الزمن؟!
أشكر القدر الذي لم أتعرّف به على جدّيي... لأبي وأمي... كانا قد قرّرا الانتقال إلى مكان أدفأ من الأرض، وأوجع من الهزيمة... ربما لم يصدّق أحدهما أن العالم سيخلد إلى الرتابة والتصنّع وانهيار معتقداتهم التي أسست لمفهوم الإقطاع الذي يرث الاسم والشهرة والمجد بلقب من إمبراطورية مستعمرة. لكن الشاخص إلى الأرض غيره الناظر إلى السماء، كمن تكلّفه الحياة أن يرعى الجانب البدني من التراب، ويترك ما يعشقه مفهوم الوجود لحركة المعنى ... فلم يعرف واحدهما أن الحلم غير العلم... فالعلم بصرٌ يبحث عن بصيرة، أما الحلم فهو بصيرة تبحث عن حافز وشغف لممارسة طقوس الحياة...
أحلام بين الأرض والسماء
سمعت حينها كلاماً لجبران خليل جبرام يقول فيه إن أحلام الذين ينامون على الريش ليست أجمل من أحلام الذين ينامون على الأرض... لكن تساءلت؛ عما إذا كان يتكلم عن الذي لم يقع في أحد محظورين بل بينهما... ماذا عليه أن يختار؛ النوم بين الأرض والسماء بين الحياة والموت؟. لمن تذهب أحلام هائمة حيرى داشرة من حظوظ متعتها، أو خوفها من العالمين؟
هنا تدخلت الأم – الأرض علها تنتفض على مغتصبيها، ألم أقل لك مراراً وتكراراً؛ لا تحلم.. ! ممنوع عليك الحلم يا فتى !؟
لكني غرقت في تساؤل مريب: كيف عرفت أمي بأني أحلم بشيء لا يحصل للكائنات الآدمية بسهولة ويسر ... وحين لم أجد الجواب.. أدركت منذ ذلك الحين بأن أمي كائن غريب أرسله لي المخلوق الفضائي كي يمنعني من الاستمرار في الحوار مع الحاسة السادسة...
هل وجدنا لنأكل ونشرب وننام ونمارس الجنس، أم أن المعنى من وجودنا ملتصق بصفة لم ندركها بعد؟! هل أوجدنا «العظيم» لنعبده من أنس وجن؛ وما قبلهما وما بعدهما أو لنستذكره مع كل حضور شمس وبهيم ليل... الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، القمر يدور حول الأرض وحول الشمس... يا لهذه اللغة الفريدة في استنطاق لعبة التكوين، ما المنطق من هذه المعادلات.... أليس حريّاً بالذي جاء بالنهار والليل والفصول الأربعة أن يزيل عن مخلوقاته تعب البحث عن لغات عديدة وكثيرة لاكتشافه والوصول إليه؟
وإذا أراد الحلاج أن يكشف الحجاب، وإبـن عــربي أن يتماهى بظلال المعنى، ليجعل كل واحد منهما يهيم في اتجاه، فماذا ارتجى هذا «العظيم» في لعبته هذه، ليشك موسى بوجوده ويجعله يطلب دعني أراك ليطمئن قلبي، ويقول المسيح على صليب الخلاص إلهي إلهي لماذا تركتني... ويسرى بالنبي محمد إلى المسجد الأقصى ليعرج ثم يدنو فيتدلى كي يحظى بنعمة الثبات، أو رؤية الحقيقة.
كل فرد من أفراد الكرة الأرضية يعتقد أن الله ملكه، وأنه لا يمكن أن يكون لغيره... هذه الآفة الاعتقادية لدى سبعة مليارات خليقة تفرض على كل واحد منا سؤالاً أساسياً واحداً، من هو الإله المشترك؟ ... لماذا أراد أن يكون وحده لا شريك له؟
إنه النسيان.. أجمل النظريات الكبرى الموضوعة لبشري والتي يعتبرها الفرد البشري آفة، هي أغنى ما تكون في نزاعه مع الوجود.
يريد المؤلف نعيم تلحوق أن يعود الى واقعيته، وكيف أقام تجربته واختار طريقه ويتذكر: حدث لي أن أقمت تجربتي مع الأرض، من دون دراية أن البشر طاعنون بحقيقة النبات... هم مثقفو غابة، ولا تهمهم وسائلهم كيف تكون... هنا نتفجر الأرض وتبدأ رحلة البحث مع أنطون سعادة حين نكزني بسؤال من نحن ؟ وما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ توقفت برهة لأجد نفسي في خضم صراع مع حقيقتي... ألفتُ خلالها صراعاً يدور حول مغتصب للأرض ومدافع عنها؟ دون أن آخذ برأي التراب أو توتة الخلق... مضيت في طريق شممته بوردة بنبتة برية، بوحل جنائنه المعلقة ولكني لم أدر مشيئة الأرض... الأرض علقة – كما البشر - نبتت فيها الفطريات والطحالب والحشائش والدرنيات والورود وأزهار الخير والشر في آن واحد... هل هي مساحة التراب والماء، أم أنها شيءٌ قَصُرَ فعلنا عن رؤيته ....
أرض الزئبق، ربما المؤلف فقط من يفهم مكنوناتها وخفاياها أو إن العناية الإلهية وضعت سرها ورصدها نعيم تلحوق في سردية المعنى.