أداة استراتيجية من عمر الكيان.. كيف تخسر "إسرائيل" الرقابة على الصورة؟

منذ ديفيد بن غوريون شكلت الرقابة على الصورة أداة استراتيجية إسرائيلية. كيف تخسر "إسرائيل" هذه الرقابة اليوم؟ وما هي تبعات ذلك؟

تعدّ الرقابة العسكرية في "إسرائيل" واحدة من أهم الأدوات المستخدمة من قبل الاحتلال للحفاظ على السيطرة على الرأي العام والتأثير في مسار المعارك، سواء على الصعيد الداخلي والخارجي. فمنذ قيام كيان الاحتلال، كان الحفاظ على الصورة العامة لــ "إسرائيل"، وأمن المعلومات، أمراً محورياً، ما أدى إلى تبني نظام رقابة صارم يهدف إلى التحكم في المعلومات الحساسة، ومنع تسرّبها إلى العدو أو إلى المستوطنين على السواء.

الرقابة كأداة استراتيجية وتطوّرها بعد حرب لبنان الثانية 

تعود جذور الرقابة العسكرية في "إسرائيل" إلى الأيام الأولى لقيام "دولة" الاحتلال، إذ شدد دافيد بن غوريون، في خطابه الشهير في كانون الثاني/يناير عام 1948 على أهمية وجود "صحافة ناقدة"، لكنه أكد أن "علينا ألا نعطي معلومة للعدو، وألا نساهم في دبّ الفزع في أوساط الجمهور".

هذه الفكرة ظلت مسيطرة على السياسة الإسرائيلية في ما يتعلق بالرقابة حتى يومنا هذا. فالرقابة لا تقتصر فقط على ما يُنشر في وسائل الإعلام أثناء الحروب، بل تمتد لتشمل الأوقات العادية، إذ يعمل الرقيب العسكري على اتجاهين: الأول هو التحذير من نشر بعض المواد، والثاني هو توزيع مواد يجب عدم التطرق إليها مطلقاً.

 
 
 
 
 
عرض هذا المنشور على Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎الميادين لبنان | Al Mayadeen Lebanon‎‏ (@‏‎almayadeenlebanon‎‏)‎‏

شهدت الرقابة العسكرية في "إسرائيل" تحوّلاً ملحوظاً بعد حرب لبنان الثانية عام 2006. قبل هذا التاريخ، كانت الرقابة تركز بشكل أساسي على حجب المعلومات المتعلقة بالأسلحة الاستراتيجية، مثل السلاح النووي والعمليات السرية التي ينفّذها جهاز "الموساد". لكن، بعد الحرب، بدأت الرقابة في توسيع نطاق سلطاتها. على سبيل المثال، أجبرت السلطات وسائل الإعلام على الامتناع عن بث خطابات قادة المقاومة الفلسطينية مثل خالد مشعل وإسماعيل هنية من حركة "حماس"، وكذلك خطابات الأمين العام لحزب الله، الشهيد السيد حسن نصر الله. وتجاوز الأمر ذلك إلى منع الإعلام الإسرائيلي من تغطية المهرجانات الجماهيرية التي تقام في غزة وحزب الله، مع اقتصار البث على أخبار مختصرة.

شواهد على الرقابة والتعتيم

تُظهر شواهد عديدة كيفية ممارسة "إسرائيل" سياسة التعتيم الإعلامي، خصوصاً في ما يتعلق بالخسائر المادية والبشرية التي تتعرض لها نتيجة الصواريخ التي تطلقها المقاومة الفلسطينية. ومن هذه الشواهد: تقرير استخباري للمقاومة الفلسطينية في "كتائب القسام" يشير إلى 20 موقعاً تم استهدافها داخل "إسرائيل"، ولم يجرِ التطرق إليها في الإعلام.

وكذلك وثيقة صادرة عن مكتب رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، تتحدث عن عزل حاخام مدينة بني براك، بعدما ادعى أن الصواريخ لن تصل إلى المدينة، في حين أصابت الصواريخ المدينة، ونتجت عنها إصابات بين المستوطنين.

وكذلك كشف موقع "واللا" الإسرائيلي عن اعتقال 3 عمال من مدينة القدس في عام 2014 بسبب تصويرهم لإطلاق الصواريخ على مدينة أسدود ونشر الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد وجّهت لهم تهماً بالإرهاب.

فشل منظومة القبة الحديدية

روّجت حكومات الاحتلال مراراً وتكراراً، منذ العدوان على غزة عامي 2008 و2009 لمنظومة القبة الحديدية كوسيلة رئيسية لمنع الصواريخ الفلسطينية من الوصول إلى المدن المحتلة، إلا أن الواقع يشير إلى العكس، إذ لا تزال المدن الفلسطينية المحتلة تتعرض للصواريخ بشكل متكرر.

ووفقاً للإعلام الإسرائيلي، فإن "إسرائيل" تمتلك 8 منظومات للقبة الحديدية، وكل منظومة تغطي مدينة واحدة فقط، في حين أن الصواريخ تستهدف أكثر من 50 مدينة.

 
 
 
 
 
عرض هذا المنشور على Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎الميادين | Al Mayadeen‎‏ (@‏‎almayadeen.tv‎‏)‎‏

علاوة على ذلك، أشارت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى أن عدد الصواريخ التي سقطت على المدن المحتلة في إحدى المعارك بلغ 1350 صاروخاً، في حين لم تسقط القبة الحديدية سوى 230 صاروخاً فحسب، أي بنسبة 15% فقط من الصواريخ.

إلى جانب ذلك، تعتمد "إسرائيل" على بثّ صور تظهر انفجارات في الجو، وتدّعي أنها دليل على اعتراض الصواريخ، لكن الحقيقة هي أن العديد من هذه الانفجارات ناتجة عن تفجير ذاتي لصواريخ القبة الحديدية نفسها، ما يجعل الأمر بمنزلة استعراض أكثر من كونه نظاماً دفاعياً فعالاً.

الرقابة كجزء من المعركة النفسية

تدرك "إسرائيل" أن المعركة مع المقاومتين في غزة ولبنان لا تُخاض فقط على الأرض، بل هي معركة وعي وإعلام.

لذلك، ترى "إسرائيل" أن إخفاء الخسائر والإصابات جزء من المعركة، إذ تسعى للحفاظ على صورة القوة العسكرية التي لا تُهزم أمام مستوطنيها والعالم. هذا التعتيم يساعد على تقليل إحباط الجبهة الداخلية، ومنع المقاومة من استغلال المعلومات في تحسين استهدافهم للصواريخ.

 
 
 
 
 
عرض هذا المنشور على Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎الميادين | Al Mayadeen‎‏ (@‏‎almayadeen.tv‎‏)‎‏

إلى جانب ذلك، تحاول "إسرائيل" تعزيز هذه الصورة من خلال السيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي. فرغم انتشار الصحافة الحرة ووسائل التواصل الاجتماعي، ما زالت الرقابة العسكرية تتمتع بسلطة الدخول على حسابات المستخدمين وحذف أي معلومات تخالف تعليماتها، بل وتصل إلى حد معاقبة الجنود أو المدنيين الذين ينشرون معلومات حساسة، كما حدث في حالات عديدة، إذ تمت معاقبة جنود نشروا صوراً لقواعد عسكرية.

المقاومة الإعلامية: كسر الاحتكار

على الرغم من التشديد الرقابي، فإن المقاومة الفلسطينية استطاعت تطوير أدواتها في الحرب الإعلامية، إذ لم تعد "إسرائيل" تحتكر الساحة الإعلامية. فقد أصبح الإعلام جزءاً من ساحة المعركة بين المقاومة و"إسرائيل"، حيث يتم تسريب معلومات وصور من قبل المقاومة تكسر التعتيم المفروض.

وإذا كانت الرواية التاريخية يكتبها الطرف الأقوى، فإن هذا المفهوم قد تغيّر في زمن الصورة. فقد أصبحت وسائل الإعلام الحديثة وكاميرات الهواتف المحمولة أدوات حاسمة في مواجهة القوى العسكرية المتقدمة تكنولوجياً.

على سبيل المثال، في الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير على قواعد عسكرية وأمنية في "تل أبيب"، فشلت "إسرائيل" في السيطرة على الصورة الإعلامية، رغم أنها تملك الإمكانيات التكنولوجية الهائلة. إذ أصبحت مقاطع الفيديو التي صوّرها فلسطينيون ومصريون وأردنيون، ومستوطنون، لمشاهد الصواريخ وهي تدك القواعد الإسرائيلية مادة للبث المباشر لوسائل إعلامية عربية وغربية وحتى إسرائيلية.

وفي ما حاول "جيش" الاحتلال، كعادته، التقليل من حجم الهجوم، فإنه أجبر بفعل مقاطع الفيديو المنتشرة على الاعتراف، ولو جزئياً، بالأضرار التي ألحقتها عملية "الوعد الصادق 2".

  • مقطع فيديو بثه حزب الله لاستهداف تجمع الكريوت المحاذي لساحل مدينة حيفا بتاريخ 4/10/2024

وكذلك الأمر بالنسبة إلى عمليات المقاومة الإسلامية في لبنان، والضربات الصاروخية التي توجّهها إلى قواعد عسكرية ومنشآت استراتيجية في شمال فلسطين المحتلة، حيث يدّعي الاحتلال أن صواريخ القبة الحديدية أسقطت معظم الصلية بينما سقط العدد الآخر في أماكن مفتوحة.

وفي هذا السياق، فإن مقاطع الفيديو التي تبثها المقاومة عن عملياتها، تستند في بعضها إلى مقاطع صوّرها مستوطنون لتأكيد وصول الصواريخ إلى أهدافها. 

الحرب على الصورة: تأثير التكنولوجيا والإعلام

كتب المفكر الفرنسي، جان بودريار، أن الحروب الحديثة لم تعد تُخاض فقط على أرض المعركة، بل عبر وسائل الإعلام. فقد أصبحت الصورة هي التي تصنع الحرب وتشكل الرأي العام. في هذا السياق، لعبت وسائل الإعلام دوراً حاسماً في كشف الكذب الإسرائيلي، إذ فشلت "إسرائيل" في مجاراة السرعة التي تتمتع بها وسائل التواصل الحديثة.

وعلى الرغم من محاولاتها لاستعادة السيطرة على الصورة، فإن "إسرائيل" تجد نفسها محاصرة بتدفق الصور والمعلومات التي تنشرها المقاومة. فقد أسفرت الصور ومقاطع الفيديو التي يبثها فلسطينيون منذ عملية "طوفان الأقصى"، عن تحوّل في الرأي العام العالمي الذي بدأ في جزء منه يميل إلى التعاطف مع فلسطين مكذّباً الرواية الإسرائيلية.

الرقابة العسكرية في "إسرائيل" ليست مجرد وسيلة لحماية الأمن القومي، بل هي جزء من استراتيجية إعلامية تهدف إلى التحكم في الوعي الجماهيري، وإخفاء الخسائر الحقيقية التي تتكبّدها في معاركها العسكرية. ورغم التقدم التكنولوجي الهائل الذي يتمتع به كيان الاحتلال، فإن أدوات الإعلام الحديثة قد أثبتت قدرتها على تحدي هذه الرقابة، ما يضع مستقبل هذا النظام الرقابي على المحك.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.