أخطر وثيقة ضد الصهيونية يكتبها مفكر وروائي عالمي
يعتقد الكاتب أن اليهود أتباع ديانة لاقومية، لذا يمكنهم أن ينتموا إلى الأراضي التي كانوا فيها وأتوا منها ووُلدوا فيها، ويندمجوا مع سكانها. ذلك وطن كل منهم لا أن يقتلعوا شعباً من أرضه ويقيموا مكانه بحجة أرضهم الموعودة.
كتاب "رحلة الى فلسطين" لنيكوس كازانتزاكي، وترجمة كل من منية سمارة ومحمد الظاهر، هو نوع من أدب الرحلة يلخص فيها صاحب "المسيح يصلب من جديد" مشاهداته وتوصيفه للأراضي الفلسطينية بتسميتها الحقيقية قبل أن تثبتها الصهيونية باسم "إسرائيل"، كوثيقة تاريخية مبكرة سردها الأديب والمفكر عن رحلة قام بها لفلسطين، دان فيها الصهيونية قبل أن يتنبه العالم لخطرها، وكانت هذه الرحلة في الفترة 1926-1927 كنبوءة أثبت الواقع صحتها وبعد نظر صاحب "الحرية والموت" في التقاطة مبكرة لتفاصيل تلك المناطق وساكنيها.
أوفدته صحيفة "أليغيثروس لوغوس" اليونانية إلى فلسطين لتغطية احتفالات عيد الفصح، وصدرت الطبعة الأولى تحت اسم " ترحال"، إذ بدأ نصه بأسلوب أدبي رقيق يوضح فيه وجود "الفزارة" داخله، ذلك الضمير والصوت الداخلي غير الراضي بسلوك الفرد والذي يحثه على البحث عن معنى الحياة الحقيقي بعيداً عن جفاف الأوراق والكلمات اليابسة، ويدعوه إلى الانخراط في خضم بحر الحياة، الأمر الذي جعله يذهب في رحلة إلى القدس مع مجموعة كبيرة من الحجاج الباحثين عن ملاذهم الروحي قرب المكان الذي وُلد فيه المسيح. وهناك يصف أحوال أقوام متعددة من عرب وأناضوليين ويونان ويهود أتوا إلى هذا المكان كي يحجوا إلى القدس للتبارك بالمكان المقدس الذي وُلد فيه السيد المسيح، وإلى كنيسة القيامة معاً. لذا، سيطر النفس الروحي الشفاف المعروف عن كتابات نيكوس كازنتزاكي. وعلى رغم ذلك فإنه وصف رب اليهود كما فهمه من الموجودين هناك بأنه "الإله العنيد، إذ عادت إلى مخيلتي دمويته، وتاريخه الطافح بالحقد والعنف، فتخيلت مرة أخرى تلك الرؤوس الصلبة التي شوتها الشمس، والأنوف الخطافية المعقوفة، والجباه القاسية الضيقة، والرقاب الجامدة التي لا تتحرك، والعيون الجشعة المحروقة للجنس العبري". ووصفها بالبالوعة الدموية لـ"إسرائيل"، وفق ما خططته الحركة الصهيونية.
إقرأ أيضاً: كيف تحالفت الحركة الصهيونية مع النازية
يردد عبارات من الكتب المقدسة، من القرآن؛ وأقوال المسيح، وتعاليم بوذا، وأبوللو، وكلها تدعو الإنسان إلى التوافق مع الموجودات لأنها زائلة، والوصول إلى ذلك التوق الروحي الذي يسمو بالنفس إلى الخير والمحبة، بحيث يُكثر في نصه ذكرياته بشأن البارثينون وهو معبد إغريقي في مدينة أثينا، وتحول الآن إلى كنيسة مسيحية كنوع من المقارنة مع بيوت الرب لدى كل الأديان، بحيث يسرد لنا ذلك الصفاء الروحي الذي شعر به وهو يدخل مكاناً من الآثار العربية المتروكة وهو "مسجد عمر". ويوضح لنا المعالم الزخرفية والآيات المكتوبة بصورة فنية باللغة العربية، والذي بني بالقرب من الفناء الجنوبي لكنيسة القيامة، كما معبد الباريثنون الذي أقيم في أماكن معابد للآلهة الأنثى، وفق ما سماه "كريتيدات أنثوية".
كما تتبدى السخرية لدى كازنتزاكي في تصوير ذلك الصراع لإقامة معبد للإله الهائج الذي لم تتضح ملامحه بعدُ، وهو يقصد إعادة بناء الهيكل على أطلال مسجد عمر.
إقرأ أيضاً: دراسة جديدة عن "اليهود والعنف" للمؤرخ منير العكش
في جولته في شوارع القدس، لاحظ ما تحكيه عيون العبريين من التهكم، مشيراً إلى الإله الذي وعدهم بأن يرثوا الأرض كلها، فالروح اليهودية تريد أن تقهر الأرض وتجعل الجميع، جميع الشعوب، تابعة، لإيقاعها. وتريد سحق الواقع المعاصر، ويجري مقارنة بين الإغريق الذين عملوا على بناء نسق مواز للقوة. لذلك استطاعوا الانسجام والتوافق مع كل لحظة تمر، لأنهم أوجدوا التوازن في العالم، أما اليهود فحاربوا لتحطيم هذا التوازن وهز قلب الإنسان. لذا، فالواقع غير قادر على احتوائهم واحتمالهم.
يشرح مشاهداته الأراضي التي يعمل فيها أهلها في أريحا وحيفا الآهلة بالخضرة والنماء حيث الرمان وبيارات البرتقال والليمون كنموذج عن الناس المستقرين في أرضهم.
ويورد قول حاخام يهودي يفصح عن النيات الكامنة: "لكل شعب مهمة رئيسة تتعلق بالأرض، والموروثات والأفكار، وهذه الأشياء يجب أن تتحرر، فإذا أرادت أن تتحرر، فيجب أن يمتلك الشعب اليهودي أرض فلسطين". هذا هو الخطاب الديني الذي يتربون عليه، كأن فلسطين أرض لا شعب فيها، أو هكذا يوحون إلى أتباعهم.
وأيضاً ينقل حواراً بينه وبين فتاة عشرينية، إذ يسألها: ماذا حدث لتصيري صهيونية. وردها: "كنت أدرس الطب ولم تكن لي انتماءات إلى أي دين أو بلد، وكان الناس دائماً يثيرون اهتمامي، وكنت أشعر بالاهتمام والشفقة للجنس البشري كله، مدركة كيف يمكن أن يتقاسم الجميع الاهتمام والمتعة والحزن، لكن كنت حائرة وقلقة، فلقد كانت أوروبا كلها تبدو لي قديمة مألوفة مبتذلة. كنت متعطشة إلى شيء جديد. ولهذا، جئت إلى فلسطين". فحاجتها إلى شيء جديد هو الذي دفعها إلى المجيء. وهنا تلقفتها العصابات الصهيونية لتصيغ وعيها بما يلائم خططها. وعندما سألها لماذا لم تذهب إلى روسيا على رغم أن هناك عالماً جديد يتشكل، أقرت بأن افتقادها الحرية هناك هو السبب، لأنها تحتاج إلى الحرية. وفكرة البروليتاريا، في حد ذاتها، لا تريحها، وأنها وجدت في هذه الأرض انتماءها وحريتها، ليؤكد لها أنها هنا بالذات فقدت حريتها بعد أن كان لها الكون بأسره عندما ضيّقت مساحة قلبها، عندما أصبحت لا تتقبل غير اليهود. وهنا الخطر الأكبر.
إقرأ أيضاً: كيف تعاونت الصهيونية مع هتلر لإنشاء "إسرائيل"
يقول أيضاً إن الحركة الصهيونية الحديثة عبارة عن قناع يلبس قدر اليهود ليخدعوهم إلى ما لانهاية. كيف يستطيع خمسة عشر مليوناً أن يحشروا أنفسهم هنا؟، ولاسيما أن وراءهم العرب الأشداء المتحمسين.
أعتقد أن اليهود أتباع ديانة لاقومية، لذا يمكنهم أن ينتموا إلى الأراضي التي كانوا فيها وأتوا منها ووُلدوا فيها، ويندمجوا مع سكانها. ذلك وطن كل منهم لا أن يقتلعوا شعباً من أرضه ويقيموا مكانه بحجة أرضهم الموعودة.
يرصد كازنتزاكي التشهي والقلق والحقد التي تلازم تعابير وجوههم بسبب إحساسهم بأنهم طارئون على المكان. أما المسلمون، وفق تعبيره، فيراهم هادئين مطمئنين، نظراتهم محايدة لأنهم أبناء الأرض التي يمشون عليها، كما يصوّر مشهد بكاء اليهود الذين أتوا من أنحاء الأرض الأربعة أمام الحائط المتبقي من معبد سليمان، والذي أعيد تجديده، والمعروف باسم حائط المبكى.
كما يوثق من أين أتوا. لقد أتوا من غاليتسيا ومن بولندا ومن بابل ومن روسيا والجزائر وإسبانيا واليونان... تشهد عليهم أزياؤهم وألوانهم وطقوسهم ويروي نبذة عن اضطهادهم في العالم، بحيث كانوا يجبرون على ارتداء ملابس معينة كي تساء معاملتهم من دون أن يعاقب معذبيهم من الاضطهاد الذي مورس عليهم؛ تلك الجريمة التي تدفع أوروبا ثمنها حتى اللحظة للتكفير عن ظلمها لهم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا ماذا عن الفلسطينيبن؟ متى يأتي زمان التكفير عن إبادتهم وتهجيرهم وسائر الجرائم المرتكبة بحقهم؟ وهل يتبقى منهم أحد ليتقبل ندمهم ويغفر ويسامح.