223 عاماً على ولادته.. بوشكين تحت العقوبات الغربية
أمام سعي الغرب إلى خنق الثقافة الروسية، تحلّ الذكرى الــ223 لولادة الشاعر الأكبر ألكسندر بوشكين.. فمن هو؟ وماذا يمثلّ بالنسبة للروس والعالم؟
نشهد في هذه الأيام ذروة الموجة الغربية في شيطنة كل ما هو روسي. وقد وردت خلال الأشهر الماضية آلاف الأخبار عن محاولات خنق الثقافة الروسية في الغرب، بوجوهها الثقافية والأدبية والفنية. إلا أن خنق الثقافة لا يقدر عليه أحد، إذ ستتفلت من بين أصابع القبضة، ستتسرب وتنشد الحق والخير والجمال، كما هي أبداً. سيدرك الغرب عمّا قريب أن خنق الحيّز الثقافي المشترك مع الروس ما هو إلا نوع من المازوشية، يوغل في إيذاء نفسه، وستظهر أصوات خجولة بداية تدعو إلى تحييد الآداب والفنون عن جنون الساسة، ثم ستقوى مع الوقت ليعود بعض الحق إلى أصحابه.
اليوم، وأمام مشهد الشيطنة المعمّم في أوروبا الغربية وأميركا والدول التي تدور في فلكهما، تحلّ الذكرى الثالثة والعشرون بعد المئتين لولادة الشاعر الروسي الأكبر ألكسندر سرغيفيتش بوشكين (1799-1837) . وهذا الشاعر الذي ترك أثراً لا يمحى في الآداب العالمية وفي وعي أبناء لغته جيلاً بعد جيل، محاصر وقابع تحت العقوبات الغربية. إن الأمر مضحك بالفعل، وربما قدّر لنا، نحن أبناء القضية الفلسطينية، أن ندرك أكثر من غيرنا أن من التفاهة بمكان محاصرة الكلمة ومحاولة خنقها، حتى لو اجتمع العالم كله ضدها.
تحت شعار "بوشكين.. هو لنا كل شيء" تنظم الكثير من الفعاليات الثقافية في روسيا وخارجها لإحياء المناسبة. وهي عبارة ليست جديدة، ويندر أن تجد روسياً أو متحدثاً بالروسية لم يسمعها. يتفاوت وقع العبارة على السمع بالروسية، فيكون مفاجئاً متضمناً معنى الفخر حيناً أي: "بوشكين هو كل شيء بالنسبة إلينا"، وبين أن يكون متأملًا في معنى رحابة "الكل شيء" بالنسبة إلى المدى المفتوح للطبيعة الروسية الشاسعة الساحرة، فيتضمن معنى الغنى المطلق.. أي كما يعبّر الروسي عن لغة بوشكين بـ "العظيمة الكليّة القدرة".
بوشكين تجسيد لكل ما هو أصلي في الشعب الروسي، ولكل ما يميز وعي هذا الشعب وطريقة عيشه عن الشعوب الأخرى. فكما تعرّف الإغريق القدماء على أنفسهم من خلال هوميروس، والألمان في كتابات غوته، والفرنسيون في أعمال فيكتور هوغو، يجد الفرد الروسي نفسه في أبطال بوشكين، ويظهر غالباً في مظهر مثالي.
ظهرت هذه العبارة على لسان الكاتب والمفكر الروسي أبولّون غريغوريف (1822-1864) عام 1859، الذي يرى أن الشعراء هم "بشر ولدوا لحقائق عظيمة وأسرار عظيمة في الحياة"، وأن بوشكين تجسيد لكل ما هو أصلي في الشعب الروسي، ولكل ما يميز وعي هذا الشعب وطريقة عيشه عن الشعوب الأخرى. فكما تعرف الإغريق القدماء على أنفسهم في نصوص الإلياذة والأوديسة اللتين أبدعهما هوميروس، والألمان في كتابات يوهان غوته، والفرنسيون في أعمال فيكتور هوغو، هكذا يجد الفرد الروسي نفسه في أبطال بوشكين، ويظهر غالباً في مظهر مثالي.
وقد لاحظ نيقولاي غوغول أن بوشكين هو "الإنسان الروسي في تطوره... في الطبيعة الروسية، في الروح الروسية، واللغة الروسية، حيث الشخصية الروسية تنعكس بجمالها النقيّ، كما تنعكس المناظر الطبيعية بنقاء على سطح عدسة محدّبة". وعبارة غوغول هذه تتضمن العناصر التي تدفع الروس اليوم إلى مواجهة موجة الخنق الثقافي الحالية بعبارة "بوشكين.. هو لنا كل شيء".
بمرور الوقت، تناثرت قصائد بوشكين في اقتباسات تناقلتها الألسن جيلًا بعد جيل، ودخلت في أحاديث الناس في حياتهم اليومية. لم تكن حصراً في فئة دون أخرى إذ استساغها ممثلو مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية. لكل فتى قروي أو طالب، لكل أستاذ في التاريخ أو الفلسفة، لكل لغوي أو كاتب.. لكل شخص بوشكين الخاص به. بوشكين ما يهتم بقصصه الخيالية، يستمتع بغنائه أو بوضوح أفكاره المعبر عنها نثراً. لكنه في الوقت نفسه واحد للجميع. لماذا؟
تعيش الثقافة على الذاكرة الوطنية الجامعة وعلى تيار التقاليد المتجدد باستمرار. بهذا المعنى، كانت حياة بوشكين الإبداعية عبارة عن حوار دائم بينه وبين الثقافة الروسية بشكل عام.
تجيب عن هذا السؤال مديرة "متحف بوشكين"، الدكتورة في فقه اللغة غالينا سيدوفا: ربما لأن بوشكين عاش وعمل في وقت تشكيل الثقافة الوطنية الروسية على عتبة عصر جديد. عندما حددت اللغة والمستقبل. وقع عليه عبء استكمال تشكيل اللغة الأدبية، التي بدأها أسلافه في القرن الـ 18. كما كتب عنه إيفان تورغينيف (1818-1883): "كان عليه وحده أداء مهمّتين، في بلدان أخرى يفصل بينهما قرن كامل أو أكثر، وهما: إنشاء اللغة وإبداع الأدب".
تعيش الثقافة على الذاكرة الوطنية الجامعة وعلى تيار التقاليد المتجدد باستمرار. بهذا المعنى، كانت حياة بوشكين الإبداعية عبارة عن حوار دائم بينه وبين الثقافة الروسية بشكل عام. وقد أطلق هذا الحوار قبل نحو قرنين من الزمن. وفي المقابل، حدثت تقطعات في الحوار معه من قبل المثقفين، أو ممثلي هذه الثقافة، إذ لم تمض عقود قليلة بعد وفاة بوشكين في عام 1837، حتى بدا للكثيرين أن الدور التاريخي للشاعر قد استنفد وأنه يجب تصنيفه كظاهرة أدبية كلاسيكية مكتملة.
في ما بعد، أطلق الشاعر فلاديسلاف خوداسيفيتش (1886-1939) على هذه الحركة اسم "الكسوف الأول لشمس بوشكين". جادل النقاد بعد ذلك بأن عمل بوشكين كان مهماً، لكنه صفحة من التاريخ، ودعا أبولّون غريغوريف، على العكس من ذلك، إلى إلقاء نظرة فاحصة على بوشكين باعتباره أحد أسس روح الإنسان. (موقع "كولتورا").
حددت ستينيات القرن الـ 19 المضطربة مهمات اجتماعية جديدة للشعر، حين أعلن الشاعر المجدّد نيقولاي نيكراسوف (1821- 1877) أن بوشكين "شقيق في النضال من أجل حرية التعبير".
اندلع نزاع ساخن بين الغربيين وذوي النزعة السلافية، إذ كان بوشكين يقدّم على أنه حامل الثقافة الأوروبية حيناً، أو كحارس "الروح الروسية" المتغلبة على "التأثيرات الأجنبية" حيناً آخر. تدريجياً، احتل "أدب المُثل" صدارة الوعي العام، باحثاً عن العزاء والأمل في النتاج الأدبي. ومرة أخرى، تحول انتباه المجتمع إلى بوشكين. إلى الشاعر الذي عبّر عن هذا المثال الأخلاقي بشكل ثابت وراسخ. في فضاء الثقافة، تصبح الحياة والمصير وكلمة الشاعر هي المعيار: "دع القلب للبطل. من سيكون بدونه؟ طاغية!"
لا يوجد شاعر في التاريخ الروسي مثل بوشكين يمكن للوعي العام أن يتواصل معه بسهولة ومن القلب إلى القلب، في المحادثة التي بدأت منذ قرنين، وما زالت مستمرة. والسبب لا يكمن فقط في عبقرية بوشكين كشاعر ومفكر، ولكن في التكامل المتناغم لنظرته تجاه العالم.
هل كان بإمكان أبولّون غريغوريف توقع أنه في بداية القرن الـ 20، في مواجهة انهيار العالم القديم، تواصل الشعراء في ما بينهم وتداعوا باسم بوشكين لمواجهة "الظلام الوشيك"؟ أو أنه في الأيام الشرسة لحصار لينينغراد عام 1942، كان التقى المثقفون في مبنى "مويكا 12" (تحول إلى متحف بوشكين في سان بطرسبرغ حالياً)، للاحتفال بالذكرى السنوية لوفاة بوشكين في 10 شباط/ فبراير، وأن الكلمات الوحيدة التي قيلت آنذاك "تباهي، يا مدينة بيوتر، وقفي راسخة عنيدة مثل روسيا..."، وأن تلك الكلمات اكتسبت معنى جديداً شاملاً؟ ذلك ما عبّر عنه الشاعر البولندي آدم ميتسكيفيتش، في 25 أيار/ مايو 1837: "الرصاصة التي أصابت بوشكين وجهت إلى روسيا الفكرية ضربة مروعة. لا يوجد بلد يُعطى مرتين نعمة إنجاب شخص بهذه القدرات المتميزة والمتنوعة"، إذ أن بوشكين لم يعش ليحتفل بالذكرى الـ 38 لولادته.
لا يوجد شاعر آخر في التاريخ الروسي يمكن للوعي العام أن يتواصل معه بسهولة ومن القلب إلى القلب، في المحادثة التي بدأت منذ قرنين، وما زالت مستمرة. والسبب لا يكمن فقط في عبقرية بوشكين كشاعر ومفكر، ولكن في التكامل المتناغم لنظرته تجاه العالم.
يبدو أن نصوص بوشكين تحتوي على إجابات تلقائية ودقيقة عن جميع الأسئلة التي تواجه الإنسان تقريباً منذ يوم ولادته وحتى وفاته. بوشكين بالنسبة إلى الوعي الروسي "انجذاب غامض للروح المتعطشة نحو شيء ما"، حيث "الحكاية كذبة لكنها تتضمن تلميحاً".. تجسد كلماته كل ذلك الغموض الذي تحافظ عليه الروح الروسية، وهي في حركة دائمة للارتقاء فوق المعتاد وحولها صخب الحياة اليومية.