"مارتن لوثر كينغ الابن" وأحلام العدالة والأمان والحب
عام 1964 منحته مجلة "تايم" لقب رجل العام، ما عدّه إشارة إلى أن الضمير الأميركي قد استفاق، كما نال جائزة نوبل للسلام، وعدَّ ذلك برهاناً على العرض الرائع لحركة الحقوق المدنية، وليس مجرد اعتراف بمساهمة رجل واحد في مسرح التاريخ.
"الحمد لله أن لدينا مثال مارتن لوثر كينغ الابن. الناس بحاجة إلى قدوة. إنهم بحاجة إلى رؤية أمثلة يقتدون بها في حياتهم، لهذا السبب من المهم جداً ليس فقط إحياء ذكرى حياته، ولكن دراستها بعمق أيضاً، ومحاولة العيش وفقاً لمبادئ تلك الحياة"، هذا ما كتبته "كوريتا سكوت"، زوجة الزعيم الأسود الذي تبنى فلسفة اللا عنف خلال سنوات نضاله ضد هيمنة أميركا البيضاء، بوصفها "أكبر مموّل للعنف في العالم اليوم"، وهو ما سعت إليه "ميرنا رشيد"، إعداداً وترجمةً، في كتابها الذي حمل عنوان "سيرة الدكتور كينغ.. لديّ حلم" والصادر حديثاً عن دار كنعان للدراسات والنشر، إذ استقت معلوماتها من مجموعة كبيرة من الكتب والمقالات والدراسات والأبحاث إلى جانب سيرة كينغ نفسه، موضحةً دوافعه لتبني تلك الفلسفة، ودعواته المستمرة إلى تغيير أخلاقي جدي في العقلية الحاكمة لأميركا، التي عززت العبودية والتمييز العرقي منذ اكتشافها، مروراً بتأسيس الأمة والحرب الأهلية، ثم إعلان الاستقلال وصولاً إلى القرن العشرين.
الجميل في هذا الكتاب هو السياقات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي وضعت فيها "رشيد" سيرة الدكتور كينغ، بما في ذلك التعقيبات والشروحات والهوامش التي أضافتها إلى الإحاطة بحياة ذاك المناضل، إذ بدأت كتابها بعرض مكثف للعبودية في أميركا، بيَّنت فيها كيف أن الأميركيين الأفارقة شكلوا ثالث أكبر مجموعة عرقية في الولايات المتحدة بعد الأميركيين البيض والأميركيين من أصل إسباني أو لاتيني، واستقروا في ما كان يسمّى "وادي مسيسيبي" والمناطق التي أصبحت في ما بعد كارولاينا الجنوبية ونيو مكسيكو، لتحدد تاريخ السود في أميركا منذ عام 1619، وكان حالهم في ذاك الوقت كحال المستوطنين البيض من أصل أوروبي، عبارة عن خدم بالسخرة للمستعمرين الإنكليز، سواءً للتنقيب عن الذهب، وتالياً في حقول التبغ التي لا تقل قيمة عن المعدن الأصفر، ساردةً كيف حوّلت تجارة الرقيق الجديدة الأفارقة إلى سلعة دولية، وأنشات تدريجياً نظاماً عنصرياً بين المجتمعات على المستوى العالمي، إذ باتت تجارة العبيد من بين أكثر أشكال النشاط التجاري ربحاً في فترة التوسع البرتغالي إلى ما وراء البحار، وظل الأمر على حاله حتى محاكمة عام 1783 في قضية سفينة العبيد زونغ التي نقلت 442 عبداً من جمهورية غانا قبل المحاكمة بسنتين، قضى منهم 62 بسبب الأمراض المتفشية، وأغرق الكابتن لوك كولينغ وود 130 عبداً، لأن التأمين يشمل الغرقى ولا يتضمن الموتى، وبعد مرور 24 سنة على محاكمة زونغ، حُظِرَت تجارة العبيد الدولية في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأميركية، لكن تطلب الأمر من إنكلترا 26 عاماً إضافياً، ومن أميركا 58 عاماً آخر، وحرباً أهلية، قبل أن تُلغى ممارسة تجارة العبيد رسمياً.
لا تشعر بالدونيّة
بعد انتهاء الحرب الأهلية الأميركية عام 1865 أصبح السود أحراراً رسمياً، لكنّهم ظلوا بغالبيتهم عبيداً حتى القرن العشرين، محرومين من أبسط حقوقهم في حرية التجمع، والتصويت، فضلاً عن نظام الفصل العنصري الذي يحرمهم من ارتياد مدارس البيض، أو الجلوس في الأماكن العامة ووسائط النقل بجانبهم،... وسط تلك الأجواء العنصرية وفي بداية عام 1929، ولد مارتن لوثر كينغ الابن في أتلانتا، وكان والده وجدّه واعظَين دينيين، بينما كان لأمه ألبيرتا ويليامز دور بارز في شؤون كنيسة إبنيزر المعمدانية. ومن حسن حظ مارتن، كما صرَّح مرّة، أن والديه علَّماه أن ليس عليه أن يشعر بالدونية، ومع الزمن شكلت الممارسات العنصرية دافعه الأساسي لتغيير مسار حياته، وجعلته يدرك باكراً أن بإمكانه أن يقلب العالم. كان كينغ طالباً ذكياً تجاوز مراحله الدراسية الإعدادية والثانوية بسرعة، ولم يكن ينوي اتباع مهنة عائلته في الوعظ الكهنوتي، فانتسب إلى كلية مورهاوس عام 1944 وهو في الخامسة عشرة ليدرس علم الاجتماع، معارضاً رغبة والده، لكنه رُسم كاهناً قبل تخرجه منها بفضل عالم لاهوتي كان يدرّسه في السنة الأولى حصة الإنجيل، وهو من جدَّد إيمانه بعد تشكيك كينغ في الدين، وما إن تخرج من علم الاجتماع حتى التحق بالدراسات اللاهوتية الأكاديمية ونال إجازة مع مرتبة الشرف العليا، ثم التحق بجامعة بوسطن وتخرج منها عام 1955 بدرجة دكتوراه في علم اللاهوت المنهجي.
وذكرت ميرنا رشيد أنه في فترة مراهقة مارتن الجامعية، وقبل دراسته اللاهوت، عشق فتاةً من العرق الأبيض اسمها "بيتي مويتز"، رغم أن العلاقات بين الأعراق كانت ما تزال محرّمة بفعل قانون يعارض زواج الأعراق صادر منذ عام 1664، لكن علاقته لم تستمر، بعدها تعرف على "كوريتا سكوت" التي تدرس في معهد نيو إنجلاند الموسيقي في بوسطن، وأعجبته أفكارها عن الصواب والعدالة بعد أن حكت له كيف تعرض منزل أسرتها ومنشرة أبيها للحرق من قبل العنصريين البيض، ليتزوجا عام 1953، وينجبا أربعة أولاد، ولمعرفة أثرها في نضاله يمكن قراءة ما كتبه ذات مرة: "إنني مقتنع لو أنني لم أحظ بزوجة بمثل صلابة كوريتا وقوتها وهدوئها، لما تمكّنت من تحمّل المحن والتوترات المحيطة بي".
خيَّاطة الحرية
وعلى الرغم من أنه كان منخرطاً في حركة الحقوق المدنية منذ أيام دراسته الجامعية، لكنه لم يظهر بصفته فاعلاً أساسياً في الممارسات الاحتجاجية، حتى حادثة اعتقال "روزا باركس" عام 1955 حين رفضت الخيّاطة التي لُقِّبَت بـ"أم حركة الحرية" أن تعطي مقعدها في الحافلة لراكب أبيض، فاعتقلتها الشرطة وألزمتها المحكمة بدفع غرامة مالية، واحتجاجاً على ذلك، قاطع الناشطون الأميركيون الأفارقة نظام النقل العام في ولاية مونتغمري، ونصَّبوا كينغ زعيماً لحملة المقاطعة، وعن ذلك قال:" لم أبدأ الاحتجاج ولم أقترحه. لقد استجبت ببساطة لرغبة الناس بمتحدث عام".
حصدت تلك الحملة انتباهاً وطنياً، وأثبت كينغ في انتصاره الأول مهارته في القيادة، وخطا أول خطوة له في النضال من أجل المساواة، وبعد ذلك أسّس مع مجموعة من قادة الحقوق المدنية "اتحاد القيادة المسيحية الجنوبية" عام 1957 بهدف استعادة روح أميركا بالمقاومة اللا عنفية، وأولى حملاته الكبرى سُمِّيت "الحملة الصليبية من أجل المواطنة" لمضاعفة عدد الناخبين من أصول أفريقية بعد مشروع قانون الحقوق المدنية، باعتبار ذلك جزءاً مهماً من النضال للحقوق المدنية، تلتها مسيرة واشنطن للوظائف والحرية التي ألقى فيها كينغ خطابه التاريخي "لدي حلم" الذي نصّب فيه نفسه القائد الأول لستة عشر مليون زنجي، ليواجه غضباً وتهديدات بالقتل من جماعة "كو كلوكس كلان" الساعية إلى إدامة تفوّق البيض بالإرهاب، وجماعة "فرسان الكاميليا البيضاء"، اللتين شكلتا قوتين رئيسيتين ضد العبيد الأحرار وحلفائهم البيض، ومن أعمالهما ضد مسيرة واشنطن تفجير الكنيسة المعمدانية التي قضى على إثرها أربع فتيات صغيرات.
وعن ذلك خطب كينغ: "إن موت الفتيات قد يقود منطقتنا الجنوبية من الطريق الوضيع المتمثل في وحشية الإنسان تجاه الإنسان، إلى الطريق السريع للسلام والأخوة"، متحدثاً عن الديمقراطية المذهلة حول الموت، وبعد ذلك بأشهر قليلة، تم اغتيال جون كينيدي عام 1963، ورغم تخوف قادة حركة الحقوق المدنية من تعطيل مسارهم النضالي، فإن الرئيس ليندون جونسون أكمل ما بدأه سلفه، ووقّع قانون الحقوق المدنية عام 1964، وقانون حق التصويت لعام 1965، وإثر نجاح كينغ بعد خطابه "لدي حلم" وضعه مكتب التحقيقات الفيدرالية تحت المراقبة الشديدة واصفاً إياه بأنه "أخطر زنجي على مستقبل هذه الأمة"، لكن ذلك لم يُرهب مارتن، ورغم التهديدات المتواصلة بتصفيته وتصفية عائلته، استمر في دعمه ومشاركته في الاحتجاجات اللا عنفية من سِلما إلى مسيسيبي، قائلاً "إذا كنت سأقلق دائماً بشأن الموت، فلن أتمكن من القيام بأي عمل".
الشرفاء نالوا جائزة نوبل
وفي عام 1964، باتت إنجازات كينغ الشخصية أكثر عمومية، إذ منحته مجلة "تايم" لقب رجل العام، ما عدّه إشارة إلى أن الضمير الأميركي قد استفاق، كما نال جائزة نوبل للسلام، وعدَّ ذلك برهاناً على العرض الرائع لحركة الحقوق المدنية، وآلاف المؤثرين، وليس مجرد اعتراف بمساهمة رجل واحد في مسرح التاريخ، قائلاً: "إن هؤلاء الشرفاء هم الذين نالوا جائزة نوبل".
ولم يثنه ذلك عن الاستمرار في نضاله وحماسه لجعل أحلامه حقيقة، ومناهضة من يستخدم القانون للترهيب، فبعد مقتل الناشط في مجال الحقوق المدنية "جيمي لي جاكسون" على يد أحد رجال الشرطة، قاد مسيرات من سِلما إلى مونتغمري مهَّدت بدورها لإقرار قانون حقوق التصويت لعام 1965، أما المسير الثاني الذي سمّي بـ"ثلاثاء الاستدارة" فكان من أجل زيادة الحريات وشاركه فيه كثير من رجال الدين، وتعرض ثلاثة منهم للاعتداء الوحشي بالهراوات حتى الموت، وبعد انتهاء المسير، قامت جماعة "كو كلوكس كلان" بقتل الناشطة البيضاء "فيولا ليوزو"، وكان من آثار هاتين الجريمتين أن وقّع الرئيس ليندون جونسون على قانون حق التصويت الذي نظر اتحاد القيادة المسيحية الجنوبية إليه باعتباره "أحد أهم القوانين في تاريخ الحركة الأميركية".
وعلى الرغم من العلاقة الطيبة التي جمعت الدكتور كينغ بالرئيس جونسون، فإن ذلك لم يمنع من انتقاده لسياساته الخارجية ودعمه الحرب على فيتنام، إذ أدلى بخطاب في نيسان/أبريل عام 1967 جاء بعنوان "ما وراء فيتنام" عبَّر فيه أن تلك الحرب هي واحدة من أكثر الحروب ظلماً في تاريخ العالم على الإطلاق، مبيناً أنه في الوقت الذي كانت فيه أميركا تشن حرباً ضد الأنظمة الشمولية في فيتنام، كانت تمارس الشمولية والظلم على أرضها ضد مواطنيها السود، لذا طالب أميركا بالانسحاب وتحقيق السلام، وهو ما لم يتحقق إلا بعد اغتياله بسبع سنوات.
إعادة توزيع الألم
وكانت لكينغ فلسفة تؤمن بأن الأقليات في الولايات المتحدة لن ينالوا المواطنة الكاملة ما لم يحصلوا على الأمن الاقتصادي، وهو ما ركز عليه في خطابه "كنت على قمة الجبل" بعد مقتل أربعة من عمال جمع القمامة بسبب ظروف عملهم القاسية، قائلاً: "أولئك العمال وحدهم هم الذين يشعرون بالألم فقط، والآن علينا إعادة توزيع الألم"، واقترح مقاطعة المنتجات التي تبيعها شركات يمتلكها البيض، ولم يمض يوم على كلماته تلك حتى تم اغتياله في الرابع من نيسان/أبريل عام 1968 على يد جيمس إيرل راي، مدفوعاً من عدة جهات كما كشفت التحقيقات، ليكون مقتله بمنزلة كارثة وطنية كما عبّرت صحيفة "نيويورك تايمز"، وقادر على تغيير ديناميكية أميركا، التي طالما دعاها إلى الحب، باعتباره مفتاح الباب الذي يؤدي إلى الحقيقة المطلقة.