كيف يقتل العَلَم الفلسطيني المحتل جسدياً ورمزياً؟
كان رفعه حداً فاصلاً بين الشجاعة والجبن، وحوّله فلسطينيون اليوم إلى فخّ. كيف يستدعي رفع العَلَم الفلسطيني جندياً أو مستوطناً إسرائيلياً إلى مقتله جسدياً ورمزياً؟
عندما تتجوّل في الضفة الغربية، خارج المدن الكبرى، في تلك الطرق المتقطّعة التي تربط بينها، تجد أبراجاً رمادية مزيّنة بأحدث أجهزة المراقبة، كما لو أنها استُلهمت من فكرة "بنثام" عن المراقبة الشاملة في السجون. في تلك الممرات التي تشقّها الحواجز، والشوارع التي تتغيّر وظائفها بحسب هوية مستخدميها، يحاول المستعمِر أن يوهمك بأنه على دراية بكلّ شيء، بينما تطالعك أعلام "دولة" الاحتلال الإسرائيلي في كلّ مكان.
مضحك هذا الإصرار على رفع الأزرق والأبيض في كلّ مكان، ليس فقط في الضفة الغربية بل على كلّ تلة، وداخل أقدم وأكبر المستوطنات مثل "تل أبيب". وكأنّ المستوطن، من خلال نشر "رموزه" في كلّ مكان، يريد أن يذكّر نفسه ويقول لنا في ظلّ سيطرته على الفضاء إن: هذا لي، وذاك أيضاً لي.
في جولته بين التلال التي تمتد فيها قرى فلسطينية انبثقت من تربة الأرض بتلقائية طبيعية، يخرج ضابط احتياط في الجيش "الإسرائيلي" ومعه الآلاف من المستوطنين في رحلة يومية من عمق المستعمرة "الإسرائيلية" خلف الخط الأخضر والجدران الرمادية، من قلاع الضفة الغربية إلى القدس و"تل أبيب".
وبينما كان الضابط يهمّ بالاستمتاع بإجازة من مهامه في قطاع غزة، ظهر علم فلسطيني وحيد في وسط التلال المحاذية لقرية المغير بالقرب من محافظة رام الله والبيرة. ظهور العَلَم كان كافياً لخلق مشهد صوّره المستوطنون أنفسهم، حيث خرج الرجل من سيارته، مسلحاً بمسدّس على خصره، يمشي بخطوات عسكرية، وبثقل جسد أتقن فنّ المجازر في غزة. يتعلّم الجنود أنه في ظل المهمة لا شيء مهم سوى إتمامها. لا مكان للأسئلة أو التشكيك. ببساطة، عليك ألّا تفكّر. هكذا تعلّم هذا الضابط، السير بخطوات مستقيمة وبهامة مرفوعة، ولكنه كمن يمشي في نومه، كان مسيره الثابت والمستقيم أقرب إلى حالة مختلطة بين اليقظة والنوم.
في المشهد ما يكفي من عناصر السخرية التي تسعى الأفلام الصامتة عادة إلى تجسيدها. هناك ضابط من قوات الاحتياط في "جيش" الاحتلال، يبدو مستَفَزّاً، يتحرّك بآلية، يقوده جسده بثبات نحو المتوقّع، أي إزالة العَلَم. ومع ذلك، يصطدم بشكل تلقائي بغير المتوقّع، أي انفجار العَلَم. في لحظة انفجار العَلَم، تتكثّف السوريالية في الموقف القادر على استخراج تعبير بسيط نطق به العديدون: "روعة"، ترافقه ابتسامة بيضاء تتسلّل للجسد وتتركه لوهلة مرتاحاً من ركام الغضب الذي يخلقه دهر طويل من الاضطهاد.
في هذا المشهد تختلط الجماليات الطبيعية بقابلية السخرية ممن يعتقد أنه قوي، وتؤكد أن الفلسطيني يملك مخزوناً كبيراً من الفكاهة، ولكنها فكاهة متفجّرة تسعى دوماً أن تذكّر المستعمِر أنه أيضاً إنسان هشّ. وحتى يكتمل المشهد، فإن الصورة التي أرادت أن تكون تأكيداً لقوة الضابط وشراسته في إزالة الدلالة الرمزية للوجود الفلسطيني (المتوقّع)، تحوّلت إلى دلالة على هشاشة المستوطن وقدرة البساطة على إطاحته هو والعَلَم أرضاً (اللامتوقّع). هذا ليس مشهداً من فيلم، بل لقاء بين جدية المقاومة وقدرتها على إنتاج السخرية، إن لم تكن بالقول، فإنها بالفعل حتماً.
"عَلَم عن عَلَم بيفرق"
كثيرة هي الحكايات التي تنسج حول العلم الفلسطيني. حكايات تتفتّق عنها الذاكرة الجمعية بغزارة. تروي كيف أن خيوط الأعلام في الانتفاضة الأولى نُسجت بين ثنايا الأمل، وكيف تمّ رفعها عالياً في قلب مراكز المدن. أعلام تحكي عن شهداء ارتقوا وهم يحاولون اختراق السطوة الرمزية للاحتلال، بتعليق العَلَم على الجوامع والكنائس والجامعات وفي الساحات العامة، في كلّ زاوية حيث يُمكن للوجود أن يُعلن عن نفسه. خياطة العَلَم وإنتاجه ثم رفعه، كلّ ذلك لم يكن مجرّد تجميع لقطع قماش، بل لعبة أتقنها الفلسطيني في ظلّ سعيه الدائم لتعدّي واختراق سلطة المستعمِر وتجاوز كلّ حدّ من حدوده.
تكتنف هذا التجاوز متعة غامرة، بل إننا قد نذهب إلى أبعد من ذلك بالقول، إن في اختراق وتجاوز القانون الاستعماري إعلاناً صارخاً وممتعاً عن الوجود، ومتعة مستترة في استفزاز المستعمِر، ورؤية هشاشته وغضبه في محاولته لإزالة الأعلام، فيما تحت كل عَلَم منزوع ينبت عَلَم جديد. لا تتكثّف في رفع العلم الرغبة بالتعبير عن هوية جماعية فحسب، أو في نزعة نحو تأليب وجع التهجير من خلال تأكيد أمل العودة واستعادة فلسطين، بل في المتعة الطفولية التي تترافق مع رفع العَلَم الفلسطيني. هذا ما خبرناه في العديد من المحطات التاريخية حيث ترافق رفع العلم مع ضحكات كثيرة ومشاكسات، لأن عملية رفع العلم نفسها، كانت تشكّل حداً فاصلاً بين الشجاعة والجبن عند مراهقين وأطفال أرادوا إتقان لعبة "جيش وعرب" وإحالتها إلى واقع.
تستقرّ على واحد من جدارن بيتنا في البيرة صورة عمي الشهيد ماهر عبد الجواد. صورة تشعّ من ثناياها تلك النظرة الثاقبة لشاب لم يبلغ الــ 19 من عمره، ولكنه ترك بصمة صغيرة. فقد كان بين أعظم إنجازاته في مقاومة الاحتلال أنه نجح في رفع العلم الفلسطيني عالياً فوق قبة مسجد عثماني في قلب مدينة البيرة. وفي سرد سيرته المقتضبة إعلان عن كونه أوّل من رفع علم فلسطين في مدينة البيرة في انتفاضات ما بعد حرب تشرين عام 1973، قبل أن يستشهد لاحقاً في أحد معسكرات التدريب التابعة لــ "منظمة التحرير الفلسطينية".
في سيرة الكفاح الفلسطيني الطويل، ارتقى شهداء تجسّدوا في ثنايا تاريخهم أعلاماً. ففي كلّ قرية وبلدة ومدينة فلسطينية، أحيطت أرواح هؤلاء بالعلم الفلسطيني سواراً من نور. يحضر في الذاكرة إياد بشارة، الذي ارتقى في بلدة بيت ساحور، صاعداً نحو السماء كما صعد على العمود، رافعاً علم فلسطين، قبل أن تغدره رصاصة قنّاص "إسرائيلي". أو قصة موسى الحنفي الذي استشهد وهو يرفع علم فلسطين في تظاهرة طالبية داخل جامعة بيرزيت، قبل أن يُهرَّب جثمانه من بيت إلى بيت داخل بلدة بيرزيت، ومن ثم من بيرزيت إلى رفح في جنوب قطاع غزة، بعد أن وُضع جالساً في سيارة مع نظارات شمسية تخفي موته متحايلين على جنود الاحتلال الباحثين عن جثمانه لاعتقاله حتى وهو ميت.
حينها، كتب إبراهيم المزين أغنية تصف مشهد وداع موسى الحنفي في رفح، في عرس فلسطيني آخر وعريس فلسطيني آخر، حاول أن يعلن الوجود برفع العَلَم فوق حرم جامعة كانت تستقبل أهل جنوب فلسطين: "وقفوا صفوف صفوفي، وسحجوا على الكفوفة، أجت أمه، يا عزيزة يا مغندرة، يا دمعه يا سكرة، عريسنا مبدر عَ وين، عريسنا بغفي العين، أمه ردّي يا أمه ليش الورد ملثم ع ثمه، والحديد على كتفه ما همه ما همه، مع الندى طالع، طالع لحالو، قزولوا خواله تَ يلفو يلمو جماله".
هنا تكمن المفارقة بين أعلامنا وأعلامهم. أولاً، نحن، في الحيّز العام، جميعاً أعلامٌ نُذكّر المستعمِر بأنه لم يكمل مهمته، ما دمنا موجودين ونتنقل ونذهب إلى أعمالنا كل يوم، ونخرج إلى الشوارع ونتنزّه في الطرقات. لكن، الأهم من كلّ ذلك، أن على المستعمِر أن يمنع عنّا الحياة كي يتمكّن من رفع عَلَمه، في حين أننا نقامر بحياتنا في سبيل رفع عَلَمنا.
لا يمكن إخفاء حقيقة أن علاقتنا بالعلم الفلسطيني، نحن الذين نعيش في ظلاله كتذكير دائم بعدم اكتمال مشروعه، لم تعد كما كانت في أيام الحكم "الإسرائيلي" العسكري المباشر. أي قبل ظهور السلطة الفلسطينية. كاتب هذه السطور ولد في عالم يختلف ويتشابه في آن مع عالم إياد وماهر. عالم يشهد انتشاراً للأعلام الفلسطينية فوق أسطح مراكز المدن في الضفة الغربية، والتي ترفرف عالياً فوق الوزارات وتستقرّ خلف نوافذ المكاتب الزجاجية. لقد أفقدتنا اتفاقيات أوسلو متعة رفع العَلَم، وقدرتنا على تحدّي القوانين المفروضة وتجاوزها سراً وعلانية، حتى أصبح العَلَم الفلسطيني الذي يحلّق حرّاً، يُشير أحياناً، ليس إلى الأمل باستعادة فلسطين، بل إلى مؤسسات ومكاتب ومبانٍ تُساهم في تقويض إمكانية فلسطين ذاتها.
فالتضحية لم تعد شرطاً لرفع العَلَم، نعم، ما زلنا أعلاماً متحركة بمجرد وجودنا على هذه الأرض، ولكن القماشة الفلسطينية في وسط رام الله لا تعني الكثير. يتجلى هذا الدليل حين ترى كيف أن العديد من الأعلام التي تتمزق بفعل الرياح، تُترك معلقة من دون رعاية أو اهتمام، لتُصارع الزمن والنسيان حتى تفنى. العَلَم، بإمكانه أن يكون مصدراً للمتعة، وأحياناً يتحوّل إلى نارٍ تغذّي جذوة التضحية. ربما نرى في أجسادنا أعلاماً تخرق مجال رؤية المستعمِر وتشوّش عليه. قد يتجلى العَلَم في نهاية المطاف كرمز يُستغل للتستر على خيانة، أو كقماشة مهملة تُترك لتتلاشى وحيدة في زوايا النسيان.
ومع ذلك، لا تزال بهجة رفع العَلَم تخفق في القدس، وتنبض في قلب الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. تتجلى في الأعلام المُزينة على زي المقاومين، وفي تلك الصورة الخالدة للعلم وهو يرفرف عالياً في سماء القدس، ملوّحاً وداعاً للشهيدة شيرين أبو عاقلة في جنازتها التي امتدت من جنين إلى القدس. المفارقة في فلسطين تكمن في أن الأماكن التي يُرفرف فيها عَلَم فلسطين بحرية، تتلاشى فيها رمزيته بسرعة، بينما في الأماكن التي يُكافح فيها ليرتفع، تتسامى رمزيته أكثر، أو كما يقول صديقي، "عَلَم عن عَلَم بيفرق".
العَلَم - الفخّ
لم يُكتب في دفتر الزمان تاريخ محدّدٌ لبدء استخدام العَلَم كإشارة تحدٍ واستفزاز، إلا أن الأزقة الضيّقة في فلسطين المحتلة تحفظ حكايات كثيرة عن قدرة العَلَم على استحضار وجود المستوطن. هنا في فلسطين، ينتظر البعض لحظة حضور جنود وشرطة ومستوطني الاحتلال بعجالة، لينظروا إليهم كيف يتسابقون في فتح سلالمهم لانتزاع العَلَم من ناصية طريق أو قمة بناء، في مشهدٍ يعكس مهزلة الرعب والكراهية التي يمكن أن تولّدها قطعة قماش ملوّنة بألوان العلم الفلسطيني.
هؤلاء الأطفال والشبان، وهم يراقبون الحدث يختلسون الضحكات على عبثية الخوف، وعلى جنون البغض الذي يمكن أن يثيره رمز لم يعد يكترث له الكثيرون في وسط المدن المرتبكة مثل رام الله. لطالما أدركنا، نحن الأعلام المتحركة، أن المستعمِر يأتي سريعاً حين تستفزه بقطعة قماش تثير فيه رغبة المحو، والبحث الدائم عن نشوة الإزالة. أما اليوم فصرنا موقنين كيف أن تلك الرغبة بالقتل صارت تصيبه بمقتل، أما وقد بات العلم الفلسطيني لغماً لكل من رغب بنزعه.
يُروى أن نجاح أي فخ لا يتوقّف على من صنعه بعناصره المادية المباشرة، سواء أكان ذلك بتحويل العلم إلى متفجّرات، أو بوضعه في مكان ما بين تلال قرية المغير في الضفة الغربية، أو من خاض غمار تشكيل سلاح من مواد محلية. يُقال إن الفخ، في جوهره، هو من صنع الشخص الذي يقع فيه.
الفخ هو في قدرة العَلَم الفلسطيني على استدعاء أي جندي أو مستوطن. ذلك أنه يتصل بشكل مباشر بالصراع. أي في إظهار رمز في الحيّز البصري يشي بصراع داخلي ويفضي إلى تحريك المستوطنين بشكل آلي يشبه حركة طفل يرغب بشرب الحليب قبل النوم. هنا تكمن قوة العَلَم الفلسطيني كفخّ. إذ إنه يدفع المستعمرين إلى حركة بلا وعي، يسعون فيها إلى تهدئة التفاوت بين النظام الرمزي للأيديولوجيا الاستعمارية، وبين الواقع الحقيقي لتجربتهم على أرضنا الفلسطينية. ففي المحصّلة، ما فائدة كل الأعلام الزرقاء والبيضاء إن لم تمنحك الكون؟ وفي إطار سعي المستعمِر لأداء دوره ضمن النظام الرمزي، فإنه يكتشف أن عملية إزالة العلم الفلسطيني لا يمكن أن تمنحه كلية الكون. أي الأمان والشرعية الكاملة التي يبحث عنها في أعماق نفسه.
بذلك يضحي العَلَم - الفخ بمعناه الحرفي والرمزي مكاناً وموقعاً للقاء تروماتي (صدمة) يستحيل فيه إشباع رغبة ضابط الاحتلال أو المستوطنين في نفي الآخر الفلسطيني ومحوه. فالاندفاع الآلي نحو العلم الفلسطيني يعد بالإشباع والرضا، لكنه في النهاية يؤدي إلى هلاك المستعمِر.
في الماضي البعيد، كان الفلسطينيون يرفعون الأعلام تأكيداً لوجودهم والإعلان عن حضورهم. هم "الحاضرون الغائبون". أما اليوم، فقد أدركوا أن قيمة القماشة تكمن في ما تستحضره عند الآخر، وأن المتعة تكمن أيضاً في رؤية المستعمِر يقع ضحية رغبته، وحركته الآلية، ومحاولاته الدؤوب لطمأنة نفسه، وبحثه الدائم عن النشوة في المحو، وحلّ غير مجدٍ للتناقض بين وجود الفلسطيني في فلسطين، وبين الخيال الأيديولوجي لفلسطين خالية من الفلسطينيين. لكننا في النهاية، نحن الفلسطينيين، في فلسطين، نشطر وجود المستوطن "الإسرائيلي" من الأسفل إلى الأعلى.