"عرش على الماء": التحوّلات الخطيرة في مصر
تتجلي جماليات "عرش على الماء" في قدرتها على تقديم حكاية تجمع بين السرد الواقعي والنقد الاجتماعي مع مسحة رمزية عميقة. فقد نجح بركة في صياغة نص يترك أثراً دائماً في نفس القارئ، حيث يجمع بين اللغة الشعرية، تعقيد الشخصيات، والتناول العميق للتحوّلات.
تُعدّ رواية "عرش على الماء" للروائي المصري محمد بركة أحد الأعمال الأدبية التي تعكس بعمق الواقع السياسي والاجتماعي في مصر في حقبة زمنية معينة. بأسلوب روائي مشوّق. يسبر بركة أغوار الفساد المتغلغل في مؤسسات المجتمع، مستعرضاً تأثيراته المدمرة على الأفراد والعلاقات الاجتماعية. تأتي الرواية كدعوة للتأمل في التحوّلات الكبرى، أغلبها تحوّلات إلى الأسوأ، التي شهدها المجتمع المصري في العقود الأخيرة من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي.
تتناول الرواية تلك التحوّلات من خلال شخصيات معقدة وأحداث متشابكة. كذلك، ينقل العمل صورة مكثفة عن الصراع بين الطموح الفردي والاجتماعي
قداسة المظهر وانحطاط الجوهر
تدور الفكرة الرئيسية حول الآفة المتأصلة في الكثير من المجتمعات العربية خاصة، من تقديس كل ما يظهر بشكل مثالي، بصرف النظر عن مدى وضاعة المضمون والجوهر، أو بمعنى آخر، تتحدث عن ذلك المفهوم الذي اتفق عليه كثيرون من دون اتفاق، عن فعل كل ما يُجلد الآخرون بسببه، لكن في الخفاء! "أنت قديس حتى يطّلع الآخرون على سرك"
وقد اختار الكاتب اسم الشخصية الرئيسية في الرواية للدلالة على هذا المعنى "مشهور الوحش"، النرجسي منذ الصغر المريض بالهوس الجنسي، اللاهث وراء كل المتع حرامها وحلالها، المال والنساء والتسلق الاجتماعي، مستغلاً أو ربما كان هو نفسه نتاجاً لمجتمع غارق في الجهل والخضوع وخمول العقل.
وفي سبيل تحقيق شهواته، سلك كل الطرق، الخداع والنفاق بل طوّر قدرة استثنائية على النفاق، استغل الجهل في المجتمع بحسب هواه ومصلحته، وحتى الشماتة في هزيمة بلاده.
سيتضح بالتوغل في عوالم الرواية أن شخصية الرواية ليست تأريخاً لشخص بعينه، بل هي عن "الفكرة والمفهوم"، أو حتى النهج الذي يسير عليه هؤلاء.
على مدار خمسين عاماً، التاريخ المتناول في الرواية، شهدنا كيف تقلّب المجتمع المصري نتيجة للعوامل السياسية والاقتصادية والثقافية بعدة تحوّلات، أبرزها تغلغل الفساد في الحياة الاجتماعية التي بدأت بفساد الطبقة الحاكمة فالطبقة المتوسطة انتهاءً بالطبقة الدنيا، بعدما أضحى الثراء السريع أهم من الأخلاق والعمل الشريف.
بالإضافة إلى تأكل القيم الاجتماعية التي عبّرت عنها الرواية بالصراعات التي تواجهها الشخصيات، فالذين يتمسكون بالصدق والأمانة وبقية الفضائل حوصروا في وسط لا سبيل للبقاء فيه إلا بالفساد والاحتيال.
ربما أيضاً من أبرز الأفكار التي تناولتها الرواية هي تراجع دور المثقفين، الذين صار دورهم هامشياً في مواجهة طغيان أصحاب المال والسلطة.
الأبعاد النفسية لشخصية "الوحش"
منذ البداية، رأيت أن شخصية الوحش أقرب إلى المريض بالنرجسية إليه من أي شيء آخر. فمنذ صغره وهو مهووس بنفسه، يمتلك مخزوناً لا ينضب من التعالي النابع من فراغ وتفاهة عقله وروحه. وظهر هذا التصور في مراحل نشأة الشخصية... وأخذ هذا النقص في التعاظم كلما صعد درجة في سلم الترقي بالنقاق في مجتمعه الفاسد، حتى وصل به الأمر، مستغلاً أيضاً جهل الناس.
تقدم الرواية نقداً للإعلام في المجتمع المصري والذي كان سبباً أساسياً، بالتواطؤ مع السلطة بالتأكيد، في ترسيخ القيم الفاسدة في المجتمع عندما مكّن لهؤلاء الظهور والإلحاح في الظهور وإقصاء المثقفين والمتعلّمين بحجج تقتضيها متطلبات كل مرحلة.
الرمزية والإسقاطات أبرز سمات الرواية
نستطيع الحكم على الرواية بأنها رواية الرمزية والإسقاطات بامتياز بداية من العنوان، وأسماء الشخصيات. فاستخدام الرمزية للتعبير عن مواضيع اجتماعية وسياسية معقدة، والعلاقات بين الشخصيات والتوترات بينهم غالباً ما تعكس توترات سياسية أوسع. وهذه الرمزية تجعل الرواية أكثر عمقاً، إذ لا تقتصر فقط على السرد الظاهري، بل توفر التوغل بكل سهولة في المعنى.
فجاء العنوان "عرش على الماء" والذي ذُكر في سياق السرد على لسان البطل المغرور والنَهِم للسلطة، وقال"أشعر بأني أجلس على عرش من الماء" فقد كانت الجملة إسقاطاً صريحاً يدل على هشاشة السلطة والأوضاع التي يبدو ظاهرها مستقراً ثابتاً بينما يرتج باطنها بزلزال التغير. فالعرش رمز للقوة والثبات بينما الماء المتماوج المهتز قادر على إغراق كل ما هو فوقه. وهو التوصيف الرمزي للتحوّلات الخطيرة في كل المراحل التاريخية التي تناولتها الرواية على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي، من فترة الملكية وحتى حكم السادات "الرئيس المؤمن" وعصره الذهبي للجماعات الدينية المتطرفة ممن أطلق يدهم في البلاد ليضرب بهم الناصريين واليساريين ممن عارضوا حكمه.
من أهم جماليات الرواية اللغة الشعرية، التي لم تكن مجرد أداة لسرد الحدث بقدر ما كانت أداة لاتصال الجوانب النفسية والاجتماعية للشخوص. بالإضافة إلى الإيقاع السردي المتنقل بين الفصول بسلاسة، خاصة بعدما افتتح كل فصل بـ"الابتهال" أو الومضة التي تقدم للفكرة الآتية. وتميزت اللغة بانتقائها لفظياً، بما يتناسب مع الموضوع والشخصيات، كتشابه الجمل والعبارات بالنص القرآني، خاصة تلك التي جاءت على لسان الوحش.
السفر عبر الزمن في الرواية على مدار نحو خمسين عاماً، عبر استخدام تقنيات الاسترجاع "الفلاش باك"والانتقال بين الماضي والحاضر والذي أعطى الرواية أبعاداً تاريخية مختلفة، متعددة الطبقات. وهذا التعدد أخرج الرواية من تصنيف الرواية التاريخية التقليدية، التي تتناول حدثاً أو شخصية تاريخية بعينها وتبني لها قصة متخيلة، لتصبح رصداً شاملاً للمتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمع المصري، ربما لا تزال تبعاته مستمرة حتى الآن.
في النهاية، تتجلي جماليات "عرش على الماء" في قدرتها على تقديم حكاية تجمع بين السرد الواقعي والنقد الاجتماعي مع مسحة رمزية عميقة. محمد بركة نجح في صياغة نص يترك أثراً دائماً في نفس القارئ، حيث يجمع بين اللغة الشعرية، تعقيد الشخصيات، والتناول العميق للتحوّلات الاجتماعية والسياسية.