"زنزانة وأكثر من حبيبة": رواية البطولة.. والأمل
رواية "زنزانة وأكثر من حبيبة" للأسير الفلسطيني المحرر قتيبة مسلم الذي اعتقل من مدينة نابلس في عام 2000 في بداية انتفاضة الأقصى، وقضى في السجن نحو 30 سنة قبل أن يحرر بصفقة تبادل.
يدهش المرء من هذا الأدب الذي يأتي من وراء قضبان السجن الإسرائيلي لما فيه من المعاني الصافية، والمباني وافية الحذق، والفن الأدبي السامي، وسبب الدهشة يعود إلى أمور كثيرة، لكن في طالعها أنّ هؤلاء الكتّاب للرواية والقصة القصيرة والمسرحية والقصيدة ما كانوا، أهل قراءة وكتابة، قبل أن يزج بهم في السجون، بل ما كانوا من القرائين للأدب أصلاً، وأن محاولات الكتابة والتأليف ما كانت خاطرة في البال أو الحلم، لا بل إنّ بعضهم لم يتمم دراسته الثانوية أو الإعدادية، لأنه اعتقل فجأة وهو على مقاعد المدرسة، أو أخذ عنوة من البيت أو الشارع أو السوق، أمثال هؤلاء أتموا دراستهم في السجن، ونالوا الشهادات العليا وبإرادة فولاذية أذهلت السجّان ومن يمثلهم من سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
أقول هذا لأنّ بين يدي رواية للأسير المحرر قتيبة مسلم عنوانها "زنزانة وأكثر من حبيبة"، وهو أسير فلسطيني اعتقل من مدينة نابلس في عام 2000 في بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وهو أب، وابنه (حمدي) البكر في سنته العاشرة، وحين غادر السجن محرراً، كان ابنه حمدي متزوجاً، وابنه البكر في سنته العاشرة. لقد قضى في السجن نحو (30) سنة قبل أن يحرر بصفقة تبادل. وعنوان الرواية دال، لأنها تتحدث عن زنزانة واسعة يعيش فيها خمسة أسرى ولكل منهم قصة، جميعهم يخبروننا عن فداحة العيش في زنزانة لا تصلح أن تكون مغارة لضبع، مثلما يخبروننا عن أشواقهم للأمهات، والجدات، والأخوات، والزوجات الحافظات للعهود، والمنتظرات لساعة الفرج بعودة الأسرى، وفك القيود، الرواية صادرة في رام الله،عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب الفلسطينيين، وقدّم لها الشاعر مراد السوداني، الأمين العام للكتاب الفلسطينيين.
مكان هذه الرواية، هو مكان تشغله زنزانة في سجن جلبوع الواقع في غور بيسان، في شمال البلاد الفلسطينية، وهو سجن محصّن جداً، أشبه بالقلعة، بني سنة 2004 من أجل معاقبة المقاومين الفلسطينيين الذين قاموا بالانتفاضة الثانية عام 2000 بأشد أنواع العقاب الجسدي والنفسي، وبجواره يقع سجن شطة المشهور أيضاً بقسوة سجّانيه من جهة، وكثرة عدد المناضلين الفلسطينيين المحكومين بالأحكام المؤبدة فيه، من جهة أخرى.
تقوم رواية "زنزانة وأكثر من حبيبة" على تقنية تعددية الأصوات الراوية لأحداثها، فالابن الأسير (أوس) يروي من داخل زنزانته عن أمه وما تعانيه من شظف الحياة، وهي تعمل في خياطة الملابس لتؤمن لأولادها العيش الكريم ونفقات المدرسة ومتطلباتها بعد أن شغر البيت من حضور الأب المفقود، والأم (أم أوس) تروي من خارج الزنزانة عن ابنها أوس الذي نشأ عصامياً، يحب المدرسة، ويعشق الثورة، ويحفظ ديمومة القيم النبيلة، والأب الروحي: الفدائي القديم (صاعد) المحكوم بثلاثة مؤبدات، هو الآخر يروي قصته البطولية، وتفانيه في خدمة الثورة والمقاومة مثلما يروي قصص بطولات رفاقه في السجون الإسرائيلية، وتنقّلهم من سجن إلى سجن، ونضالهم من أجل تحسين شروط حياتهم داخل الزنازين التي هي أشبه بالقبور، فهو الرجل الأسير المسن الذي يرعى (أوس) ويوجهه إلى مواصلة الدراسة، والاستحواذ على الشهادات العليا، وهو الذي يحثه على الكتابة، كتابة حياة المقاومين في الزنازين مقابلة ومقارنة بالحياة في القرى والبلدات الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي. إنه الأب للأسرى الجدد، ومنهم (أوس) الذين ينهلون من تجربته النضالية كي لا يسقطوا في أفخاخ السجّان الإسرائيلي وأشراكه، وحين نسمع صوت الأسرى الجدد نسمع كل ما هو وطني وجميل عن الأب صاعد، هذه الشخصية التي تمثّل دور (الأب المعيل) للأسرى الجدد داخل الزنزانة، هو من يمثل حضور العرف الاجتماعي، وهو من يمثل التاريخ المحفوظ في الكتب والذواكر، وهو من يصون الأمل، إنه الأب المسؤول عن القادمين الجدد من الشبان الفلسطينيين المقاومين لتوجهات سلطات الاحتلال الإسرائيلي،كي لا تتعثّر خطاهم، وهو من يحقق رغباتهم حين يبوحون بها، وهو الملجأ حين يخنقهم البكاء، أو حين يطيح بهم الحنين إلى الأهل والأصدقاء، والبيوت، وهو الراشد لهم إلى الدروب الموصلة إلى الأمل والحرية.
تعددية أصوات الرواية تجعلنا نعرف حياة (أوس) الشاب الذي يدخل عالم السجون، وقد ترك كل أحلامه وراءه، فيصاب بالكآبة لأنّ حياة السجن تضيق عليه، ولن يجد من نافذة تفتح له عالم الأمل سوى شيخ الأسرى (صاعد) الذي يقول له هنا، وفي هذه الزنزانة ستتحقق كل أحلامك، هنا، لك الإمكانية أن تتعلّم اللغات، والتاريخ، والجغرافية، والآداب، والفنون، والعلوم، وتأخذ الشهادات العالية، وهنا في الزنزانة لك الإمكانية أن ترتبط بمن أحبها قلبك، فتخطبها، ثم تتزوجها، حين تخرج، وأنت لا تعرف متى ستأتي أو تحين ساعة الخروج، وحين ترتبط بمن أحبها قلبك، فهي من المؤكد ستأتي إليك، وفي كل زيارة، وستمدك بأمل جديد، ولتقول لك إنك تقترب من باب الحرية كي تخرج إلى حياة الشرف والكرامة، وهنا، في الزنزانة، لك الإمكانية بأن تخدم بلدك، قضية وشعباً، أن تقرأ لتتثقّف أنت أولاً، ولتثقيف من هم حولك، وهنا، في الزنزانة، لك كل الإمكانية أن تعلم بأنّ المناضلين في فيتنام، وكوبا، وجنوب أفريقيا، والهند، والجزائر، الذين اعتقلوا في السجون، هم الذين خرجوا وتحرروا منها، بعد أن كسروا قيودهم، وأصبحوا قادة لبلدانهم، وهنا في الزنزانة، لك الإمكانية أن تحوّل هذا الفضاء الضيق الموحش إلى مكان وسيع آمن بالقراءة والإيمان بالعقيدة والأمل، والحفاظ على المبادئ والثوابت الوطنية، وهنا في الزنزانة لك الإمكانية أن تخيف سجّانك بصلابتك وقوّتك وعدم الانجرار إلى غوايته ووعوده الخلبية، وهنا، في الزنزانة لك الإمكانية بأن تعيد ترتيب معادلة العيش، بحيث يصير السجان سجيناً، وتصير أنت سيد المكان.
في الرواية "زنزانة وأكثر من حبيبة" وقوف على محطات التحقيق الأليمة والموجعة والمحتشدة بالضرب والإيذاء والتعنيف والشتائم والدماء لانتزاع الاعتراف من المقاومين الفلسطينيين، وما يستتبع ذلك من صمود أسطوري مع أن الجسد يذوي ويضعف، لكن الكرامة في نمو وشبوب وعافية، وهنا تشيع صفة توريث البطولة والاقتداء بها من سجين قديم إلى سجين جديد، كيما يظل البطل المقاوم في الخارج بطلاً جسوراً داخل الزنازين الإسرائيلية ووسط الأساليب الشيطانية للتعذيب والقهر وإماتة الجسد، ونرى أيضاً وقوف الرواية على ما تهدف إليه سياسة السجون الإسرائيلية من تتفيه للفعل المقاوم، حين يعرض السجان على المقاوم الفلسطيني مغريات شتى، لعل في طالعها التسفير خارج البلاد الفلسطينية لكي يعيش حياة البذخ في الخارج، ونرى ما يقابل هذه السياسة الإسرائيلية من صمود مذهل، وقصص وحكايات وحوارات يقولها الأسرى الفلسطينيون من أنّ نسمة هواء فلسطينية واحدة تساوي هواء العالم كله، وأنّ كلمة بلادي وحدها، هي أغنى من كل الكلام الذي يعرفه العالم أيضاً.
رواية "زنزانة وأكثر من حبيبة" هي رواية مكان يكاد يكون بطلها بالمطلق، وهو مكان مشطور إلى شطرين، مكان خارجي في عالم رحب جميل مرغوب ومحمود، هو نابلس، ومكان داخلي خاص ضيق موحش وكريه وبغيض هو الزنزانة، ومن تقابلية ثنائية هذا المكان تتولد معاني الحياة والمقاومة، ورواية "زنزانة وأكثر من حبيبة" هي رواية زمن وطني مشرف مرتبط بالانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 التي قامت على دعائم فكرية قوامها أن مواجهة العدو الغاصب هي الحل، ودعائم عقيدة بأن العدو أناني متكبر لا يقيم وزناً لأي قيمة إنسانية، وأنه يعامل الآخرين "الغوييم" بوصفهم حيوانات، ولهذا فإنّ العيش معه مستحيل، ودعائم تاريخية، بأن لا شيء، لا عمران، ولا كتب، تذكر بأنّ للعدو تاريخاً عاشه في هذه البلاد، ودعائم استشرافية للمستقبل، قوامها بأنّ العدو يمضي في اتجاه غايته قتل الفلسطينيين وإبادتهم وتطهير الأرض الفلسطينية بتهجيرهم أو قتلهم أو الخلاص منهم اعتقالاً وإقامة جبرية، وأنّ أهل فلسطين يمضون في اتجاه آخر نقيض هو طلب الحياة فوق أرضهم والعيش بسلام.
رواية "زنزانة وأكثر من حبيبة" هي رواية اجتماعية لا تخلو من الحديث عن نسيج العادات والتقاليد والأعراف والتصورات التي هي أصل سوسيولوجيا الحياة التي عاشها الفلسطينيون ويعيشونها اليوم (رغم أنف الاحتلال) ، أما اجتماعية العدو الإسرائيلي فهي اجتماعية نفعية مادية لا جذور لها في المكان والزمان، ولا جذور لها لتؤسس تراثاً أو تراكماً اجتماعياً يصير تراثاً.
إنها رواية، اجتهد كاتبها الأسير المحرر قتيبة مسلّم، أن تكون جدلية مكان وزمان، وأرض ومقاومة، وفكر وعاطفة، وأدب وفن، وواقع ومجازر، وقد نجح ببراعة حين وظّف تجربة السجن لتكون عتبة للحرية المنشودة ليس للمعتقلين الفلسطينيين وحسب، وإنما عتبة حرية للوطن الفلسطيني المحتل.