"راقصة البلاط": تاريخ من النهب الاستعماري لخيرات الشعوب
تكشف الرواية عن فترة تاريخية مهمة مرت فيها كوريا، ومنها معاهدة جيمولبو،وهي المعاهدة الكورية اليابانية التي أُجبرت فيها كوريا على فتح موانئها للتجارة العالمية،وكانت بداية الانهيار الاقتصادي، الذي تلاه الانهيار في سائر المجالات الوطنية الأخرى.
من مشهد مغادرة الحسناء جين لي، على متن سفينة، رفقة النبيل الفرنسي فيكتور،وثمة عينان حزينتان ترمقانها من بعيد، هي اللوحة التي افتتحت بها الكاتبة الكورية كيونغ سوك شين روايتها «راقصة البلاط جين لي»، وهي الرواية الحائزة جائزة مان الأدبية الآسيوية ومن ترجمة المصري محمد نجيب، بحيث ينهض العمل وفق خطين متداخلين يرصد الأول فيهما مرحلة من تاريخ كوريا الجنوبية في إبان حكم سلالة آل جوسون الملكية، في نهايات القرن التاسع عشر، والتنازع الاستعماري عليها وتغلغله في البلاط الملكي وسيطرتهم على قرار البلاد. ويستنتج القارئ هذا التاريخ من خلال حكاية الصبية اليتيمة،جين لي، لما يمكن أن يندرج تحت مسمى الرواية التاريخية أو التخيل التاريخي.
تتربى جين لي في كنف امرأة فقيرة أطلق عليها في النص "المرأة سوه". ولدى هذه المرأة أخت تعمل في القصر الملكي،وتصطحب الطفلة معها في بعض الأحيان إلى ذلك القصر حيث للمكان قوانينه الخاصة وعادات معينة لا يحيد عنها كل من يعملون فيه. وفي إحدى المرات لمحت الإمبراطورة الطفلة ولفتت انتباهها، فقامت بإبقائها لديها وصيفة خاصة، وأشرفت على تهذيبها وتعليمها التطريز والرقص والغناء، على نحو يشابه الجواري في قصور الخلفاء عند العرب، وضمتها إلى ما يعرف باسم "فتيات البلاط"، اللواتي حياتهن في يد الملك، ولا حرية لهن خارج أمره، يقمن بترفيهه مع ضيوفه، بحسب ما هو دارج في تلك المرحلة. ويبدو أن أمور البلاد ومصالحها تديرها الإمبراطورة من وراء الكواليس عبر واجهة الملك المنصرف إلى لهوه ولذاته الشخصية،لكن نظراً إلى جمال جين لي اللافت للنظر، عاشت الملكة في قلق، وخافت أن ينتبه الملك لجمالها وتخسرها وتفقده. لذا، تهاونت في طلب الكونت الفرنسي فيكتور كولين دي بلانسي، الذي لفتت نظره في أثناء أدائها رقصة طائر الأوريول الربيعي في البلاط الملكي، وشغف بها عشقاً، وطلب الزواج بها رسمياً من الملك شخصياً.
تبدأ الكاتبة روايتها من منتصف القصة لترجع بها إلى البدايات، متنقلة بين الماضي والحاضر، لنعرف أن الصبية عاشت ظروف اليتم والتشرد قبل أن تؤويها "المرأة سوه"،وأتقنت اللغة الفرنسية مع الطفل يون،الموسيقي الأخرس، على يدّي أحد المبشرين القادمين مع البعثات التبشيرية"، الأب بلانك.
الجزء الثاني من حياتها تجري أحداثه في مدينة باريس، حيث لاحقتها الغربة على الرغم من كل مظاهر الرفاهية التي تحظى بها، وعلى رغم تعرفها إلى الوسط الثقافي في فرنسا، وقيامها بترجمة بعض الكتب الكورية إلى الفرنسية. فمجموعة من الكتب الكورية المهمة سبق أن استولت عليها حملة عسكرية فرنسية. لذلك، كانت هذه الكتب موجودة في المكتبات الفرنسية. وعلى رغم انخراطها في أجواء المثقفين الفرنسيين، مثل الكاتب غي دو موباسان، واطلاعها على أعماله، وصناعتها مراوح حرير لسيدات لو بون مارشيه، فإنها كانت بعيدة عن الإحساس بالسعادة لأنها ترى نفسها "نبتة شاذة" في هذا المكان، وغريبة عن أجوائه،على رغم مظاهر الاحتفاء التي تحاط بها،لنعرف أن مداركها بدأت تتفتح على ملاحظات جديدة اكتشفتها، عبر حسها الفطري. فمثلاً أدركت خفايا سرقات الغرب إرث الشعوب. ففي زيارتها متحف اللوفر الباريسي لاحظت المنحوتات التي تم جلبها من بلدانها الأصلية إلى المتحف الفرنسي. فأبو الهول من مصر، وجاءت فينوس من جزيرة ميلوس، وإلهة النصر من جزيرة ساموثريس في بحر إيجه، وسواها كثير مما لم تعرف مصدره. كما لاحظت الفوقية الاستعمارية التي يُنظر عبرها إلى سائر الشعوب في "باريس التنويرية"، كما يسمونها، بحيث رأت أقسى المشاهد العنصرية في "حديقة حيوان بشرية"،بحيث تم جلب بشر من مناطق متعددة،وأغلبيتهم من السكان الأصليين من كل قارة تقريباً: الأفارقة والأميركيين الأصليين وسكان جزر المحيط الهادئ والهنود والأوروبيين الأصليين وغيرهم. وكانوا فرجة للناظرين من أجل رؤية نمط حياتهم الفطري البدائي، والسخرية والحط من شأنهم،كحيوانات بشرية لا حقوق لها، وكمشهد للتسلية والضحك فحسب، الأمر الذي يفضح ادعاءات الحرية والمساواة التي يتشدقون بها، لأن هذا المشهد عار للإنسان في مدينة التنوير وفي أي مكان. ومن خلاله بدأت تتذكر رغبة الفرنسي فيكتور العارمة في اقتناء التحف الكورية، ولاسيما الفخار الأخضر، وتماثيل بوذا، والأثاث المصقول،لينتهي الأمر باقتنائه البشري لـ جين لي،التحفة الأجمل. كل هذه الأمور، بالإضافة إلى غربتها، أحدثت صراعاً مريراً في ذاتها وصدمة شعورية نتيجة إحساسها بالخيبة والخذلان عند وصولها إلى هذه النتيجة، وإن كان بصورة غير واعية تماماً. فهذه المشاهد انعكست على شكل مرض أصابها في سيرها وهي نائمة في شوارع باريس عند الصباح من كل يوم، من دون أن تتذكر شيئاً في اليوم التالي، لتعاظم إحساسها بأنها قطعة من الخزف مصطفة إلى جانب التحف الأخرى، الأمر الذي جرّها إلى أسئلة الوجود والكينونة: من هي؟ ولمَ هي موجودة هنا؟ وسؤال الهوية هو الذي يؤرّقها: ماذا تفعل في هذا المكان؟ وما هو مبرّر وجودها؟ هل هي إحدى التحف الجميلة التي يتم اقتناؤها ليصعقها التناقض، لكن التناقض الآخر أن الفرنسي، الذي يعشقها، غير مستعد للتنازل عن مكتسباته كفرنسي، ولا خسارة لقبه ككونت كي يتزوج بها رسمياً في فرنسا، مع رفض والدته لهذا الزواج، ولا أن يعمل ضد سياسة بلده من أجلها حتى لو ظُلم الآخرون. هنا ترى بعينيها صورة المستعمر الذي يسيطر على كل ما هو جميل في بلدها، وهي من ضمن هذه المقتنيات،على رغم كل ادعاءات الحضارة والرقي .فالثقافة ما هي إلا قشرة براقة تُخفي تحتها الجشع والطمع في ثروات الآخرين وخيراتهم، الأمر الذي جعلها تصر على عودتها إلى كوريا. وهناك، تصطدم بمشاكل البلاط والمؤامرات والدسائس الداخلية التي تحاك هنا وهناك، بعضها مرتبط بمصالح خارجية، والبعض الآخر تملأه مطامع دنيوية وثارات شخصية وخيانات تنتهي بمصرع الملكة، التي حاولت المحافظة على الكيان الكوري مستقلاً وموحداً، على أيدي اليابانيين الغزاة. وكانت نهايتها كارثية بالتعاون مع متآمرين من الداخل، لترجع جين لي إلى بيتها الأول، وليعود يون ربيب الطفولة، لكن الأطماع تلاحقها وهي الحسناء الجميلة التي يريدها كل لنفسه، الأمر الذي يتسبب بقطع أصابع يون، العازف الجميل، لأنهم ظنوا أن عزفه هو الذي يجمعها به؛ أولئك الذين لم يرتقوا ليعرفوا عمق المحبة الإنسانية الجامعة بين البشر التي لا تعرف المناصب والطبقات.
من خلال اللوحة الجميلة التي رسمتها الكاتبة لتنقلات جين لي، كشفت فترة تاريخية مهمة مرت فيها كوريا، ومنها معاهدة جيمولبو،وهي المعاهدة الكورية اليابانية التي أُجبرت فيها كوريا على فتح موانئها للتجارة العالمية،وكانت بداية الانهيار الاقتصادي، الذي تلاه الانهيار في سائر المجالات الوطنية الأخرى. وهكذا هو تاريخ الشعوب، ما إن يبدأ التنازل عن السيادة حتى تكر سائر التنازلات تباعاً.والاستبداد، دائماً، يجلب الغزاة من كل حدب وصوب.