"دانيال ديروندا" أخطر رواية عنصرية في تاريخ الأدب
لقد تبنّت هذه رواية مبكراً وقبل رواية هرتزل المتوفى سنة 1904، (أرض قديمة- جديدة التي صدرت عام 1902)، تجسيد فكرة الهجرة إلى فلسطين، من خلال تأسيس المستوطنات الأولى فوق التراب الفلسطيني، وتأسيس التشكيلات العسكرية الأولى المدافعة عن المستوطنات.
آمنت طوال حياتي أنّ الزمن ديمقراطي، لا يؤيّد ظلماً وقع على الأفراد والمجتمعات، ولا على الأرض والقيم النبيلة، ولا يؤيّد عنصرية أو وحشية بغيضة، ولا تياراً شالت به العصبيات الغضوب، ولأنّ الزمن ديمقراطي، ها نحن نلتفت إلى الوراء، إلى الكتب والمدوّنات، وإلى الظروف والوقائع والأحداث والحادثات كيما نعرف جذور الظلم، والوحشية، والعنصرية، ولنقف على أسباب حالات الهمجية والقوة العمياء التي اجتاحت العالم فيما سلف من الأيام والسنوات.
أقف، وعبر هذه السطور، مراجعاً لرواية هي من أخطر الروايات التي كتبت في القرن التاسع عشر؟، عنوانها (دانيال ديروندا) وصاحبتها امرأة تقنّعت باسم ذكوري هو "جورج إليوت"، واسمها الحقيقي هو "ماري آن إيفانز"، كتبت هذه الرواية بعد عدة روايات لم يكتب لها النجاح، ولا عرفت الشهرة، ولم يحط بها النقّاد تعريفاً ولا استبياناً، ولا تأويلاً، وكان عددها ست روايات، صدرت أولاها "اَدم بيد" سنة 1859، وتبعتها روايات هي "طاحونة على نهر فلوس 1860"، "سيلاس مارتر 1861"، "ورمولا 1863"، "وفيكي هولت الراديكالي 1866"، "وميدل مارتش 1872"، أما الرواية السابعة فهي "دانيال ديروندا" التي حظيت بالشهرة والتعريف والانتشار والقراءات المتعددة، والطبعات المتعددة تترى، فقد صدرت للمرة الأولى عام 1876.
والحقّ أنّ روايتها السابقة عليها "ميدل مارتش" حظيت أيضاً بتقريظ لافت للانتباه لأنها شغلت بالتفاصيل، والحديث عن الأرياف الإنكليزية.
ارتبطت "ماري آن إيفانز" بعلاقة عاطفية مع الفيلسوف الإنكليزي المعروف جورج هنري لويس (1817-1878) الذي كان متزوجاً، ولكي تخفي علاقتها به ككاتبة تقنّعت باسم ذكوري هو "جورج إليوت)"، وحين سئلت عن هذا الاسم الذكوري قالت: لا أريد أن يقرأ أحد كتاباتي قراءة رومانسية لأنني امرأة، بل أريد قراءة جدية لما أكتبه، وأنا زاهدة بالشهرة، لا أريدها، ولا أسعى إليها، لكن اسم جورج إليوت شاع وانتشر ليس داخل اللغة الإنكليزية وآدابها وحسب، بل عرف أيضاً في اللغات الأجنبية الأخرى حين ترجمت أعمالها إليها.
وجورج إليوت هي الابنة الثالثة لوالدها (روبرت إيفانز) لها أختان من زواج سابق لأبيها، توفيت أمها وعمرها 17 سنة. أول كتاب عملت عليه هو كتاب ديفيد شتراوس (1808- 1874) وعنوانه "السيد المسيح" عام 1846.
ارتبطت بعلاقة عاطفية أيضاً بالناشر الإنكليزي جون تشابمان (1821-1894) وهو صاحب صحيفة، وقد عملت محررة في صحيفته عام 1858، وعمرها 39 سنة، وعاشت في بيت هذا الناشر مدة 3 سنوات، وكانت تنشر مقالاتها موقّعة باسمه.
تعرّفت إلى الفيلسوف "جورج هنري لويس" فأعجب أحدهما بالآخر، وقرّرا العيش معاً كزوج وزوجة، بعيداً عن حياة الفيلسوف الزوجية الشرعية.
روايتها الأولى "آدم بيد" نشرتها سنة 1859 تحت اسم جورج إليوت وفيها الكثير من شطط حياتها الشخصية، وكانت صادمة للقرّاء لكثرة ما فيها من شذوذ، وآخر رواياتها هي "دانيال ديروندا"، وبعد نشرها بعامين (1878) توفي الفيلسوف جورج هنري لويس، زوجها غير الشرعي، وقد تزوجت شاباً أميركياً هو "جون والتر كروس" سنة 1880، يصغرها بعشرين عاماً، وقد توفيت بعد شهور من زواجها، وعمرها 61 سنة، وقد تركت وراءها، غير رواياتها، أحد عشر ديواناً من الشعر.
أما الرواية، موضع هذه المراجعة، فهي "دانيال ديروندا" التي نشرت عام 1876، وكلّها تشتمل على تعاطف كبير جداً مع الأفكار الصهيونية التي كانت شائعة جداً في بريطانيا آنذاك، ولا سيما في فترة حكم بينيامين دزرائيلي (1804-1881) لبريطانيا، وهو كاتب وروائي يهودي معروف جاهر بالدعوة لتبنّي الأفكار الصهيونية، وضرورة إقامة وطن قومي لليهود.
هذه الرواية "دانيال ديروندا" حظيت باهتمام كبير من قبل مروّجي الفكر الصهيوني، فطبعت مرات ومرات وأثارت جدلاً واسعاً بين النقّاد والكتّاب والقرّاء، وانشغلت بها السينما ثلاث مرات، مرة صوّرت كفيلم صامت انتشرت شهرته أيضاً في عالم السينما الصامتة، وحوّلت مرات إلى أعمال مسرحية عرضت في غير مدينة من المدن الإنكليزية والأوروبية في آن.
تقوم رواية "دانيال ديروندا" على مجموعة من العلاقات الاجتماعية ما بين الذكور والإناث من جهة، وما بين العائلات الإنكليزية من جهة أخرى، وكلها حاولت أن تخفي أصولها اليهودية، لأن سمعة اليهود في بريطانيا سيئة جداً في كل مجالات الحياة، ولأن الآداب والفنون "شعراً ومسرحاً وروايات وقصصاً" تناولت الشخصية اليهودية بالنقد الصريح المقذع بسبب سلوكيات اليهود المحتشدة بالغطرسة والغرور والأنانية، ولعل من أهم الروايات التي جسّدت عنصرية اليهود وسلوكياتهم الشائنة رواية تشارلز ديكنز (1812-1870) أوليفر تويست.
هذه الرواية "دانيال ديروندا" لـ جورج إليوت قلبت الصورة والنظرة تجاه الشخصية اليهودية التي تمادت بأحلامها ورغائبها فراحت تطالب بوطن قومي لليهود في الشرق (أي فلسطين) لزعمهم بأن أرض فلسطين هي أرض ميعادهم، وقد أرادت هذه الرواية أن تمحو كل نقد واستهجان للسلوكيات اليهودية، وأن تبديها، بعد تجميلها، كشخصيات سوية لا تشكو من شذوذ أو غلو في العنصرية والممايزة عن الآخرين.
شخصية الرواية الرئيسة هي دانيال ديروندا، شاب ثري، ظل يعرّف نفسه بأنه إنكليزي إلى أن يكتشف بأنه يهودي، يتعرف إلى فتاة اسمها (ميرا) ويغرم بها، وهي شابة إنكليزية، لا تلبث أن تعرف هي الأخرى بأنها يهودية، حين تلتقي بأخيها (مردخاي) اليهودي، والداعية إلى إقامة وطن قومي لليهود في الشرق، من أجل إنقاذهم من الأذى الأوروبي، أعني إنقاذهم من الاحتقار والإهمال والتهميش في البلدان الغربية. يتزوج الاثنان (دانيال ديروندا)، و(ميرا) ويذهبان إلى الشرق طلباً لأرض الميعاد للعيش فيها من دون أن يأخذا أي اعتبار لأهل الأرض وأصحابها.
أفكار الرواية الأساسية هي أفكار الداعية اليهودي (مردخاي) الذي اتخذ من "دانيال ديروندا" خليفة له كيما ينشر أفكاره، ولعل أبرز هذه الأفكار هي التي تتحدث عن وطن قومي لليهود في الشرق/ فلسطين/، والهجرة اليهودية الكلية والشاملة نحو فلسطين، باعتبارها أرض الميعاد، والدعاية عبر الصحف والمجلات والمنابر من أجل القول بأن الصهيونية هي منقذة اليهود من ظلم الأوروبيين، وإنه لا بدّ من إنشاء قوة عسكرية تدافع عن اليهود ولو على شكل عصائب، وإنشاء وكالة يهودية تتولى جمع الأموال وإنفاقها على الدعوة الصهيونية، والعمل على تغيير نظرة الغرب إلى اليهود، أي الانتقال بهم من الاحتقار إلى الاحترام، وصك القوانين الحامية لحقوق اليهود داخل البلدان الأوروبية، وإلغاء القوانين والأوامر الإدارية التي حدّت من نشاط اليهود في القارة الأوروبية، ومعاقبة كل من يعمل على عداء اليهود أو المسّ بكرامتهم (عداء السامية)، كل هذه الأفكار اشتملت عليها رواية (دانيال ديروندا) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أي قبل مؤتمر بال في سويسرا عام 1897 بنحو عشرين سنة وأزيد.
هذه الرواية، وروايات بينيامين دزرائيلي أيضاً، أسهمت في إنضاج الفكرة الصهيونية التي ظهرت في مؤتمر بال، وأسهمت في تغيير النظرة إلى اليهود، ونقلهم من موضع الاحتقار والإهانة إلى موقع الأفراد المساوين في الحقوق والقيمة والتعامل لأبناء الدول الأوروبية، وأكدت ضرورة التعاطف مع المسألة اليهودية من أجل خلق كيان يهودي في البلاد الفلسطينية على حساب أبناء الشعب الفلسطيني.
نتحدّث عن هذه الرواية (دانيال ديروندا) الخطيرة لأنها تبنّت العنصرية الصهيونية من جهة، وما قامت به (القابالاه) من أفكار دينية يهودية صوفية لتصير واقعاً وتاريخاً، وحالاً سياسية من جهة أخرى، هذان هما سبب كل ما حدث ويحدث اليوم تجاه البلاد الفلسطينية، والأخطر هو أن هذه الرواية تجاهلت النطق والتصريح بأن المشروع الصهيوني هو مشروع استعماري، مثله مثل المشاري الاستعمارية البريطانية والفرنسية آنذاك، كما تجاهلت الإشارة إلى أن دعاواه زائفة ومؤسسة على أساطير وهمية، وميثولوجيا لا أسانيد لها، في حين أشارت الرواية إلى أن هذا المشروع الصهيوني سينمو ويتطوّر في البلاد الأوروبية إن لاقى الرعاية والاحتضان والتعاطف من السياسات الأوروبية التي كانت، ولا تزال، مهمومة باستعمار بلدان الآخرين، والعبث بتاريخها وقيمها دونما أي اعتبار لقانون دولي، أو أخلاقيات إنسانية، والأمر الخطير الثاني هو أن الرواية قدّمت مثالاً لنجاح البعد الاجتماعي في تأسيس الكيانية الصهيونية في فلسطين من خلال نجاح تجربة العيش للأسرة التي كوّنها (دانيال ديروندا وزوجته ميرا) وقدرتهما الفذة في كسب ودّ المحيط الاجتماعي الفلسطيني الذي عاشا في وسطه من جهة، وكسب عوائل يهودية أخرى لحقت بهما مهاجرة من المجتمعات الأوروبية من جهة أخرى.
لقد تبنّت رواية جورج إليوت "دانيال ديروندا" مبكراً ، وقبل رواية هرتزل المتوفى سنة 1904، "أرض قديمة- جديدة" التي صدرت عام 1902)، تجسيد فكرة الهجرة إلى البلاد الفلسطينية، والقول بنجاحها من خلال تأسيس المستوطنات الأولى فوق التراب الفلسطيني، وتأسيس التشكيلات العسكرية الأولى المدافعة عن المستوطنات الإسرائيلية.
رواية "دانيال ديروندا" هي أخطر رواية عرفها تاريخ الأدب لأنها ناصرت العنصرية الصهيونية، والظلم، والتاريخ الكاذب، وأسست لمجازر ومذابح دموية وظلم ما زالت آثار وقائعه الفاجعية بادية ظاهرة، لكلّ من يمتلك عينين تريان، فوق الأرض الفلسطينية.