"تقاطيع على الأسلاك الشائكة": كيف ينتج المخيم الوعي الفلسطيني؟
يقول ابو العيش: في السجن، يعيد المعتقل الفلسطيني النظر في تفاصيل الحياة التي عاشها مقهوراً مظلوماً ومحروماً من اللقمة، والثوب، والدواء، والحرية، والكتاب، ويعيد قراءة التاريخ الفلسطيني.
يكاد المرء لا يفتك نفسه من هذه الآداب الضافية، شكلاً ومعنى، التي يكتبها الأسرى الفلسطينيون عن الحياة التي يعيشونها داخل السجون والمعتقلات والزنازين الإسرائيلية التي حوّلها السجان الإسرائيلي إلى جحيم مطلق في القسوة، وأساليب هدر كرامة الإنسان الفلسطيني، وقتل روحه الباحثة عن الخير والحق والجمال، ذلك لأنّ في هذه الآداب من الأسرار والتفاصيل ما يوحش القلب ويدميه من جهة، وفيها من الأحلام والتشوفات والمرتجيات ما يجعل النفس البشرية كتلة من المشاعر والقناعات الداعية للثبات وقوفاً في وجه الظلم والعنصرية من جهة أخرى.
والحق، أن آداب السجون، كشفت عن أمرين أساسيين يتمثلان في هذه المواجهة غير المتكافئة ما بين السجان والسجين، وهي مواجهة القوة الغاشمة الساعية إلى تشييء الإنسان، وسلخه عن عالم الأحلام، وسلّه من عالم القيم النبيلة، وإماتة روحه، وتحييده وعزله عن عالم الأفكار والآراء والتشاركية الاجتماعية، أي تحويله إلى هامش ناقل لا نفع له، ولا جدوى منه، وهي أيضاً المواجهة الصلدة التي تؤيد الحق بكل طيوفه ووجوهه لكي يبقى الإنسان حراً عزيزاً في بلاده، ذلك لأنّ كل ما يسعى إليه السجان داخل المعتقل هو تجسيد (ثقافة الإهمال والتلاشي) للسجين، وتوطيد قناعة تقول: إنه كائن لا علاقة له بالصدق، والعمل، والأهمية، وهذا يعبّر عن أقسى وجوه الظلم والقهر وتذويب الذات البشرية التي تدور، مثل بندول الساعة، لكي تتجلى السعادة وطيوف الفرح بالعمل والعمران.
أقول هذا، بعد أن انتهيت من قراءة رواية الأسير الفلسطيني زكي أبو العيش (تقاطيع على الأسلاك الشائكة) الصادرة حديثاً عن دار الفارابي/ وأكاديمية دار الثقافة بيروت 2024/ وفيها تترادف فصول الرواية تترى كيما تقدّم للقارئ، سيرة حياة كاملة لمواطن فلسطيني يريد، كباقي خلق الله، أن يعيش عزيزاً في وطنه، وفوق أرضه، وبين أهله، باحثاً عن الدروب والمؤيدات التي تساعده في تحقيق أحلامه.
وجعلوا القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية جزراّ تحفي الحديث عن الطفولة، تقف الرواية عند حياة الضنك، وضيق ذات اليد، وحالات الإحساس الأولى بأنّ المكان غريب، وغير طبيعي، فهو مخيم (مخيم رفح)، والبيت غريب (خيمة)، والمدرسة غريبة فهي (خيمة كبيرة)، والإرشادات والتعليمات والوصايا غريبة (لأنها تدور حول تحاشي الدوريات الإسرائيلية التي تجوب الشوارع والأزقة وأفرادها من الجنود الإسرائيليين الذين يحملون السلاح ويهددون به)، وزمنها غريب (زمن فترة الستينيات) حين احتل الإسرائيليون قطاع غزة في حرب عام 1967، وفرضوا الحكم العسكري على الأهالي، وقيّدوا حركة الناس، وشلّوا الحريات، وجعلوا أي حديث وطني محرماً وممنوعاً، وبنوا السجون ومراكز الاعتقال لتصير زمناً موحشاً، وأمكنة للمعاناة والموت وقلة الحيلة وقسّموها إلى حدود الأسلاك الشائكة.
تصوّر الرواية طفولة المواطن الفلسطيني، وعبر تقنية التغذية الراجعة، أو الذاكرة المستعادة/ المستجدة، تفاصيل حياة السنوات الأولى من الوعي الابتدائي بأن الحياة في المخيم تعني فقد الأرض، والحقول، والقرية، والبيت، والألفة، والأمن، والسلام، كما تعني وجود المحتل الإسرائيلي الغاصب المالك للقوة الباطشة، وتعني أيضاً المخيم بثنائية غريبة، شقها الأول يجسد حياة الناس المهجرين المطرودين من قراهم ومدنهم إلى مخيمات بيوتها شوادر لا تقي سكانها من حر الصيف ولا من برد الشتاء، مخيمات فاقدة لأبسط مظاهر الحياة الإنسانية، لأنّ الحرمان من كل شيء صار ثقافة فرضها المحتل بالقوة. والشق الثاني لهذه الثنائية يتمثل في رقابة المحتل الإسرائيلي لكل عمل أو حراك فلسطيني، مهما كانت صفته، يقوم به الصغير أو الكبير، المرأة أو الرجل، لأنّ الجميع بالنسبة للمحتل الإسرائيلي، هم أعداء، ويريد لهم الموت كي يطلق عليهم صفة المواطنين الجيدين.
هذا الوعي الذي تنتجه بيوت المخيم هو الذي سيحدد مسارات الفلسطينيين في الحياة المقبلة، سواء أكانت هذه الحياة طويلة أو قصيرة، تعاش داخل المخيم، أو داخل المعتقلات؛ وهذا الوعي الذي يبدي وجوه التناحرية ما بين المحتل الظالم، وصاحب الأرض المظلوم، ولعل السمات الواسمة لهذا الوعي تتجلى في عالم الطفولة وأحلامها، فهذا الفرد الفلسطيني السجين في المعتقلات الإسرائيلية، يستعيد طفولته، وعتبات وعيه الوطني داخل السجن من أجل فحص ثقافته الوطنية عبر النظر إلى خطها البياني الذي بدأ منذ السنوات الأولى، حيث رأى الجنود الإسرائيليين وهم يعتقلون جده، وأباه، وأخاه الكبير بالضرب والإدماء والقسوة البالغة، وحين رآهم وهم يضربون أمه، ويرمونها أرضاً، ويدوسونها بأحذيتهم الثقيلة، وهي تبكي وتصرخ وتحاول منعهم من أخذ الأب والابن والابنة إلى السجون والمعتقلات الإسرائيلية.
وحين تترادف صور ذكريات الطفولة، يبدو طقس من طقوس المخيم فيه البهجة والاعتزاز، وهو المتمثل بإبداء كل وجوه الفرح عندما يخرج المعتقل الفلسطيني من السجون الإسرائيلية، فهذا الطقس يعني تجدد الحياة، لذلك تفتح أبواب خيام عديدة من أجل الترحيب بالمهنئين الذين جاءوا مباركين لأهل البيت بعودة ابنهم إلى الحياة بعد أن خرج من السجون الإسرائيلية، لأنّ خروجه يعني عودة مسار الحياة والأحلام إلى طبيعتها.
في هذا الفصل الذي يكتبه الروائي الأسير زكي أبو العيش، متحدثاً عن طفولته في (مخيم رفح) تتجلى راقات الوعي الفلسطيني منذ عتبات الطفولة الأولى وعياً بما حدث وبما كان، فكل ما هو متصل بالظلم والقسوة والخوف والموت كان سببه المحتل الإسرائيلي الذي لا يريد سوى نفي الفلسطيني وإبعاده، تشريداً وطرداً وتهجيراً أو موتاً واعتقالاً!
في السجن، يعيد المعتقل الفلسطيني النظر فيتفاصيل الحياة التي عاشها مقهوراً مظلوماً ومحروماً من اللقمة، والثوب، والدواء، والحرية، والكتاب، مثلما يعيد قراءة التاريخ الفلسطيني ليرى ويدرك ما لفّه من بلادة ولا مبالاة وخور وضعف واستلاب مشين، وليرى أيضاً سيرة هؤلاء الأبطال الأفذاذ الذين تركوا حياة الرغد والدعة والرفاه، والتحقوا بالخنادق من أجل النضال والمقاومة وتحدي الأعداء ومواجهتهم، هؤلاء الذين احتلوا البلاد الفلسطينية بالقوة الباطشة، ومن هذه السير، سيرة عبد القادر الحسيني، وسير المناضلين عطا الزير، وفؤاد حجازي، ومحمد جمجوم الذين صعدوا إلى حبال المشانق كي يظل نشيد: بلادي، بلادي عالياً، ومن هذه السير أيضاً، سيرة القسام واستشهاده في أحراج قرية يعبد في الجليل الفلسطيني، وصولاً إلى سير الأعلام الأفذاذ اللاحقين، في كل الأراضي الفلسطينية، الذين تقفو دروبهم الوطنية في المواجهة والمقاومة، بعدما سلم المحتل الإنكليزي البلاد الفلسطينية إلى المحتل الإسرائيلي.
ررواية (تقاطيع على الأسلاك الشائكة) للروائي زكي أبو العيش، رواية تتلبث طويلاً عند طفولة المواطن الفلسطيني وحياته في المخيم الفلسطيني، لأنّ المخيم والحياة فيه، وقيمه الحقانية، هي المدرسة الأولى لتكوين الوعي، والهوية، والانتماء، أما المعلم، ببعديه التاريخي والمستقبلي، فهو الذاكرة الفلسطينية ذات الطبقات التي يتراكم بعضها فوق بعضها الآخر مثل طبقات الأرض الجيولوجية.
ورواية (تقاطيع على الأسلاك الشائكة) تتحدث عن تاريخ الظلم الإسرائيلي، وأدواته، ووسائله، وثقافته، وأهدافه، وكلها حوادث وأحداث مشبعة بالقسوة والدماء والإخافة والظلم كي يتمكن الإسرائيلي من قهر الفلسطيني والتغلب عليه، فيمحو ذاكرته، ويطفئ نار مقاومته، ويطوي أشواقه للحرية والعزة والسيادة، لذلك فإن حضور الأسلاك الشائكة في الرواية، هي تأكيد الفرق الصارخ والجهير ما بين الحق والباطل، والظلم والمظلومية، والجمال والقبح، والحرية والعبودية، وما من مزيل ورافع لهذه الأسلاك الشائكة، كي يتجلى الحق بنوره، سوى العزيمة والإيمان المطلق بالوطن الذي صار عقيدة، لهذا نرى الأداة القاطعة للأسلاك الشائكة بارقة شارقة بين يدي الفدائي، ونسمع صوتها بنغمته البهيجة في الليل، حين يفتح الفدائي الفلسطيني ثغرة فيها، كي يعبر بجسده من عالم الظلمة والإخافة إلى عالم العدل والقوة، وصور الأسلاك الشائكة متعددة، يراها القارئ وهي تنهار وتتراخى في صمود المعتقل الفلسطيني وهو يواجه المحقق الإسرائيلي، بـ "لا"جازمة، لا، تربك سياسة المحقق، وتخلط أوراقه، وتبدي عجزه، وعدم قدرته على مواجهة منطق السجين الفلسطيني الناطق بالحق والوضوح، والمصداقية سواء أكانت قدرة أو حجة ذات صلة بالتاريخ أو الجغرافيا أو الثقافة أو العمران أو القيم.
والأسلاك الشائكة، تتوارى وتنهار أيضاً حين تفقد السجون الإسرائيلية وظيفتها الأساسية المتمثلة بأن تكون بروفة أخيرة للتدرب على الموت والقبول والرضابه، والأسلاك الشائكة تتنحى بقراءة المعتقلين الفلسطينيين المحكومين بالأحكام المؤبدة.. للكتب، وبكتابتهم للشعر، والقصة، والرواية، والمسرحية، والفكر، والتاريخ، وفي هذا الأمر يبدو ذهول الإسرائيليين حين يتساءلون: لماذا يقرأ هؤلاء، ولماذا يكتبون، ولماذا يتناقشون، ولماذا يتحاورون.. وهم محكومون بالمؤبدات كيما يقضوا حياتهم كلها داخل هذه المعتقلات، طبعاً الإجابة عن هذا السؤال لا يعرفها السجان الإسرائيلي، الوحيد الذي يعرفها هو المعتقل الفلسطيني الذي آمن بأنّ عمره شديد الصلة بعمر الوطن، وتاريخه الشخصي متصل بتاريخ البلاد التي ما عرفت صفة أهم من صفة العمران.
رواية (تقاطيع على الأسلاك الشائكة) سيرة ذاتية لمعتقل فلسطيني، يتربع فوق قمة وعيه الوطني بأنه وهو داخل المعتقل الإسرائيلي، منتصر لا بد، لأنه هو من صنع التاريخ، وأبدى العمران، وحرس الجغرافيا، وهو من كتب وأبدع، وهو من مشى عبر وعيه، نحو الحلم المنشود باستعادة الوطن العزيز لأهله، أهل العزة والكبرياء..افتكاكاّ من براثن القهر الأسود، وأفكاره السود أيضاً.