"النساء" لكريستين هانا: مأساة الحرب على فيتنام

تقول صاحبة رواية "النساء" أن "المعركة الحقيقية تكمن في العودة إلى الوطن، إلى أميركا التي باتت مختلفة ومقسّمة، إلى المحتجّين الغاضبين، إلى بلد تريد أن تنسى فيتنام".

  • "النساء" لكريستين هانا: يمكن للنساء أن يكنّ بطلات

تعنون واحدة من الصحف الأجنبية إحدى المراجعات على النحو الآتي: "أحضروا مناديلكم استعداداً للبكاء، كريستين هانا أصدرت رواية جديدة". في إشارة إلى ما فعلته هانا في رواياتها السابقة، وما ستفعله من جديد، بأن تجعل أبطال رواياتها، كما قرّاؤها، يمرّون بالكثير. لكريستين هانا أكثر من عشرين رواية، نالت جوائز كثيرة منها جائزة اختيار "غودريدز" لأفضل رواية تاريخية، وهي واحدة من الكاتبات الأكثر مبيعاً. واليوم، تعود مؤلفة روايات "العندليب" و"أربع رياح" وغيرها برواية جديدة حملت عنواناً مباشراً هو "النساء"، وصدرت في شباط/ فبراير عام 2024 عن دار نشر St. Martin's Press. تقع الرواية في نحو 470 صفحة، وقد تصدّرت قوائم المبيعات لأكثر من شهر بعد صدورها. وهي تقدّم تصويراً حميماً لبلوغ سن الرشد في زمن خطير (أميركا الستينيات وحرب فيتنام). أرادت هانا على الدوام كتابة رواية عن فيتنام، لكنها، بحسب قولها، لم تكن جاهزة من قبل لمثل تلك المهمة؛ مهمة الكتابة عن موضوع كبير متعدّد الطبقات ومسبّب للانقسام مثل هذا. واليوم تعود لتحقّق رغبتها بعد أن غدت جاهزة لتقديم ذلك الموضوع الشائك على نحو جيّد.

تأخذ هانا حرب فيتنام ثم تغيّر مركز القصة نحو تجربة النساء. "يمكن للنساء أن يكنّ بطلات". عندما تسمع فرانسيس "فرانكي" مغراث، بطلة الرواية وطالبة قسم التمريض ذات العشرين عاماً، هذه الكلمات، تسمعها مثل وحي، وبفعلها تتغيّر حياتها. فرانكي فتاة ثرية، خجولة، اعتبرت نفسها دوماً فتاة جيّدة وتعلّمت أن تقوم بفعل "الشيء الصحيح". تربّت فرانكي في عالم كاليفورنيا الجنوبية، في مجتمع ريفي، محصّنة بأبويها المحافظين وعائلة تعتبر أنّ مكان المرأة هو المنزل أما الرجال فوحدهم من يذهبون إلى الحرب. 

وفي مكتب والدها، عُلّقت صور أفراد العائلة الذكور الذين ذهبوا إلى الحرب. "لماذا لم يخطر لفرانكي قطّ أنّ فتاة، امرأة، يمكن أن يكون لها مكان على جدار مكتب والدها من جرّاء القيام بفعل بطوليّ أو هامّ، أنّ امرأة يمكن أن تخترع شيئاً أو تكتشف شيئاً أو تكون ممرّضة في أرض المعركة؟"، تقول الرواية. لكن، في عام 1965 يتغيّر العالم، وبفعل جملة "يمكن للنساء أن يكنّ بطلات" التي تسمعها من صديق أخيها، تتجرّأ فرانكي على تخيّل مستقبل مختلف لنفسها. وعندما يذهب أخوها المحبوب الأكبر سناً عام 1966 على ظهر سفينة ليحارب في فيتنام، تنضمّ هي إلى فيلق التمريض في الجيش الأميركي لتكون إلى جانبه. 

فرانكي، الساذجة ومنعدمة الخبرة بقدر الرجال الذين أُرسلوا إلى فيتنام للقتال، تتفاجأ بالفوضى والعنف ودمار الحرب حيث يُعدّ كلّ يوم مقامرة حياة أو موت. وهناك "تقابل المحظوظين، الشجعان، المحطّمين، والضائعين، وتصبح واحدة منهم". خلال أشهر، تصبح فرانكي ممرّضة خبيرة، تواجه الخطر بشجاعة، وتعيش رغم الفوضى صداقات وعلاقات رومانسية. لكن الحرب كما يتبدّى لاحقاً ليست إلا البداية. لأنّ "المعركة الحقيقية تكمن في العودة إلى الوطن، إلى أميركا التي باتت مختلفة ومقسّمة، إلى المحتجّين الغاضبين، إلى بلد تريد أن تنسى فيتنام". عند عودة فرانكي إلى أميركا، تكون غارقة في الاحتجاجات والمشاعر المناهضة للحرب. لقد أُرسِلت هي ورفاقها إلى صراع لا يمكن كسبه، وعادوا إلى أمّة انقلبت على الحرب وعلى الذين حاربوا. 

يتناول القسم الأول من الكتاب الوقت الذي أمضته فرانكي في فيتنام، أما الثاني فيستكشف الأحداث بعد عودتها إلى الولايات المتحدة. في فيتنام كانت فرانكي ندّاً للرجال، قوية، واثقة، مدركة أنها تنقذ الأرواح، أما في أميركا فعادت لتصبح مواطناً من الدرجة الثانية. وفي الوطن، أدركت أن لا ترحيب بالأبطال، وهكذا بدأت رحلة صعبة أخرى. نقرأ في هذا القسم عن معاناتها مع اضطراب ما بعد الصدمة، الوحدة، التحطّم النفسي، والكوابيس. ونرى أن الجميع يتجاهل أنّ النساء شاركن في حرب فيتنام، ما يجعل فرانكي تشعر أنها غير مرئية وأن لا أحد يأخذ قصصها عن فيتنام بجدّية، حتى إنها تسمع عبارة "لم تكن هنالك نساء في فيتنام" مرات عديدة في الرواية. لكن، واحدة من الأشياء التي تحاول الرواية قولها هو أنه حتى إن كان دورك في الحرب طبياً فحسب، فأنت تعيش كلّ جزء من "تروما" الحرب. 

في الوطن، تحاول فرانكي أن تبدأ حياتها من جديد، لكنها تتعثّر بعقبات مثل العار المجتمعي الذي ألحق بحرب فيتنام، الأكاذيب (من جرّاء الاختلاف بين ما رأته بأمّ عينها وما تروّج له السلطات)، واللامبالاة إذ يتصرّف الجميع كما لو أنّ تلك الحرب لم تحدث قط. وحين تدرك بطلة الرواية أنها بحاجة إلى المساعدة، لا تصدّها العائلة فحسب، بل كلّ المؤسسات التي تلجأ إليها كذلك. ولا تجد فرانكي السلوى إلا عند الصديقات اللواتي كنّ معها في فيتنام، ومن الرابط القوي بينهنّ تستمدّ بعض العون. لكن، ورغم صعوبات مرحلة ما بعد الحرب التي نقرأ عنها، تُظهر الرواية تطوّر فرانكي كشخصية. ولأنّ التعافي مستحيل، ولأنها لم تتلقَّ الدعم، يصبح عليها أن تتعلّم أن تعيش مع كلّ ما مرّت به. 

تنتمي رواية "النساء" إلى نوع التخيّل التاريخي، فرغم أن الشخصيات خيالية، فإن الموضوع مؤسّس على الواقع. وقد أمضت الكاتبة الكثير من الوقت وهي تتحدّث مع محاربات في فيتنام حول تجاربهنّ، وعمقُ بحثها يظهر جلياً في الرواية. علاوة على ذلك، يرى النقّاد أنّ الكاتبة تُقحم القارئ في تعاسات الحروب وفوضاها، تخرجه من منطقة راحته، فيشعر أنه هناك في أرض المعركة مع فرانكي وأصدقائها. تكتب هانا مثلاً عن مشاهد حرب قاسية، وتصف غرف عمليات ميدانية، فرانكي وهي تجري عملية شقّ طارئة خلال هجوم بالهاون، جولات بالهليكوبتر أثناء التعرّض لإطلاق النار، بالإضافة إلى لحظات نادرة من الاستماع للموسيقى. ورغم قساوة المشاهد، تكمن قوة هانا الفعلية في قدرتها على الإمساك بالقارئ ونقله من كارثة إلى كارثة، من دون أن يستطيع الإفلات لأنه يصبح ببساطة غير قادر على التخلّي عن الشخصيات التي تبدو حقيقية للغاية. 

أما عن وتيرة الرواية، فيرى النقّاد أنها تمرّ بعدة تغيّرات. في البداية، تكون الرواية بطيئة قليلاً، لكن سرعان ما يتغيّر هذا وتسرع الوتيرة ما إن تصل فرانكي إلى فيتنام. ثم مرّة أخرى، تفقد القصة بعض الزخم بعد عودة فرانكي إلى المنزل، لكن هذا ينسجم مع حال الكثير من المحاربين الذين يعودون إلى الوطن. فمن دون إملاءات الحرب، تختلف وتيرة الحياة، وبالتالي الرواية، بالنسبة إلى المقاتل، ويستمر بالتعثّر إلى أن يعثر على طريقه. كذلك، يأتي اختلاف الزخم السردي، من أنّ فرانكي ورفاقها في فيتنام ينتقلون من طوارئ إلى طوارئ ويبقون تحت ضغط مستمرّ من دون أن يكون لديهم وقت لاستيعاب ما يقاسونه ومعالجته. لكن، ما إن يعودوا إلى الوطن، حتى تبدأ المعالجة الحقيقية. وهنا تأخذ الكاتبة الوقت والمساحة للتوسّع في المشاعر وكيفيّة التعامل معها، ما يغيّر إيقاع الرواية نحو بعض البطء.

تعالج "النساء" ثيمات عديدة، منها الحزن، ضغط "التروما" وما بعدها، محو إسهامات النساء في الحروب، الصداقة والحب، والعار (البلد بأكمله يشعر بالعار من حرب فيتنام والمجتمع متقزّز من انخراط أميركا في الحرب). بالتالي، تحاول هذه الرواية إعادة تشكيل معالم سردية فيتنام بشكل جذري، وجعل القارئ يفكّر بها في ضوء جديد. ورغم الموضوع الثقيل الذي تتناوله، أسلوب كتابة هانا ممتع للقراءة. والكتاب يُقرأ بسلاسة ويجعلنا ننغمس في رحلة فرانكي من البداية إلى النهاية ومن دون أيّ ملل. 

"النساء" ورغم أنها قصة امرأة واحدة تذهب إلى الحرب، تلقي ضوءاً على كلّ النساء اللواتي يعرّضن أنفسهن للخطر واللواتي غالباً ما تُنسى تضحياتهنّ لأجل البلاد. ففي حرب فيتنام، كما في كلّ حرب، غالباً ما تهمَل مشاركة النساء، إلى أن يأتي أدب مثل هذا، ويمنحهنّ صوتاً. "النساء" رواية تكرّم النساء اللواتي حاربن وتمّ تجاهلهنّ وعدم تقديرهنّ. وهي رواية تقارب ثيمة الوطنية من خلال سيرة هذه المرأة التي يمكن لشجاعتها ومثاليّتها أن تعرّف فترة كاملة؛ فترة مات فيها رجال ومراهقون في خدمة قضية زائفة تروّج لها مجموعة من الرجال الأنانيّين عديمي المسؤولية.