"المدينة وأسوارها غير المؤكدة" لهاروكي موراكامي: محاولة للحاق بغارسيا ماركيز ومارسيل بروست
تنتمي الرواية إلى نوع الواقعية السحرية، لكن يمتزج فيها الخيال العلمي، الرواية القوطية، الغموض، الرعب، وأدب بلوغ سن الرشد. ويمكن اعتبارها تنويعاً ما بعد حداثي على "أليس في بلاد العجائب".
أكثر من أي كاتب معاصر آخر، أصبح هاروكي موراكامي، وفق رأي بيلي تريلا، ممثلَ نوع معين من الرواية العالمية: "رواية مجتثة من الجذور، مجردة من أي إشارات محلية يمكن أن تربك الجمهور العالمي، ومكتوبة عموماً بشكل مبسط من لغتها الأصلية، وهو الشيء الأفضل لتسهيل عملية الترجمة". بالتالي، أعماله "تجسّد فرعاً من الأدب المعاصر تَشكّلَ، بطريقة أو بأخرى، بفعل قوى السوق الناتجة من عولمة القرن الواحد والعشرين".
واليوم، تصدر رواية جديدة لموراكامي، الرواية الخامسة عشر، وأولى رواياته منذ ست سنوات. صدرت "المدينة وأسوارها غير المؤكدة" باليابانية عام 2023، وترجمها إلى الإنكليزية فيليب غابرييل، مترجم موراكامي منذ زمن طويل، لتصدر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 عن دار "Knopf". تقع الرواية في نحو 400 صفحة، وفيها يعود موراكامي مرة أخرى إلى ثيمة المدينة المنوِّمة العجيبة التي عمل عليها لأربعة عقود.
بدأت هذه الرواية كمحاولة لإعادة العمل على قصة طويلة حملت العنوان ذاته كتبها موراكامي عام 1980، ونُشرت في مجلة يابانية، لكنه لم يكن راضياً عنها تماماً، ولهذا لم يسمح بترجمتها أو إعادة نشرها. "شعرتُ بأن هذا العمل يحتوي على شيء لا غنى عنه بالنسبة إلي. لكني في ذلك الوقت كنتُ، لسوء الحظ، أفتقر إلى المهارات التي تمكنّني من إيصال ماهية ذلك الشيء"، يقول موراكامي في الخاتمة التي ألحقها بالرواية على غير عادته. وبعد خمس سنوات، كانت محاولته الأولى لإعادة كتابتها، ما أسفر عن رواية موازية للأصلية حملت عنوان "أرض العجائب القاسية ونهاية العالم". لكن المسألة، حسب قوله، ظلت تضايقه. ولهذا، بعد خمس وثلاثين سنة، مع بدء جائحة كوفيد-19، عاد موراكامي إلى المادة الأصلية، وأمضى ثلاث سنوات في توسيعها إلى الرواية التي، حسب قوله، أراحه وضعها أخيراً في شكلها النهائي. أما عن سؤال لماذا عاد إليها؟ فيجيب موراكامي: "في عصر يمر فيه المجتمع بتغييرات سريعة، أصبح البقاء محصنين داخل السور أو الذهاب إلى الطرف الآخر من السور أمراً معروضاً أكثر من أي وقت مضى".
تتناول الرواية ثيمات موراكامي المعتادة، وإن كان يأخذها نحو عمق جديد. فكعادته، الثيمة الرئيسية هنا هي استكشاف الواقع مقابل اللاواقع، وضبابية الخطوط التي تفصل ما هو حقيقي عمّا ليس حقيقياً. تُروى "المدينة وأسوارها غير المؤكدة" على لسان رجل بلا اسم في منتصف العمر يعاني من آثار حب قديم. يروي لنا في القسم الأول كيف أحب وهو في السابعة عشر من عمره فتاة التقاها في المدرسة عمرها ست عشرة سنة، كيف كانا يتبادلان الرسائل ويلتقيان بين حين وآخر. ويحدثنا كيف تصف له الفتاة مدينة غامضة تعيش فيها "ذاتها الحقيقية"، مدينة مليئة "بالقصص المختلقة والتناقضات"، محاطة بسور عال، و"لا يستطيع أحد دخول تلك المدينة. أنت بحاجة إلى مؤهلات خاصة لفعل ذلك"، حسب قولها. بعد شهور، تتناقص لقاءاتهما، ثم تختفي الحبيبة من دون تفسير. فيقرر الراوي أن يذهب إلى تلك المدينة بأي طريقة.
تحدث الرواية في حيزين متمايزين، أحدهما واقعي نوعاً ما، الآخر فنتازي. فتتكشف قصة الحب التراجيدي عبر فصول قصيرة تتناوب مع سردية أخرى تحدث في المدينة المسورة، يكون فيها الراوي في منتصف العمر، والفتاة المراهقة لا تزال في السادسة عشر لم تكبر. في هذه المدينة، يعمل الراوي كـ"قارئ أحلام" في مكتبة غامضة، "الرفوف فيها بدلاً من الكتب، مليئة بأحلام قديمة لا حصر لها"، والفتاة مساعدته، لكنها لا تتمكن من تمييزه. وفي هذه المدينة، تسكن مخلوقات خرافية أحادية القرن بجسم فرس، وفيها أنهار محاطة بالصفصاف، وحارس بوابة يحاول فصل الناس عن ظلالهم، وأسوار دائمة التغير تعيد رصف نفسها باستمرار لتحتوي السكان، ومن هنا جاء عنوان الرواية. إنها مدينة هادئة، عديمة اللون، أزلية لا وجود فيها للزمن (يُرمز لهذا بساعة بلا عقارب)، وليس لأحد فيها ظل.
تحمل المدينة المسورة دلالات كثيرة تفصح الرواية عن بعضها ويمكن استنتاج الآخر. على سبيل المثال، توصف بأنها "حيز لا وعي مظلم"، و"تماماً مثلما يُقسم الدماغ البشري إلى أيمن وأيسر، يقسم النهر المدينة إلى نصفين، شمالي وجنوبي". كذلك، يمكن قراءة ثيمة المدينة كتمظهر رمزي للركود الذي يسبّبه الحزن من جراء الحب المفقود؛ الزمن متوقف فيها كما يتوقف الزمن بعد فقدان الحب. وهي كذلك استعارة للحاجز غير المؤكد الذي يفصل الواقعي عن اللاواقعي. فالرواية تطرح سؤالاً على لسان راويها: "في هذا العالم، هل ثمة شيء شبيه بجدار يفصل الواقعي عن غير الواقعي؟ أعتقد أنه ربما يوجد. لا، ليس ربما، ثمة واحد فعلاً. لكنه سور غير مؤكد تماماً. فحسب الظروف والشخص، تتغير بنيته وشكله. تماماً مثل كائن حي". كذلك، تذكّر الرواية قراءها صراحة أن الأسوار استعارة للحواجز التي تفصل قلب إنسان عن الآخر؛ معظم الشخصيات وحيدة. وفي مرحلة ما، تصرّح شخصية أن الأسوار بنيت "لمنع وباء"، لكن موراكامي يعود ويؤكد أن هذه أيضاً استعارة، فهو "وباء يصيب الروح". كذلك، ترمز المدينة أحياناً إلى الموت أو إلى واقع بديل، إذ تسمح جدرانها بالعبور بين العوالم. أما عن كيفية الدخول إلى تلك المدينة، فواحدة من الطرق هي الاختفاء؛ ظاهرة تدعى باليابانية "Jōhatsu"، وتعني الناس الذين يختفون عمداً من حيواتهم الدائمة من دون أي أثر.
في القسمين الثاني والثالث، وبعد أن وجد الراوي طريقة للخروج من المدينة المسورة، يعود إلى وجوده الحقيقي، غير واثق مما هو حقيقي، ليجد نفسه في حالة شك وجودي: "هل كان حقاً ظلي؟ هل أنا الحقيقي بيننا؟"، و"ما الحقيقي، وما الذي ليس حقيقياً؟" ولكي يملأ الفراغ الناجم عن اختفاء حبيبته، يغادر طوكيو ليعمل في مكتبة في بلدة بعيدة، باحثاً فيها عن روح المدينة العجيبة التي غادرها. هكذا، ينسج واقعاً عادياً لكنه اختياري: "شيء عليك أن تختاره بنفسك، من بين عدة بدائل ممكنة"، لا واقع لا بديل منه. في البلدة البعيدة، يقابل الراوي شخصيتين جديدتين. إحداهما، كما تقول له: "من دون تردد...بوسعك أن تدعوني شبحاً"، والأخرى لمراهق يعاني من التباين العصبي، ويحفظ كل كتاب يقرأه. تقدم هذه الشخصية تصوراً لعادات القراءة عند موراكامي ذاته عندما كان شاباً، كما يقرّ هو ذاته. إنه يجلس طوال اليوم، يقرأ كتاباً تلو آخر "كل شي من إيمانويل كانط إلى موتوري نوريناجا، فرانز كافكا، النصوص الإسلامية المقدسة، كتاب عن الجينات، السيرة الذاتية لستيف جوبز" وما إلى ذلك. كذلك، تحمل بعض المقاطع إشارات إلى كلاسيكيات الأدب، وإشارات لغابرييل غارسيا ماركيز ومارسيل بروست، وإنْ كان موراكامي كما يرى أحد النقاد "لم يتمكن من مضاهاة النزعة التصويرية للأول ولا الرؤية العاطفية للثاني".
تنتمي الرواية إلى نوع الواقعية السحرية، لكن يمتزج فيها الخيال العلمي، الرواية القوطية، الغموض، الرعب، وأدب بلوغ سن الرشد. ويمكن اعتبارها تنويعاً ما بعد حداثي على "أليس في بلاد العجائب". الرواية مكتوبة بأسلوب موراكامي المعتاد؛ حوارات وتوصيفات متدفقة، وأماكن بين بين لا نعرف إن كنا فيها في الواقع أم لا. تتبع هذه الرواية أيضاً أسلوباً تكرارياً، أحياناً تُذكر تفاصيل حدث ما، يعاد ذكرها باستخدام الكلمات ذاتها تقريباً، تؤكد، ثم يُعاد ذكرها. كذلك، تتكرر فيها موتيفات موراكامي المعتادة: الجاز، القهوة، البيتلز، السباغيتي، القطط، وغيرها. لكنه هذه المرة ينتقل من الكتابة عن الشباب وتشتت بدايات البلوغ إلى استكشاف محنة منتصف العمر.
"المدينة وأسوارها غير المؤكدة" هي رواية عن الحيرة والفقدان. وتتناول مفاهيم الهوية والذات الحقيقية، لا سيما من خلال مفهوم الظل: "أحياناً، أشعر أني ظل لشيء، لشخص. ذاتي الحقيقية ليست هنا، إنها في مكان آخر...في مدينة بعيدة، تعيش حياة مختلفة تماماً. مدينة محاطة بسور عال لا اسم لها". إنها رواية عن الذاكرة، عن ضبابية الواقع والخيال، الحب المفقود وطبيعة الزمن والموت. وهي تطرح أسئلة من قبيل: "ما معنى أن تعيش في العالم؟ ما الذي يمنحنا إياه الزمن؟ هل سنعيش بشكل مختلف لو لم يكن هنالك زمن؟ هل ستقبل حياة خالية من الألم أو اليأس إذا كان ذلك يعني خسارة الفرح أيضاً؟"
يقول موراكامي: "أنا الآن في منتصف سبيعينياتي، ولا أعرف كم روايةً بعد بوسعي أن أكتب. لذلك، غمرني شعور قوي أن عليّ أن أكتب هذه القصة بعاطفة، وأُمضي متسعاً من الوقت في فعل ذلك. إنني حقاً أستمتع بالكتابة. الكتابة ممتعة، وإعادة الكتابة أكثر إمتاعاً". وها هي "المدينة وأسوارها غير المؤكدة"، تأتي كنتيجة لإعادة كتابة متكررة، إعادة كتابة ممتعة لكاتبها وجالبة للمتعة لنا.