"العربَجي 2": جرعة مكثفة من التشويق ومنطق حكائي ضعيف
لعل أكثر ما أثر سلباً في تلقي المشاهد للعمل هو ما ينطبق على أغلبية الأعمال الدرامية العربية المتسلسلة، والتي لا يتقرر إنجاز أجزاء إضافية منها إلا بعد انتهاء عرضها، بهدف استثمار نجاح ما سبق من أجزاء، من دون مراعاة أن النص غير مُعَدّ على هذا الأساس.
مع النجاح الذي حققه الجزء الأول من مسلسل "العربَجي" (كتابة عثمان جحى ومؤيد النابلسي، وإخراج سيف الدين سبيعي)، كان من الطبيعي أن يحظى الجزء الثاني من المسلسل باهتمام المتابعين، ابتداءً من حلقته الأولى.
ومع وصول المسلسل إلى نهايته، يمكن القول إنه استحق ما ناله من اهتمام، ونجح في امتحان التشويق، واستطاع صنّاعه، للمرة الثانية، تقديم وجبة خفيفة ومسلية إلى جمهور متنوع، ضمن الخلطة ذاتها التي تجمع أجواء الحارة الشامية ومنطق الإثارة و"الأكشن".
واستفاد العمل من لمسة المخرج سيف الدين سبيعي المتفردة، ومن أداء الممثلين، الذين كان معظمهم "في الموعد"، وقدّم ما هو مطلوب منه. وربما يكون "العربَجي 2" استفاد من انحسار ظاهرة الأعمال الشامية، واقتصارها عليه في هذا الموسم، إذا جاز احتسابه على هذه الفئة، مع كل ما فيه من تمايز ومحاولة للتجديد والتجريب.
تجدر الإشارة إلى أن عرض الجزء الأول من "العربَجي" في الموسم الماضي تزامن مع عرض مسلسل "زقاق الجن" (كتابة محمد العاص، وإخراج تامر إسحق، وإنتاج "قبنض")، والذي يلتقي معه في نقاط كثيرة. وتشابه العملان، فضلاً عن انتمائهما إلى الصنف نفسه، في ارتفاع سويتهما الفنية ونجاحهما الجماهيري، ولم يخلق ذلك تزاحماً بينهما بقدر ما عاد بالنفع على كليهما، إذ كانت مشاهدة "العربَجي" تحرض على مشاهدة "زقاق الجن"، والعكس صحيح.
في المقابل، فإن أكثر ما أثر سلباً في تلقي المشاهد للعمل هو ما ينطبق على أغلبية الأعمال الدرامية العربية المتسلسلة، والتي لا يتقرر إنجاز أجزاء إضافية منها إلا بعد انتهاء عرضها، بهدف استثمار نجاح ما سبق من أجزاء، من دون مراعاة أن النص غير مُعَدّ على هذا الأساس، ولم يترك كاتبه فيه ما يكفي من خطوط معلقة تصلح مفاتيح لجزء جديد من 30 حلقة.
في الحلقة الأخيرة من "العربَجي 1" نجح عبدو (باسم ياخور) في الانتقام سريعاً من حمزة (ميلاد يوسف) بسبب قتله زوجته بلقيس (روعة ياسين)، وقبل ذلك من شومان (محمد قنوع)، الذي قتل ابنته زهرة (تسنيم باشا)، لكنه لم ينفذ انتقامه بحق أبي حمزة (سلوم حداد) الذي قتل زوجته الأولى وتسبب بقتل ابنته، ولا من درية خانم (نادين خوري) التي تواطأت مع أبي حمزة على ظلم عبدو وعائلته، متجاوزةً الصراع القائم بينهما على الزعامة.
وفي مقابل هذا الثأر المعلَّق، صار أبو حمزة مطالباً بالثأر لابنه القتيل من عبدو، ومعه درية التي تمرّد عليها ابنها الأصغر حسن (فارس ياغي) والتحق بعبدو في الجبال وتزوج ابنته الثانية حسنية (دلع نادر)، بعد أن كانت والدته تهيئه لارتداء عباءة الزعامة بدلاً من شقيقه الأكبر عديم الحيلة، نوري (حسام الشاه).
من هنا، انطلق "العربَجي 2"، لكن تلك الخطوط لم تكن كافية لحمل مسلسل من 30 حلقة، فلجأ الكاتبان إلى إقحام شخصيات جديدة بدا حضورها دخيلاً على الحكاية الأصلية، مثل الغوراني (غزوان الصفدي)، أو إفراد مساحة كبيرة لشخصيات كانت هامشية في الجزء الأول، مثل المتصرّف (عبود الأحمد) والنشمي (سهيل جباعي في الجزء الثاني، وسيزار القاضي في الجزء الأول).
وللسبب عينه، لجأ الكاتبان إلى خلق عقد درامية قصيرة الأمد على هامش العقدة الأساسية، القائمة على الانتقام المنتظر للطرفين. تتغذى هذه العقد من العقدة الأساسية وتغذيها، لكن السهولة والسرعة في تشكلها وحلها كانتا أقرب إلى منطق أفلام الكارتون، ولم تحترما كثيراً عقل المشاهد، وهو ما لا يبرره كون الحكاية ومفرداتها، من الديكور إلى الأزياء وسواها، عبارة عن "فانتازيا" من وحي الخيال لم تحدث في أي مكان وزمان.
إضفاء البطولة الخارقة على شخصية عبدو، القادر على فعل كل شيء تقريباً، في الوقت الملائم تماماً، بهامش شبه منعدم للفشل، صبّ في السياق ذاته، ولم يكن ينقص إلا أن يحدث ذلك في الوقت الملائم تماماً، فالبطل الخارق يوجد دائماً في المكان الملائم، وفي اللحظة الملائمة، ليحبط فعل أعدائه، من دون مقدمات واضحة تبرر ذلك.
وتتنقل شخصيات المسلسل بين السطوة الهائلة والقدرة غير المحدودة والعجز المطبق، من دون سببٍ واضح سوى رغبة صنّاع العمل في إطالته وإبقاء جذوة التشويق فيه مشتعلة. وينطبق هذا على عبدو، وعلى "النشَواتية" (أبي حمزة ودرية)، كما ينطبق على المتصرّف الذي يمثل الدولة (العثمانية)، بحيث يبدو المتصرّف، الذي تأتمر بأمره الجيوش، عاجزاً ساذجاً مرة، وذكياً ومحنّكاً وقوياً مرة أخرى، من دون مبررات منطقية للتحول في مستوى الشخصية.
تقلُّب الشخصيات بين القوة والضعف يتزامن مع تحولات أخرى تتعلق بتركيبتها النفسية وبُعدها الأخلاقي. هكذا، نشاهد النشمي، الذي يشبه عبدو في الشهامة والحمية والرغبة في الانتقام للمظلومين، يعود "زرباوياً" عادياً لا همّ له إلا تحصيل المال، بأي طريقة ممكنة، مهما احتوت من نذالة. ونرى حسن، الذي تنكر لعائلته والتحق بعبدو وتزوج ابنته، تسري في شرايينه دماء النشَواتية فجأةً، ويعود إلى "حضن" والدته، وفقاً لمبررات واهية من قبيل "حقن الدماء"، لا تقنع أحداً حتى الشخصية ذاتها!
أما التحول الأكبر، فهو التأرجح المتكرر لشخصية الداية (ديمة قندلفت) بين الشر والحقد والرغبة في إلحاق الأذى بالآخرين، وبين الخير ومساعدة الآخرين والرومانسية، وهو تأرجح حاد تعوزه المبررات المنطقية أيضاً.
ومن عيوب المسلسل غياب المجاميع عن المشاهد، التي تحتاج إلى مجاميع، بحيث نسمع بشأن "وجاق الله مَولاه" (جيش عظيم) يحاصر عبدو، ولا نشاهد إلا بضعة جنود على الخيول. ويمكن فهم ذلك بالنظر إلى التكلفة العالية التي يستلزمها الأمر، وخصوصاً أن الجهة المنتجة، "غولدن لاين"، لم تقصّر في توفير شرط إنتاجي مقبول للعمل، لكن ربما كان يمكن التحايل على هذه النقطة إخراجياً، بطريقة أفضل.
وإذا كان صنّاع العمل لا يدَّعون تحميله رسائل عميقة أو إسقاطات معينة، فإن حكايته، القائمة على تيمة الثورة ضدّ الظلم، وتزامن عرضه مع حرب عدوانية تمس مباشرةً الجمهور العربي، الذي يستهدفه المسلسل، قد يجعلان بطولة عبدو الخارقة وانتصاراته الحاسمة، من جهة، تعويضاً ملائماً من الواقع المحكوم بمراكمة النقاط في مواجهة العدو والتقدم البطيء في اتجاه النصر، والمقترن ببذل التضحيات الجسيمة. ومن جهة أخرى، قد ينعكس هذا التناقض إحباطاً على الجمهور نفسه، وعلى شريحة محددة منه، هي صغار السنّ، الذين تجذبهم عادةً أعمال مماثلة.