"الشوك والقرنفل" وجه السنوار الآخر

  • السنوار
    السنوار

هل تنبع أهمية رواية " الشوك والقرنفل" من أهمية كاتبها القائد الفلسطيني يحيى السنوار ؟ أم أن "الشوك والقرنفل " هي رواية  توفرت فيها العناصر الفنية التي رشحتها إلى الانتماء أدب المقاومة العالمي كتنويع أدبي يحمل سمات التغريبة الفلسطينية.

تتحدث رواية " الشوك والقرنفل " للقائد الفلسطيني يحيى السنوار بلسان الراوي أحمد عن أسرته الغزاوية وهي أسرة ممتدة فيها الجد والأب والعم يعيشون مع بعضهم في مخيم الشاطئء بعد أن  تهجروا من أرضهم إثر  نكبة  1948 عاشت أسرة أحمد تداعيات نكسة 1967 فافتقدت الأب والعم ، وتركت للأم عبء الأسرة والجد المتقدم في العمر بالإضافة إلى عبء تربية أولاد العم بعد أن تزوجت أمهم وتركت أولادها في عهدة أم أحمد التي مثلت دور بطولة المرأة الفلسطينية بكل مسؤولية وعزم واقتدار.

يقول السنوار في مقدمة هذه الرواية التي كتبها في السجن وتم تهريب أوراقها مع المعتقلين المفرج عنهم  على شكل فصول "هذه ليست قصتي الشخصية، وليست قصّة شخص بعينه، رغم أن كل أحداثها حقيقية، وتخصّ هذا الفلسطيني أو ذاك".

حملت هذه الرواية التي صدرت  عام 2004 هما كبيرا ، هو هم القضية الفلسطينية، وأخذت معاناة المخيمات من برد وحر وندرة المواد الغذائية حيزا واسعا من مساحة السرد، وتدرجت في وصف هذه المغامرة الحياتية من قاع الخوف والاضطهاد والفقر والجوع واقتسام لقمة الخبز حتى نجاح الأبناء وفوقهم في الحياة أبناؤها فهذا مهندس وذاك متخرج من كلية الآداب وتلك متخرجة من دار المعلمين، كأن الفقر والتهجير كان حافزا للتقدم والنجاح في الحياة .

بعيدا عن ثقل نجومية إسم الكاتب نلج عوالم " الشوك والقرنفل" فنشتم رائحة البحر في مخيم الشاطئ ونعيش حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، في بيوتهم البسيطة وأثاثهم المتقشف، فننقل الأواني التي تجمع قطرات المطر المتسرب من سقوف ألواح الصفيح ويصيب وجوهنا رذاذها اثر ارتطامها بصفحة الماء ، نتذوق طعامهم وشرابهم ونعرف طقوس أتراحهم وأفراحهم، من خلال زواج أخيه وخالته وانتقالها من قطاع غزة إلى مدينة الخليل في الضفة  وننتظر مع أطفالهم حصص المساعدات التي تمنحهم إياها المنظمات الدولية، ونجتاز معهم وحول الطريق وصولا إلى مدارس الأونروا، نلعب الجحفة مع أطفالهم،  ويساورنا قلق أمهاتهم حين يُعتقل أبناءهنّ وننتحب معهن حين يستشهدون أو يسجنون.

"في أحد الأيام كان الجو شديد البرودة وعاصفاً، تبلّل غالبيتنا من مياه المطر في طريق ذهابنا إلى المدرسة. بعد أن تناولنا الحليب، دخلنا فصلنا وجلسنا على مقاعدنا نرتجف. دخل الأستاذ الشيخ علينا، وكأنه أدرك أننا لسنا بحالة تسمح لنا بالدراسة أو القراءة أو الفهم فأراد أن يُضحكنا قائلاً: يا أولاد تخيّلوا أن السماء تمطر الآن أرزاً ولحماً.. حدثت ضوضاء في الصف ونسينا البرد والبلل على ذكر الرز واللحم، وبدأنا نتحدث دون نظام: أنا لن أكل سوى اللحم .. أنا أحب الرز ... أنا ... أنا"
لقد اختار السنوار الرواية، كنوع أدبي، لسرد تاريخ المجتمع الفلسطيني وليبين للعالم كيف تطورت القضية في ثلث قرن من الزمن امتدَّ من هزيمة 1967 حتى انتفاضة الأقصى عام 2000 مع بعض الرجعات التي تحيلنا الى نكبة في 1948 باعتبارها المرجع الذي أسس لكل هذه التداعيات التي يعيشها  الفلسطيني من إعتقالات و ممارسات قسرية ورقابة صارمة، ودوريات تفتيش وتحقيقات ومحاكمات وتعذيب و استباحة بيوت وهدمها، وتجريف الأرض وحرق الزرع واقتلاع الأشجار، والاستيلاء على أرض الفلسطينيين وبيوتهم... ولايكتفي السنوار بوصف معاناة الشعب الفلسطيني في الداخل وإنما ينقل لنا هواجسه وقلقه على الثورة الفلسطينية في الخارج كمعركة أيلول الأسود، وإبرام مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل عام 1979، وإجبار المقاومة على مغادرة لبنان بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي لها عام 1982.

كان لا بد من عنصر الخيال كي يتخذ النص شكل المعمار الروائي وينأى عن المنبرية أو الأعمال الصحفية والتوثيقية لذا عمد الكاتب إلى خلق التشويق السردي عبر إضفاء ملامح إنسانية وبث لوحات واقعية واصفا مشاعر الفتيان والفتيات في المخيمات في بدايات التفتح على الحياة ، أليس من حق الثوار أن يعشقوا ويحبوا كبقية الناس؟ أم أن عليهم يكتموا مشاعرهم فداءا للحب الأكبر؟

" قصتنا قصة فلسطينية مريرة، لا مكان فيها لأكثر من حب واحد وعشق واحد". لقد كانت ذكريات السنوار الرافد الأكبر والمادة الخام لهذه
الرواية الطويلة (335 صفحة) بل يمكننا القول أن هذه الرواية هي عبارة عن السيرة الذاتية للسنوار بتعديل طفيف يتناسب مع مقتضيات العمل الروائي فهو يكتب بصيغة المتكلم ويسمي نفسه أحمد، أحد أبناء العائلة، ويعيش في البيت أيضًا اخوته محمد ومحمود وحسن وابنا عمه حسن وإبراهيم، اللذان استشهد والدهما في الحرب وتبنتهما أمه وبهذه الأسماء يعكس مختلف ألوان الطيف الفلسطيني فهذا البيت يمثل نموذجا للمجتمع، وأفراد الأسرة يمثل كل واحد منهم تيارًا سياسيًا، اثنان منهما يمثلان منظمة التحرير الفلسطينية التي تعتبر الأب المؤسس للثورة الفلسطينية أما الآخران فيمثلان التيار الديني، الذي تمثله حماس والجهاد فأحمد وهو الراوي يمثل "حماس"، ومحمود عضو في فتح يقول رأيه بكل أريحية لابن عمه الذي ينتمي إلى حماس بعد العمليات الفدائية وانهيار اتفاقية أوسلو: "لو كنتم تتصرفون بعقل وحكمة، لكنتم أعطيتم فرصة لعملية السلام "أما ابن عمه حسن فيمثل شخصية الشاب المتهتك الذي وجد له فرصة عمل عند اليهود راضيا بإستعلاء المستوطنين واستغلالهم للعمالة الفلسطينية في المصانع والمزارع والأسواق.

 ولا يفوت السنوار تخصيص  فصولا كاملة من الرواية للمقاومين الكبار  المؤسسين للجناح العسكري لحركة حماس كالشيخ أحمد ياسين والمهندس يحيى عياش متناولا جهودهم الحثيثة للحصول على الأسلحة والأموال في بدايات التأسيس.

بلغة طيعة وسرد سلس تضيء " الشوك والقرنفل " الضوء على جانب من جوانب شخصية القائد الكبير يحي السنوار، وتعرفنا على وجه آخر من وجوه شخصيته المتعددة ، المتنوعة كأديب ومثقف عضوي -على حد غراشي- ملتزم بقضايا شعبه حتى النفس الأخير.