"الجوع كافر".. فكيف إذا ما اجتمع مع حصار وإبادة؟

كنا نطحن أيّ شيء يمكن طحنه كالشعير وعلف الحيوانات. حتى أنني كنت كلما مررت أمام دابة في الشارع أعتذر منها لأننا نجهدها في حمل أمتعتنا ونأكل طعامها أيضاً. كان حلاً لا بدّ منه لنسكت أمعاءنا الخاوية برغيف كلّ يوم، كان بعضنا يستغني عنه أحياناً ليشبع أطفاله.

  • (أ ف ب)
    (أ ف ب)

في واحد من أيام شهر كانون الأول/ديسمبر الباردة من العام 2024، استيقظت من نومي وأنا مملوءة رغبة بالعراك مع أيّ شخص ألمحه حتى ولو كان هذا الشخص أمي. قد تدفعك قراءة هذه الكلمات إلى اتهامي بالجنون، لكنني لست مجنونة، بل مجرّد شخص من بين 2 مليون ونصف المليون شخص في غزة ممن يعيشون المجاعة.. والإبادة.

هل جرّبت أن تنهض من نومك على مدار شهر كامل من دون أن يتوفّر لك كوب قهوة أو حليب أو أيّ مشروب ساخن كلّ صباح؟ أو أن تتناول فطورك الذي يتكوّن إما من الخبز وحده أو الزعتر فقط؟ فيما تصبح المعلّبات هي غذاؤك اليومي الوحيد، لأنك محروم قسراً من أيّ غذاء طبيعي عدا القليل القليل من البقوليات والأرز. هل سرحت في خيالك؟ أخبرني عن شعورك إذاً.

الآن دعني أخبرك أنّ المجاعة بدأت في غزة، وخاصة في شمالها، منذ شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2023، وتجلّت مظاهرها بسحب تراخيص المخابز كافة التي تعمل في القطاع، لتبدأ معاناتنا مع شحّ الطحين وانعدام الغذاء خاصة البقوليات والأرز.

حينها، كنا نطحن أي شيء يمكن طحنه كالشعير وعلف الحيوانات. حتى أنني كنت كلما مررت أمام دابة في الشارع أعتذر منها لأننا نجهدها في حمل أمتعتنا ونأكل طعامها أيضاً. كان حلاً لا بدّ منه لنسكت أمعاءنا الخاوية برغيف كلّ يوم، كان بعضنا يستغني عنه أحياناً ليشبع أطفاله.

ولأنّ الشيء بالشيء يذكر، يجب أن أخبركم أنّ البيت الفلسطيني "بيت عزّ"، فغالبيّة البيوت لديها مؤونة من زيت الزيتون والزيتون والفلفل الأحمر المطحون، وقد أسعفت العائلات التي لم تقصف بيوتها على مدار أشهر متواصلة. أما أنا وأبناء حارتي فقد تحوّلنا إلى شراء حاجياتنا (رغم شحّها) من السوق، لأن بيوتنا وحيّنا محتلّ من قبل جنود الاحتلال.

في نهاية كانون الأول/ديسمبر، خرج "جيش" الاحتلال من الحي. ركضنا أنا وأخي لتفقّد المكان. كان الأمر خطراً، لكنني أبيت إلا أن أتفقّد كنزي الثمين. مخزون الطعام من المعلّبات الذي كانت تحتفظ به أمي لليوم الأسود الذي تحوّل إلى سنوات عجاف بقدرة قادر. دخلت الحي. كانت الطائرات تحلّق على علو منخفض جداً، حتى تبدو وكأنها تمشي على الأرض. دخلت بيتنا. ازداد طنين الطائرة وظننت أنها ستقصفني لكني تابعت سيري إلى المطبخ.

هناك، في مطبخ بيتنا، وجدت "كنز علي بابا". وقد نفعنا أنّ جنود الاحتلال لم يسطوا ويستقرّوا في بيتنا كما فعلوا مع غيره من بيوت الحيّ. حينها تأمّلت قول الله تعالى "وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً"، وكان الخير في ذلك أننا انتفعنا من مؤونة بيتنا من الطعام والشراب حتى نهاية شهر رمضان، واستعنا كذلك ببعض النباتات البرية كالخبيزة والسليق، وأوراق الشجر الأخرى كالتوت التي مثّلت الطعام الوحيد خلال الشهر المبارك.

في معظم الأيام لم أستطع إكمال فطوري مع أنّ أمي التي تتقن الطهي نجحت في جعل أوراق الشجر طعاماً قابلاً للأكل. لم آكل كفايتي لأنني بقيت أرى في طعامنا "أوراق شجر". كنت أبكي بصمت، لكنني مسحت دموعي متذكّرة حصار قريش للنبي محمد وأصحابه حين أكلوا أوراق الشجر وجلود البعير 3 سنين، ثم فتحت لهم الأمصار وغلبوا الفرس والروم.

يجب أن أخبركم أيضاً أنّ "الأطعمة" التي ذكرتها تصيبنا بالعديد من الأمراض. فسواء أوراق الشجر البري أو المعلبات جميعها تحتوي على مواد مختلفة السمّية. وقد ينتهي بك الأمر عند تناولها وحدها على مدار شهر كامل، أن تصاب بنزلات معوية أو تعاني من التهاب الكبد الوبائي، أو في أفضل الأحوال ستكون عرضة لمغص متواصل يحيلك ضيفاً ثقيلاً لدى مرحاض البيت الذي لا تتوافر فيه المياه في غالبية الأحيان. إنها معاناة.. أليس كذلك؟ أو كما يقولون عندنا في غزة "السمع مش زي الشوف". 

لا أخفي عليكم أننا اليوم تخلّصنا من نصف وطأة المجاعة مع توفّر الطحين في شمال القطاع ودخول بعض البضائع باهظة الثمن التي تحتاج لأن تعمل نشّالاً أو قاطع طرق لشرائها. إلا أننا ما زلنا نأكل وجبتين في اليوم على أحسن حال. نمرّ  إلى جانب الخضار والفاكهة لالتقاط الصور معها فقط. ذلك أنّ أيّ ميزانية ستتحمّل شراء حبة البندورة الواحدة بـ 7 دولارات، وقس على ذلك ما يمكن قياسه.

اليوم أصبحت أكبر آمالنا أن نأكل فحسب. وسواء طالت مدة العدوان أو قصرت، فإننا ننظر إلى هواتفنا الذكية لنستذكر كيف كان شكل البيض المقلي، والأجبان، والدجاج المشوي، واللحوم والأسماك. ننظر إلى الصور مطوّلاً كأننا ننتظر معجزة لتخرج تلك الأطعمة من الشاشات الذكية، أو ينزل الله علينا مائدة من السماء. 

أهرب من الفطور والغداء كلّ يوم وفي بعض الأحيان أدمج الوجبتين معاً، لأني، بكل بساطة، سئمت ما آكله وأريد إخماد وجع معدتي. فقد عرف الاحتلال جيداً كيف يجعل الطعام عذاباً لنا وقد تآمرت معه مواقع التواصل الاجتماعي اللعينة فأصبحت هي الأخرى تعذّبنا بخوارزمياتها السخيفة. إذ تستمرّ بدفع فيديوهات الطعام أمام أعيننا كأننا نحتاج لمن يذكّرنا بأننا محرومون، لكن يبقى عزاؤنا الوحيد أنها دنيا وأنّ العدل في السماء.. في السماء فقط.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.