"آخر البحر" للفاضل الجعايبي.. كيف تحولت ميديا إلى عاتقة اليمنية؟
من هي "ميديا" الجديدة التي جاءت من اليمن؟ وما الأسئلة التي طرحتها مسرحية "آخر البحر" للفاضل الجعايبي؟
تعرض مسرحية "آخر البحر" للمخرج التونسي، الفاضل الجعايبي، بصفة دورية بفضاء الفن الرابع بتونس، وتدوم مدة العرض نحو 3 ساعات وتنقسم الى 14 مشهداً. فمن هي "ميديا" الجديدة التي جاءت من اليمن؟ وما هي الأسئلة التي طرحتها المسرحية؟ وهل كان لا بدّ من هذه المكاشفة الجماعية القاسية لنرى الواقع كما هو بعيداً عن بهرج الشعارات وثنائية الخطأ والصواب؟
عن ضرورة الاقتباس من النص الإغريقي
ليس خافياً أن أسطورة "ميديا" التي تحولت الى مسرحية كتبها اليوناني يوريبيد سنة 431 قبل الميلاد، حظيت باقتباسات كثيرة على مرّ العصور، وخضعت لدراسات نفسية واجتماعية وأدبية انطلاقاً من شخصية ميديا القوية، الأميرة السابقة لمملكة كولشيد البربرية، التي تقع في البحر الأسود. وكذلك علاقتها بزوجها جيزون وعائلتها التي قدمتها قرباناً في سبيل عاطفتها المتأججة نحو غريب طمع في جزة الصوف الذهبية، والتي تحولت في مسرحية "آخر البحر" الى مخطوط قرآني نفيس يعود إلى عصور الاسلام الأولى.
لكنّ الزوج كان طموحاً وتخلّى عنها لأجل أميرة كورينثيا اليونانية، وقد ألهمت مأساتها أوفيد وسينيكا وكورنيل وأنويله أعمالاً قاتمة تتصارع فيها نوازع الحب والجريمة، وتتخلى "ميديا" عن روابطها الأمومية وتقتل طفليها، بعدما تخلصت قبل ذلك من والدها وشقيقها.
لعبت ماريا كالاس دور "ميديا" في فيلم لبازوليني يحمل الاسم نفسه، فيما خلدتها الفنون البصرية في عمل لأوجين دولاكروا. ولعل غرابة الشخصية التراجيدية كان عامل جذب قوي للشغف بها، وبينما قال زوجها في مسرحية "سينيكا"، "لن تطلق الأمهات على بناتهن هذا الاسم مرة أخرى وستكونين وحدك إلى آخر الدهر كما في هذه اللحظة"، وفيما تنطلق عربة "ميديا" في العمل التراجيدي اليوريبيدي نحو الشمس كخلاص خارق، تتدخل فيه الآلهة بمنطقها الغريب عن منطق البشر الأرضيين.
ستتعرض هذه البطلة في العصور اللاحقة إلى تشريعات دنيوية لا تعترف بعلوية العاطفة على القانون. أما عن سبب الاستنجاد بالميثولوجيا لدى البشر، ومنهم الفنانين والمفكرين، فيقول الباحث بيار غابريال في "معجم الميثولوجيا الاغريقية والرومانية "، إن: "الأسطورة تستجيب لحاجة أساسية للروح الانسانية. فكل ما فينا، والذي لا تنيره المعرفة العقلانية، ينتمي إلى الأسطورة. وهو دفاع المنطق عن العقل في مواجهة عالم غير مفهوم أو معادياً لنا. فالأساطير لا يمكن فصلها عن جميع الأفكار التي تشكل عناصر ضرورية وحيوية، ومن دونها يتم تشويه الوعي وجرحه حد ّ الموت".
استلهم الفاضل الجعايبي هذا الخط الساحر للأسطورة ليحاسب الذات البشرية الآن وهنا في تونس وفي بعض بلدان العالم العربي، مع ما يحدث في غزة من استيلاب للأرض وللقيم من دون أن ينسى أن "ميديا" رمز إنساني يمكن توظيفها للبحث في أعطاب الروح والمجتمع معاً. وبذلك فتح جحيماً تتنازع فيه غرائز البقاء والجشع والرغبة في التطهر والاعتراف، وبذلك عمد إلى البحر كخلفية سينوغرافية نشطة على امتداد المسرحية. فهذا الفضاء الحلمي الأمومي في التحليل النفسي. الماء المقدس في المعتقدات الشعبية وبعض الأديان، تحول إلى ملاذ. فباستخدام شاشة عملاقة تظهر البحر كقوة خارقة تعود بميديا إلى أصلها غير البشري، والتي تحولت إلى عاتقة اليمنية القادمة من البحر الأحمر مروراً بباب المندب، وفي هذا إشارة أخرى الى الأحداث الراهنة في الشرق الأوسط، تختزل عاتقة الفطرة والقوة ومنتهى الوعي بكارثية ما يحدث حولها من فساد وتداعي للقيم والهوة العميقة بين التحضر والتغول في استخدام منطق السلطة كبديل عن العدالة.
القسوة كمدخل لتفسير عذابات البشر
تبدو شخصيات مسرحية "آخر البحر" هشة، ورغم ذرائع التسلح بالسلطة والمال، إلا أنها تسقط في دوامة مساءلات عاتقة التي اتهمت بالسحر وبالتخريب والغرابة، هي التي حولت انتقامها من استخدام سمّ الأفاعي إلى التفجير، وكانت النار التهاماً لجسد خطيبة زوجها السابق وشريكه وحميه، وهو في الاسطورة كريون، وفي مسرحية "آخر البحر" جلّول التبريزي، أحد بارونات تهريب الآثار والمتاجرة بكل ما يمثل الأصالة والحقيقة من تراث ومخطوطات وعملات وحتى البشر.
وبذلك أسقطت عاتقة قناعاً آخر، وهو التحصن بالوجاهة الاجتماعية بغسيل وتهريب الأموال المنقولة والخام. كما أنها كشفت عن ترهل دعائم شخصية زوجها التاجر التابع لأسياد أكبر منه. ورغم أن عاتقة مثلت في المسرحية شخصية شغلت الرأي العام وكانت محل اهتمام وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها ظلت منغلقة على عذاباتها الخاصة، وكانت تمر بلحظات حلميّة أقرب إلى الهذيانات التي تذكرها بأمومتها وأنوثتها المقهورة، وعلمها الذي لم تمتد إليه يد التبرير العقلاني والنفسي الذي يجهل مناطق الروح.
ووصفت بأنها تعاني اضطرابات عقلية ونفسية مرضية، بينما كانت تصوب تداعياتها على شكل استجوابات مقلوبة نحو الطبيب النفسي الذي سقط في جحيم مشاغله النفسية الفردية، وكانت المكاشفة بين المريضة والطبيب دهليزاً نحو أعطاب تأكل صورة المواطن التونسي ومن ورائه عالماً عربياً يعيش ازدواجيات وتناقضات صارخة أججتها الأحداث التي تمر بها البلاد منذ عشرية من الزمن. لا يمكن الحديث عن العدالة والمنطق ومحاكمة الآخر ما لم يتم إصلاح الذات الجمعية ووضعها على محك الاعتراف.
ولعل استخدام كرسي الاعتراف والطاولة في فضاء فقير يحيلنا على تفاهة الشر، فهو سلوك روتيني يومي، بينما عاتقة تطلب الحب في عالم مسجون في الكراهية، وتطلب الأمومة الخالصة في وطن تعامل فيه كغريبة، وكل غريب يكون محل ريبة، ولعل عاتقة اليمنية لا تختلف عن "ميديا" في التراجيديا الإغريقية. فكل ما لا ينتمي لليونان كان ينظر إليه باعتباره بربرياً متوحشاً.
وبينما تتمتع "ميديا" بقدرات خارقة، فإن عاتقة تتقن الطب الشعبي وتتشبث بموروثها. ذلك أنها تمجد عشبة اللاورا وتقول "رندة /لاورا /مباركة /من عمر الانسان /في القديم كانوا النساء يبخّروا بيها منازلهم/لطرد الحزن/يغلونها كمسكنّات من الألم والأرق/يستخلصوا منها العطور والزيوت/يدهنوا بيها شعرهم/وينسجوا منها تيجان وأكاليل/يحضروها لرجالهم المروّحين من الحرب/رمزية الانتصار والعزة والقوة".
وجع الجنازة الذي أنصتت إليه عاتقة
تتشح عاتقة بالسواد منذ بداية المسرحية إلى أن تلتحق بأبنائها غرقاً في البحر، إمعاناً منها في إذلال تكهنات وترتيبات البشر. فهي ليست معنية بالوصم الاجتماعي والأخلاقي لأنها تتبع منطقها الخاص لمفهومي الجريمة والعقاب. وهي معنية فقط بصوت بعيد حول كيف يمكنها أن تموت بعيداً عن طقوس الدفن؟ وهي تتحدث بتشنجات باكية وصارخة وحشرجات صادمة في مقاطع كلامها، مقابل حديث جميع شخصيات المسرحية بأسلوب تبريري عقلاني.
يحلل الباحث موريس ميسناج في بحثه "الصرخة التراجيدية عند الاغريق"، بأن الكتّاب اليونانيين هم أول من صنع للألم شكلاً. فالصوت عادة يحدث شيئاً غير متوقع، وهو متنفس جماعي، وخاصية الاعمال اليونانية أنها تحدث صوتاً "للصبر التراجيدي". ويشير الباحث إلى أنّ "الصرخة المأساوية عند الإغريق تنبثق من همهمات البحر والشكاوى الجنائزية وصرخات البطل من الألم. إنه التعبير الضروري للاستيلاء على وقت لا رجعة فيه والذروة العنيدة للوجع والمعاناة ورؤية الموت".
وقد أجابت مساعدة المخرج الفاضل الجعايبي، سهام عقيل شعبان حول بعض الأسئلة، ومنها سبب الاقتباس من نص كلاسيكي ومدى الاضافة إليه وكيفية الاشتغال على مسرحية "آخر البحر".
وقالت شعبان لــ "الميادين الثقافية" إنه: "في اشتغالنا على النص الأصلي "ميديا" للكاتب الإغريقي يوربيدس، انتبهنا أن الكاتب استطاع أن يجمع بقدرة شعرية مسرحية متكاملة لتيمات سياسية واجتماعية مترابطة مع اللحظة السياسية الإغريقية، ليواجه من خلال الشخصية الأسطورية ميديا بشاعة الحرب التي تحيط بدورها بالواقع المجتمعي على مستوى العلاقات في اتجاه السلطة وفي اتجاه العائلة.
قدم يوربيدس خطاب الشخصيات وهي متغلغلة في اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها المسرحية. أما اشتغالنا على هذا الأثر فكان في تفكيك شيفرات النص الأصلي من خلال البحث المعمق في رهانات الشخصيات وأفكارها".
وأضافت: "يتميز العمل مع المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي بالجدل الدائم مع النص الأصلي والخارطة الدرامية التي وصلنا إليها في توزيعية الخرافة من خلال العمل على جدلية الدراماتورج بين نصين وبين زمنين. لكن الوصول بميديا اليونانية إلى عاتقة الخاصة بالأثر المسرحي، كان بمثابة رحلة طويلة بدأت من اللحظة التاريخية اليونانية إلى اللحظة التاريخية الكونية اليوم. فالتاريخ رغم اختلافاته تظل الحرب فيه واحدة وإن تغيرت طرقها، والسلطة في أشكالها البنائية متعددة وواحدة في نفس اللحظة".
وتابعت مساعدة المخرج الفاضل الجعايبي "من هنا، استطاعت العملية الجدلية التي تعامل بها المخرج مع المجموعة المسرحية التي تضم صالحة النصراوي ومحمد شعبان وريم عياد وحمادي البجاوي، استطاعت عن طريق البحث والتفكيك والتحليل استبطان الخرافة شكلاً ومضموناً للوصول إلى رؤية متكاملة لعناصر اللحظة التاريخية الأولى، والعمل على الركح المسرحي بتصور جمالي لخطاب تحمله الشخصيات إلى أقصاه. لقد حاولنا الحفاظ على العناصر الأساسية للخرافة الأصلية التي قدمها يوربيدس، وهي عنصر أن الشخصية الأساسية مهاجرة. لذلك أوجدنا اليمن بتاريخه العريق وبحاضره الدامي والمقاوم كمرجعية متأصلة في العمق الإنساني اليوم، ثم عنصر الجزة الذهبية والتي نراه في "آخر البحر" في المخطوط النادر حتى نحافظ على بنية الخرافة الأصلية، وتحديداً في اللقاء الذي حدث بين الشخصيتين الرئيسيتين قصد تثبيت عناصر الرحلة وأسبابها ودوافعها للأحداث المتتالية، والتي تنتهي من رحلة "ميديا" نحو الشمس لترسو بيننا، فنرى المحاكمة كسردية تواجه بها الشخصية بقية الشخصيات التي قررت محاكمتها لنرى الرحلة متكاملة في آخر البحر".
وأضافت شعبان "يبني الجعايبي الحظة المسرحية بعمق فكري منفتح على سؤال الإنسان الخاص، وهو ما يطرحه مسرح الفاضل الجعايبي منذ نصف قرن. مسرح الجعايبي شغوف بمحلية العوالم وانفتاحها على كونيتها الخاصة بها. ولذلك كنا في جدل دائم معه حول التصور السياسي والايتيقي لهذا الإنسان في رؤيته للعالم، ومنها الجدل حول سؤال الولادة والموت والمسافة بينهما، وأيضاً الانطلاق من فاجعة قديمة جديدة إلى فواجع متعددة ومتكررة نراها ونشاهدها يومياً في أخبار مختلفة تغزو العالم، حتى يصير العالم بحد ذاته فاجعة والإنسان هو المحرك لها. من المتناهي في الكبر إلى المتناهي في الصغر، نجد أن الرحلة الكابوسية التي جاءت منها "ميديا" لترسو هنا بيننا، علامة جمالية مقتدرة على سؤال الإنسان من دون أن نظفر بإجابة واضحة، بل بتقديم سياقات مفتوحة للأسباب التي بعثت كيان الفاجعة في أجساد الشخصيات، عبر رحلة مسرحية دامت 9 أشهر من المراجعات والتفكيك والبحث ركحياً ودرامياً لإستعادة بنيان التراجيديا في المسرح".