وولي سوينكا.. حكّاء أفريقيا الكبير
أثار الكثير من الجدل داخل بلاده وخارجها، ولم يتوقف عن انتقاد السياسات الظالمة.. ماذا تعرفون عن أدب ونضال الكاتب النيجيري وولي سوينكا؟
وُصِف وولي سوينكا بالكاتب الأكثر شهرة وإثارة للجدل في نيجيريا، وعرف تجربة المنفى والسجن، ونُعِت بالأديب الأكثر انتقاداً لحُكّام بلده. كما تصدّى للفساد، وكان صاحب رؤيا في مجال الكتابة الأدبية والمسرحية، مكّنته من الحصول على جائزة "نوبل" للأدب عام 1986. فما هي خصوصيات أعماله، ومميزات شخصياته التي تداخل فيها الجانب الفني بالالتزام السياسي؟
الحكّاء القادم من أساطير "اليوروبا"
منذ ثمانينات القرن الـ20، بدأ وولي سوينكا، المولود في 13 تموز/يوليو سنة 1934، كتابة سيرته الذاتية، وكان جزؤها الأول بعنوان "إيكي.. سنوات الطفولة"، ثم أتبعه بكتاب "إيبادان.. سنوات الاضطراب"، إلى أن أكمل سيرته بكتاب "يجب أن ترحل في الفجر".
في رصيد سوينكا أكثر من 40 عملاً أدبياً، تتناول أجناساً متعددة كالشعر والراوية والمسرح والترجمة والمقالات. ورغم أنّه كتب أعماله باللغة الإنكليزية، إلا أنّه ظلّ وفياً لجذوره القبلية وانتمائه إلى منطقة "أبيوكوتا" الواقعة في جنوبي غربي نيجيريا.
نشأ سوينكا في بيت مسيحي لا يخلو من نزعة توفيقية مع التقاليد المحلية الممتدة إلى قرون بعيدة، إذ كان والده رئيس الكنيسة "الإنغليكانية"، ومديراً للمدرسة المحلية، وكانت والدته ناشطة اجتماعية، وقد أشار إليها في سيرته بكلمة "آكيه"، وذكر بعد سنوات أنّها قرأت ما كتبه عن عائلته، ومن ضمن ذلك ما كتبه عن شخصيتها التي بقيت قريبة من روحه.
التحق وولي سوينكا بجامعة ليدز، بعد إنهاء دراسته الجامعية في إيبادان، وكان قد تخصّص في الأدبين الإنكليزي واليوناني وفي التاريخ الغربي، وحصل على درجة الدكتوراه في العام 1973.
أثناء اقامته في لندن، عمل سوينكا مُرَاجَعاً لنصوص المسرحيات في "روايال كورت"، ولم يفتر اهتمامه بثقافته المحلية منذ نضج وعيه الإثني، إذ تضمّ "ميثولوجيا يوروبا" 600 روحاً خارقة، وتعتبر "الأوريكامي"، وهي الآلهة التي نشأت في غربي أفريقيا، عناصر أساسية في تقاليد "اليوروبا"، والتي أدّت إلى ظهور ما سُمّي بمعتقدات العالم الجديد، المتمركز بالأساس في أميركا اللاتنية.
ظهر ولع سوينكا بهذه الثقافة المحلية في ترجمته لرواية "فانجو" إلى اللغة الإنكليزية تحت عنوان "غابة الألف شيطان"، حيث أشار إلى عالم أسلافه المليء بالأساطير والخوارق التي تجسّدها الألفاظ، حيث تتحوّل الكلمة إلى فعلٍ ملموس في الواقع، وقد أوضح سوينكا أهميتها بالقول: "هذه الكائنات التي تسكن عالم فانجو تتطلّب الحفاظ عليها بأيِّ ثمن".
وقد أعلن هذا الأديب، بعد تجاوزه سن الـ80، أنّه سيحوّل منزله المليء بالتماثيل والقطع الفنية إلى متحفٍ ومقرٍّ للكُتّاب والفنانين، مما يجعله مع الأرض المحيطة به معلماً سياحياً، يضطلع بوظيفة التعريف بالتراث الغني للمنطقة التي بُنِي فيها، وهو نافذة لمعرفة جزء هام من تصوّر عالم الكتابة والفكر لدى سوينكا.
مؤسس مفهوم "النّمورة"
ظهر مفهوم "النّمورة" سنة 1962 في مؤتمر الكُتّاب الأفارقة في كامبالا، وكان بمثابة ردّ فعل من وولي سوينكا على مفهوم "الزنوجة" الذي أسّسه إيمي سيزير وسيدار سنغور. قال سوينكا في ذلك: "النمر لا يعلن نمورته، بل ينقضّ على فريسته"، وأضاف أنّ الزنوجة تمجيد وحنين لماضي الأفريقي الأسود من دون الأخذ بعين الاعتبار العالم الحديث. وقد تحدّث الباحث فريديريك تريفيل عن تعارض المفهومين، إذ بدت الزنوجة أكثر ليونة مع الاستعمار الجديد، وقد نشأ اتجاه منتقد لها. ومن الأسماء التي تبنّته أباندا نادينغي في كتاب "من الزنوجة إلى العبودية"، وباسيل جوليان فوندا في كتابه "العبودية"، وقد اعتُبِر هذا الصراع بمثابة صراع بين الفرنكفونية والأنغلوسكسونية. وبينما ذهب إيمي سيزير إلى أنّ مفهوم "النّمورة" يتماشى مع جيل وولي سوينكا الذي لم يعُد مجبراً على إثبات زنوجته، أي الدفاع عن حضارة العالم الأسود، بينما ردّ سيدار سنغور على هذا المفهوم بقوله إنّ الحمار الوحشي لا يتخلّص من آثار خطوط جلده.
الولع بالمسرح والأدب
منذ عودته من إنكلترا، أسّس سوينكا فرقة "أقنعة" عام 1960، ونشر مقاله الذي لخّص فيه رؤيته للفن الرابع ودوره، في العام 1962، وكان عنوانه "نحو مسرح حقيقي". من أعماله المسرحية "رقصة الغابات" و"حصاد كونجي" و"عابدات باخوس" وغيرها، وقد قام ببحوث لتطوير المسرح في نيجيريا.
حصل سوينكا على كراسي تدريس في جامعات عديدة، مثل كامبردج وهافارد وإيفي وإيبادان، وعمل أستاذاً محاضراً وعميداً لجامعة لاغوس، ومُنِح شهادات دوكتوره فخرية في أكثر من صرح أكاديمي، نظراً لطرحه قضايا الحرية والعدالة في مسرحياته، بالإضافة إلى مكافحته للفساد والانتصار للقيم النبيلة. كما ألّف أيضاً دواوين شعرية وروايتين.
لاقت مسرحيات هذا الكاتب، التي قاربت الـ20، إقبالاً في كلٍّ من أفريقيا وأوروبا، ومن أشهرها "الطريق"، "الأسد والجوهرة"، و"عابدات باخوس"، المقتبسة من مسرحية الكاتب الإغريقي يوربيدس. ومن مسرحياته الأخرى نذكر "الموت وفارس الملك". وعُرِف عنه استعانته بتقنيات محلية قوامها الفنون والمخزون الفلكلوري، وكذلك التمثيل الصامت واستحضار الشعائر والرموز والاحتفالات القديمة المستمدَّة من روح أفريقيا، والتي كانت ميزتها أنّها خرجت من عالم الأساطير إلى حيّز العقلانية والتفكير، وبذلك اكتسبت صفتها الراهنة.
شكّلت هذه الميزات توليفة عميقة، لخّصت فكره المسرحي الذي فهم أن الإنسان روح حرة وخالدة، تظلّ تبحث عن خلاصها في مختلف محطات التاريخ، لذلك يُعتبر سوينكا أحد ورثة المسرح الأفريقي التقليدي، الذي بقي مجهولاً بالنسبة للغرب، والذي كان ينهض بهمٍّ حضاري، تجلّى خاصةً باعتماده استحضار طقوس العبور في مسرحياته، كرمز للأمل المقاوم.
ظهرت شخصية سوينكا الملتزمة بالقضايا التي كتب عنها خلال خطابه بعد الحصول على جائزة "نوبل"، حيث تناول العنصرية الغربية، وضرورة إعادة النظر في العالم القديم، وطرح ما نعته بـ"الشراكة البشرية" على طاولة البحث، معتبراً أنّه من غير العقلاني الدخول إلى القرن الـ21 مع حمل العنصرية المهين.
سوينكا والالتزام السياسي
شكّل الالتزام نهج حياة بالنسبة لسوينكا، وهو ما عبّر عنه بالقول: "يموت الإنسان داخل كل من يصمت في وجه الاستبداد".
كما لم يتخلَّ عن انتقاده للطغمات العسكرية الحاكمة في جنوب القارة الأفريقية، ما أدّى إلى تعرّضه للسجن والاعتقال والهرب خارج بلاده. وقد حُكِم عليه أكثر من مرة بالموت، لكنّه نجا وما فتئ يقارع النزعة التسلّطية للحُكّام، شمالاً وجنوباً، ففي صحيفة "أتلنتيك"، في شهر كانون الثاني/يناير من عام 2017، تحدّث عنه الصحفي يوري فريدمان، وذلك بعد خروجه من الولايات المتحدة إثر فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية، تنفيذاً لعهد قطعه على نفسه في حال فوز ترامب بأنّ يُتلف "البطاقة الخضراء"، أو بطاقة الإقامة الدائمة، وذلك احتجاجاً على خطاب ترامب المعادي للأجانب.
وولي سوينكا وتشينوا أتشيبي
كثيراً ما تمّت المقارنة بين هذين الأديبين الأفريقيين الكبيرين، نظراً لوجود نقاط تشابه كبيرة بينهما، فهما يشتركان في المنشأ والمعتقد والدراسة والنضال السياسي، وفي استخدامهما اللغة الإنكليزية في أعمالهما، التي مكّنتهما من الحصول على شهرة عالمية. ورغم أن أتشيبي عاش أواخر حياته منفياً، إلا أنّ نيجيريا ظلّت حاضرةً في أعماله، وظلّ صاحب رواية "الأشياء تتداعى" يكتسب أهميته الأدبية بتجدُّد ترجمة روايته هذه، التي وصلت إلى 45 لغة، بينما ظلّ وولي سوينكا يؤكّد على أنّ للكاتب سلاح وحيد هو الأدب، رغم نضالاته الطويلة التي توجّه خلالها إلى الأيديولوجيا السياسية وجسّد فيها أفكاره، التي تمثّل على طريقتها تصرفات ثائر ضد نظام قمعي، وهو ما جسّده في حوارٍ مع الصحفي سايمون ستانفورد، في العام 2005، قال فيه: "إنّ الشخصيات الأسطورية هي في الحقيقة إنسانية إلى الوقت الراهن"، وهو ما يضفي على شخصية هذا الدراماتورجي سمة سحرية.
لكنَّ الطرافة في علاقة سوينكا وأتشيبي هي فيما ذكرته الكاتبة كلارا صوفيا برودي، في كتاب "القصة التي كان علينا سردها"، حيث ذكرت أنّ أتشيبي علّق على فوز سوينكا بجائزة "نوبل" بقوله إنّ هذه الجائزة "لن تجعل منه زعيماً للأدب"، بينما ردّ سوينكا بعد سنوات بالقول إنّ أتشيبي "ليس أب الأدب النيجيري"، كما كان يُعرف.