وصايا الأدباء ليست مقدّسة على الدوام؟
من محمود دوريش وحنا مينه وصولاً إلى غابرييل غارسيا ماركيز. لماذا لم تكن وصايا الأدباء والمفكّرين مقدّسة على الدوام؟
لم تكن وصايا الأدباء والمفكّرين مقدّسة على الدوام. إذ طالما خالفها الورثة أو أهملوا تنفيذها لأسباب ينتصر فيها الدنيوي على الروحاني.
قرار نجلي غابرييل غارسيا ماركيز نشر مخطوطته الأخيرة "لقاء في أغسطس" بعد عقد على رحيله، أعاد سؤال الوصية إلى الواجهة.
كان صاحب "مئة عام من العزلة" قد أنجز هذه المخطوطة بنحو 40 مسوّدة، اعتمد 5 منها أخيراً، من دون أن يصل إلى يقين تام بصلاحيتها للنشر، إلا أن الوريثين رودريغو وغونزالو خانا وصية الأب الذي طلب "إعدام الرواية"، لقناعته بأنها "بلا معنى". إذ وجدا أسباباً مضادة لنشرها نظراً للخرف الذي أصاب الأب في سنواته الأخيرة.
بالنسبة لنقّاد كثر، بدت الرواية بعد تحريرها النهائي نقلة أسلوبية في مسيرة صاحب "نوبل" بمواكبته رحلة امرأة متزوجة في منتصف العمر تدعى آنا ماغدلينا باخ تسافر في آب/أغسطس من كل عام إلى إحدى جزر الكاريبي لوضع الزهور على قبر والدتها، لكنها فجأة تغيّر خط رحلتها، وذلك بإغواء رجل تعرّفت إليه في حانة الفندق الذي تقيم فيه، وستتكرّر خياناتها في كل رحلاتها اللاحقة.
هكذا يختبر الروائي الكولومبي مشاعر رومانسية بأقصى درجات الشفافية ويفحص طبقات العاطفة التي كانت مدفونة من قبل.
في الفصل الأول من الرواية الذي ترجمه زياد عبد الله إلى لغة الضاد ونشره في موقع "أوكسجين"، لن تفارقنا الدهشة حيال غوص ماركيز في تقلّبات العاطفة والجسد حين تهبّ ريح أخرى وتعصف بما هو مستقر. كان بإمكان ماركيز أن يتلف المخطوط قبل وفاته لو لم يكن مقتنعاً بما كتبه، فالأمر لا يحتاج إلى وصية كتلك التي أودعها فعلاً بخصوص حرق جثمانه.
ما حصل هنا يعيدنا إلى وصية مشابهة جرى إهمالها أيضاً، نقصد وصية فرانز كافكا وهو على فراش المرض. إذ أوصى صديقه ماكس برود بأن يحرق معظم أعماله بعد موته!
كان صاحب" المسخ" يردّد "لا أحد يفهمني"، ثم كتب جملةً عابرة لصديقه" طلبي الأخير. كل ما أتركه خلفي، دفاتر ومخطوطات وخطابات ومسودات إلخ.. يجب حرقه من دون قراءته، حتى الصفحة الأخيرة". لم ينفّذ برود الوصية، إنما عمل على تحرير فوضى الأفكار المشوّشة، وفرز المسوّدات العشوائية، وترتيب أرقام الفصول، وفكّ ألغاز صفحات مشطوبة، وهو ما أتاح أمام ملايين القرّاء في العالم قراءة الأعمال الكاملة لكافكا بما فيها رسائله إلى ميلينا يسنسكا التي عهد إليها بمخطوط يومياته التي رغب بإتلافها.
من جهته، لم يكتفِ حنا مينه بكتابة وصيته قبل موته بسنوات، بل نشرها في الصحف، ومما جاء فيها: "عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهلٌ، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسّروا عليّ عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية".
وأضاف في ما يتعلّق بإبداعه:" كرّستُ كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل".
وسيرسم مينه سيناريو جنازته بدقّة قائلاً: "أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قُرّاء، إذا طلبت منهم أن يَدَعوا نعشي، محمولًا من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف 4 أشخاصٍ مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب عليّ، في أي قبر مُتاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة.. لا حزنٌ، لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثمّ، وهذا هو الأهم، وأشدّد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها".
بالطبع لم تُنفّذ هذه الوصية، لعلم صاحبها قبل الآخرين صعوبة تنفيذ بنودها، نظراً لعلو قامته في المشهد الإبداعي.
وكان محمود درويش قبل أن يدخل غرفة العمليات في أحد المستشفيات الأميركية أوصى بألّا يُترك حيّاً بفعل الأجهزة الاصطناعية في حال وقع أي مكروه لجسده، وقد نفذ أهله وصيته بما فيها دفنه في فلسطين، وأن يُكتب على شاهدة قبره "على هذه الأرض، سيدة الأرض، ما يستحق الحياة".
مات الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي في منفاه الدمشقي وقد أوصى بأن يُدفن إلى جوار مقام الشيخ محيي الدين بن عربي عند سفوح جبل قاسيون، لكنه دُفن بمقبرة مجاورة، وأوصت غادة السمّان بأن يُكتب على شاهدة قبرها "حين أموت، لا تكتبوا اسمي على شاهد قبري.. ولكن سطّروا حكاية حبي، وانقشوا: هنا ترقد امرأة، عشقت ورقةً.. وماتت غرقاً.. داخل محبرة".
هناك أيضاً وصايا مؤجّلة تتعلّق بنشر مذكّرات أصحابها بعد رحيلهم، مثلما أوصى الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، والتشكيلي فاتح المدرّس، لكن هذه المذكّرات لم ترَ النور إلى اليوم لأسباب مجهولة!