"وردة كاشان": تقطير الحبّ في كلمات
"وردة كاشان" تجربة اقتفى فيها محمد كجك أثر الكاشانيين فقطف من حياته وحيوات المحيطين به زهرات كثيرة.
روايةٌ كُتِبَت قبل تسع سنوات على هاتف عجوز في حافلات متنقلة على مسافات شاسعة ببطء بين المدن الإيرانيَّة، أثناء تحضير كاتبها لمرحلة الدكتوراه، ولم يكن مفترضاً أن تنشر، فقد كُتبت لشخصين فقط: واحدٌ منهما تشرّبت السماء روحه، فأراد الكاتب أن يقول له، وبالوحي السري للسرد، إنه يحبه، والآخر لا يزال حياً، احتال الكاتب بالرواية على مخاطبته وزرع له وردةً في حديقة انتظاره.
تفاصيل تكفي لاجتذاب القارئ إلى رواية "وردة كاشان" للكاتب د. محمد كجك بعد أن خرجت إلى النور العام الماضي من دون معرفة كاتبها أو استئذانه، لتكون هدية عيد ميلاده.
لا يمكن لتصنيف محدّد أن يختصر أجواء "وردة كاشان" (منشورات أنار، 2022)، فلا هي رواية صوفية، برغم ما فيها من إبحار في عوالم الروح بغموضها الآسر ورمزيتها العالية، ولا هي أمنية رغم احتباس الأنفاس في انتظار مصير بطلها ومآل مهمته الخطيرة، ولا هي عاطفية أو رومانسية برغم حكاية الحب الرائعة التي تجمع بطلها بليلى، والصداقة الاستثنائية التي تجمعه بعيسى، ولا هي فلسفية برغم ما فيها من إسقاطات لرحلة الوردة في كاشان – وحياتها الثانية بعد الموت/ القطف -على رحلة الإنسان في كل مكان وزمان.
وإن كانت كاشان محور الرواية ومبتدأها ومنتهاها، فإنها ليست الفضاء المكاني الوحيد فيها، بل تتنوّع الفضاءات في الرواية، التي تتألف من 23 فصلًا عبارة عن 23 تسجيلاً صوتياً لبطليها، من جنوب لبنان إلى الضاحية الجنوبيَّة لبيروت، فبيروت نفسها، وبحمدون. هذا التنوّع لم يكن سبباً في تشتيت ذهن القارئ، بل كان مصدر غنى؛ إذ أجاد الكاتب الانتقال بالقارئ بين هذه الأماكن كما الربط بينها، وهو لا يلغي أن الرواية بين أيدينا جنوبية بامتياز في وجهٍ من وجوهها، كصاحبها تماماً.
وهي رواية مقاوِمة أيضاً، وإن لم تنتمِ إلى الأدب المقاوم بشكله المعروف والمتداول بما فيه من أسلوب مباشر. يمكن القول إن الكاتب الذي لا يؤمن بمقولة "الفن للفن" يدعو إلى الحق على طريقته، ويعرف هدفه وقضيته جيداً، ولكنه لا يسلك إليهما إلا الطريق الأجمل.
هذا النصّ المكتوب بحبّ وإتقان وإخلاص للجنس الأدبي الذي ينتمي إليه لا يقل عن إخلاص الكاتب للفكرة ذاتها، قادر على النفاذ والوصول إلى عموم القراء على اختلاف أمزجتهم ونوازعهم، ومن مصاديق ذلك أنَّ كاتباً عربيّاً لا يتشارك مع كاتب الرواية "الشيخ" النظرة ذاتها إلى الحياة وإلى العلاقة بالخالق، بل يقف تماماً على الضفة المقابلة له، طلب مني الرواية وقد لفته عنوانها إذ يعرف الكثير عن كاشان، ويحتفظ لها في قلبه بصورة جميلة، ويحبّ أن يطلع على كل ما قد يرتبط بها، وخرج بعد القراءة بانطباعات جميلة فاقت ما توقعه من الرواية، التي قال إنَّ لغتها ذكّرته بجمال لغة المفكّر اللبناني الراحل حسين مروة.
وإن كانت "وردة كاشان" هي التجربة الأولى لكاتبها، التي راعى في كتابتها مقتضيات الكتابة الروائية وخصوصية هذا الفن، وفيها ما فيها من الجدّة في الطرح والأسلوب، فإنها لا تقطع تماماً مع أسلوب الكاتب الخاص وبصمته المتفردة التي تظهر في نصوصه الوجدانيَّة القصيرة في "فيسبوك"، والمزدحمة بالصور الجميلة التي لا تزعج القارئ على الإطلاق، لأنها لا تأتي مقحمة بهدف الإبهار بل في مكانها متناغمة تماماً مع السياق.
"وردة كاشان" تجربة اقتفى فيها محمد كجك أثر الكاشانيين فقطف من حياته وحيوات المحيطين به زهرات كثيرة، أضاف إليها الكثير من الحب والكثير من الخيال، قبل تقطيرها على شكل كلمات في مختبره الجميل.