هولوكست غزة: ذاكرةٌ لأيام آتية!
حين نتظاهر ونهتف ونرفع الصوت، وحين نكتب ونرسم ونصوّر، قد لا نستطيع وقف العدوان في لحظتها ولا إنقاذ الضحايا، لكننا ننقذ أنفسنا من جريمة الصمت والخذلان.
لقد انكشف الغطاء.
غزة فضحت زيف هذا "العالم الحرّ"!
غزة كشفت حجم الفجوة الهائلة بين الشعوب والحكّام والحكومات شرقاً وغرباً.
يتبجح العالم بمنجزات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والصواريخ العابرة للكواكب، لكنه يقف عاجزاً متفرجاً على هولوكوست العصر غير قادر على إيقاف المذبحة ومعاقبة القتلة الذين يحظون برعاية دول "العالم الحرّ" التي صدّعت روؤسنا بشعارات حقوق الإنسان وما شابه.
هل نبالغ إذا قلنا إن الإنسانية على مفترق طرق، وإن ما بعد غزة لا ينبغي أن يكون كما قبلها؟
لولا الشعوب التي تتظاهر في الشوارع والميادين، لقلنا إن الإنسانية سقطت، لكن هذه التظاهرات التي تهتف بأعلى الصوت: فلسطين حرة، تعطينا الأمل بأن البشرية ما زالت بخير، وبأن الإنسان ما زال ينحاز للضحية ضد الجلاد، للقتيل ضد القاتل، لمن احتُلَّت أرضه ضد المحتل، لكن هل نكتفي بالتظاهر والاعتصامات كي ننقذ البشرية من الحضيض الذي أوصلتها إليه سياسات القوى الاستعمارية الراعية للنازية المعاصرة متمثلة بـ"دولة" الاحتلال الاسرائيلي؟
رُبَّ سائل: ما جدوى التظاهرات والاعتصامات إذا كانت لا تردع الحكّام والحكومات عن مواصلة طغيانهم ودعمهم لآلة القتل الإسرائيلية؟ وما جدوى الكتابة والكلمات إذا كانت عاجزة عن إنقاذ حياة طفل واحد من أطفال غزة الذين يكتبون بدمائهم تاريخاً جديداً لا ينبغي هذه المرة أن نسمح بتزييفه وتزويره، فما نشهده من همجية الاحتلال وتواطؤ العالم وخذلان الأقربين والأبعدين، وما نشهد عليه من تزوير إعلامي وتزييف للحقائق، يجعلنا نشك في كل التاريخ الذي قرأناه وتعلمناه، وخصوصاً التاريخ الذي خطّه المنتصرون بفعل القوة لا بقوة الحق!
لذا، نقول إن ما بعد غزة لا ينبغي أبداً أن يكون كما قبلها. عشية الحرب على العراق، تظاهر العالم كله رفضاً للحرب، لكن ما كُتِبَ قد كُتِب. وقعت الحرب وسقط ملايين الضحايا من دون أن يرفّ لـ"العالم الحرّ" جفن، والحال نفسه في معظم بلداننا التي أوقعها هذا "العالم" في أتون الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية والجهوية، فلم يترك وسيلة إلا واستخدمها كي تظل أوطاننا فريسة سهلة لمطامعه ومصالحه، متّكلاً على أنظمة متواطئة فاسدة ومستبدة لم تصنع تنمية ولم تنهض بشعوبها، بل ساهمت في تجهيلها وتخلّفها.
كي لا يتكرر الأمر نفسه: تهبّ شعوب الأرض، وتهتف وتصرخ وتندد، لكن المذبحة تستمر وتتمادى، ثم يعود العالم إلى سيرته الأولى كأن شيئاً لم يكن! المطلوب أن يولد من رحم هذه الهبة الشعبية التي شملت معظم عواصم العالم ومدنه تيارٌ ما؛ تيار إنساني عابر للجنسيات والقارات يواجه هذا الانحطاط الذي بلغته البشرية بفعل التغوّل الرأسمالي الذي لا يرى البشر سوى مجرد أرقام، فالتواصل المفتوح بفعل الميديا الحديثة قادرٌ على إبقاء جذوة الرفض متقدة، سواء ضد الصهيونازية وجرائمها في فلسطين أو ضد كل الارتكابات العنصرية والحروب التي تشنها قوى الاستعمار أو تفتعلها في أنحاء العالم كله. ولادة تيار كهذا هي مسؤولية كل مفكّر أو مثقف أو مؤثّر حريص على إنسانيته قبل أي شيء آخر.
حين نتظاهر ونهتف ونرفع الصوت، وحين نكتب ونرسم ونصوّر، قد لا نستطيع وقف العدوان في لحظتها ولا إنقاذ الضحايا، لكننا ننقذ أنفسنا من جريمة الصمت والخذلان، كي لا تغدو المذبحة أمراً "طبيعياً" نعتاده مع مرور الوقت، كما نحاول قدر المتاح والمستطاع تشكيل قوة ضغط على الحكّام والحكومات، عسانا نمنعها من مواصلة السكوت والتواطؤ، فلا يستخفنَّ أحد بقيمة صوته وأهمية كلمته.
أما هولوكوست غزة، فقد تكفّلت بتجديد ذاكرة الدم في الصراع الضاري مع المحتل الإسرائيلي. حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على غزة وأهلها لا يمكن طمسها أو نسيانها. الأطفال الذين شهدوا قتل أمهاتهم أمام أعينهم، الأمهات اللواتي فقدن فلذات أكبادهن في أحضانهن، الآباء الذين عجزوا عن حماية أبنائهم من آلة القتل الجهنمية، المسعفون الذين لملموا أشلاء النساء والأطفال، الأطباء الذين اختلطت دموعهم بدماء الشهداء، العائلات التي فقدت معظم أفرادها تحت ركام بيوتها، الجرحى الذين سيحملون ندوب جراحهم كَوشوم دهرية، التلامذة الذين لم تسلم مدارسهم من الوحشية الإسرائيلية، والغضب الذي يملأ صدورنا أينما كنا... كلها ذاكرة ثورة وغضب لأيام مديدة آتية، باقية ما بقي الاحتلال، ولن تزول إلا بزواله. أما شررها، فلن يطاول الاحتلال وحده. فهل يعي رعاة هذا الاحتلال ما هم فاعلون؟
وَمَن يعِش يرَ!