هل يستطيع التابع أن يتكلّم؟

خلق الاستعمار "أسياداً" وتابعين. فمن هو التابع؟ وهل يستطيع أن يتكلم؟

 

  • هل يستطيع التابع أن يتكلّم؟

يُعَدّ مقال الكاتبة والناشطة والناقدة والباحثة الأميركية، غاياتري سبيفاك، بعنوان "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟"، كما يقول مترجمه خالد حافظي، مهماً وفارقاً، لأنه بالإضافة إلى أعمال مفكرين آخرين، مثل إدوارد سعيد وهومي بابا وغيرهما من الأسماء اللامعة، ساهم من خلال أفكاره الهادفة في دعم التيار ما بعد الاستعماري.

ألقي المقال أول مرة عام 1983 بمناسبة إحياء مرور 100 عام على وفاة كارل ماركس، لكن كاتبته ألحقت تعديلات عليه، وصلت إلى وضعه في خانة التيار النسوي، ونُشر أول مرة نصاً كاملاً عام 1988.

تجلب سبيفاك في مقالها إلى ساحة النقد، أفكار فلاسفة ومؤرخين ومفكرين مشهورين، على نحوٍ مكثف من أجل فهم علاقات السلطة المعاصرة، ودور المثقف داخلها، والذي يتطلب دراسة لتقاطع نظرية التمثيل والاقتصاد السياسي للرأسمالية العالمية. والسؤال الذي يطرحه المقال واضح من العنوان "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟"، لكن ما المقصود بالتابع والمهمش؟ 

في واحد من الحوارات مع الكاتبة قالت إنّ مقالها هذا هو ثمرة جهد كبير لإعادة بناء ظروف حادثٍ معين. إنه الموقف الذي حاولت فيه امرأة تابعة الكلامَ بكل ما أوتيت من قوة.

وتنطلق سبيفاك من نقد مسألة كيفية تمثيل موضوع "العالم الثالث" ضمن الخطاب الغربي. وتتطرق إلى أنّ الإنتاج الفكري الغربي متواطئ، من نواحٍ متعددة، مع المصالح الاقتصادية الدولية الغربية. ثم تقدم تحليلاً بديلاً للعلاقات بين خطابات الغرب وإمكانات الكلام على المرأة التابعة. وتوثق ذلك بأمثلة محددة من الهند.

من هو التابع؟

كتب الفيلسوف الإيطالي، أنطونيو غرامشي، اسم "التابع"، في كتابه "رسائل السجن". ويمثّل التابع الفئات المُهمّشة، من الطبقات الفقيرة والأَدقع فقراً، بمختلف حِرَفهم وأعمارهم ووجودهم الجغرافي في العاصمة والأقاليم.

كثرت الدراسات التي تتمحور حول "التابع" كمفهومٍ وممارسة، على السواد الأعظم من الشعب الهندي المُستغَل من الطبقات البرجوازية الهندية المُتعاونة مع الاحتلال البريطاني، والحاكمة بعد زواله.

مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، برز حقل "دراسات التابع"، ومن أشهر منظّريه المؤرخ الهندي، رانغيت غوها، ولحقه شهيد أمين، وغيانيندرا باندي، وسوميت ساركار، ودايفيد هادريمان، وبفضل تنظيرهم المبدئي، اهتم آخرون، وصدرت مجلة "دراسات التابعين" (Subaltern Studies).

تنتقد غاياتري سبيفاك كاتبي التاريخ الهندي، سواء في الحقبة الاستعمارية البريطانية أو بعد الاستقلال، بحيث تُنسب أي إنجازات ثقافية أو قومية إلى الإداريين والحكام البريطانيين، ومن بعدهم النخبة البرجوازية سواء الاقتصادية أو الثقافية، بينما وصفتهم سبيفاك بـ "المُخبرين المحليين"، في تهميش كبير لفئات من الشعب الهندي، دافعت عن استقلالها، أرضاً وثقافة.

ثم تنتقل سبيفاك إلى التحليل والتفكيك لمدى الصمت الذي يلزَم هؤلاء التّابعين رجالاً ونساء، وما هي دوافعهم إلى الخروج عن هذا الصمت والحديث والثورة. هكذا تستعين المؤلفة بالروسي فلاديمير لينين، وبتعريفه للوعي، إذ يقول "يرتبط الوعي بمعرفة العلاقات المتبادلة بين الطبقات والمجموعات المتعددة، أي معرفة الموارد التي تُشكّل المجتمع"، وهذا ما يساعد على فهم كيفية قياس مدى عدل الوضع القائم من عدمه، ثمَّ كيفية الثورة عليه وتغييره.

التابع المؤنث 

تشير الكاتبة أيضاً إلى مدى صمت النساء من الفئة التابعة، بحيث ترصد سبيفاك أنّ تابعين ما بعد الاستعمار لا يملكون تاريخاً ولا يمكنهم الكلام، والتابعة الأنثى، في هذه الحالة، تكون أكثر وأعمق تهميشاً وصمتاً من التابع الذكر.

وعلاوة على هذا البؤس، تواجه التابعة الأنثى في وقتٍ ما اضطهاداً آخر، كونها امرأة، يقمعها ويستفحل عليها ذكرها التابع.

وتؤكد سبيفاك دعمها للمرأة التابعة، وتؤكد حقّها في الوعي، تماماً كالرجل، كما توضح أنّها عانت بما أنها امرأة، بُعداً استعمارياً، من نظراتٍ دونية بشأن مدى وعيها بالمعرفة والثقافة.

وتتطرق إلى إشكالية المركزية واللامركزية. المركزية التي لها الحق في العلم والتحضّر والنهوض، بينما تواجه اللامركزية التهميش وكل ما هو أدنى وأقل. ولذلك، تتولّد مفاهيم قائمة على العنصرية والطبقية بين أهل هؤلاء وأولئك، ينتج منها صراع طبقي وأخلاقي، يكمن في داخله حقد واستحقار مُتبادل بين الشعب الواحد.

هذا الأمر يجعل الكثيرين من أهل اللامركزية ينزحون إلى المركزية، هروباً من التهميش، وبحثاً عن الانتماء، وبحثاً عن الفرص الاقتصادية التي تساعدهم بشكلٍ أو بآخر على الترقي، اجتماعياً وثقافياً ومادياً.

وتدعو سبيفاك هؤلاء المهاجرين إلى المدينة إلى أن يحافظوا على هويتهم وألا ينجروا وراء حيوات الاستهلاك التي لا تنتهي، والتي تعطي لهم الاعتراف، اجتماعياً وسلطوياً، أو "النضال من أجل الاعتراف"، كما يسمّيه أستاذ الاجتماع الألماني، أكسيل هونيث.

تركّز الناقدة والباحثة الأميركية من أصول هندية، على نقد كل التعريفات التي تنتجها الأكاديميا الغربية والأميركية في وصفها البلاد العربية والآسيوية والأفريقية بـ "الآخر"، وتسمّيه "عنفاً إمبريالياً". 

يقول الكاتب محمد يحيى حسني، إنه، في المجمل، فإنّ المقال يمثّل نمطاً من جلب المجموعات التابعة إلى دائرة الضوء، وحيّز الكلام، بعد أن تولى غيرُها تمثيلَها. فمسألة تمثيل التابع عبر خطابات مقدّسة "دينية" أو عبر ثقافة ذكورية أو عبر المُستعمِر، أو حتى عبر خطابات معرفية نقدية تدّعي الانحياز إليه، تجعله مطموراً، وتجعل التساؤل عن إمكان كلامه وجيهاً، إذا استحضرنا ذلك القدر الهائل من القمع الممارس عليه. فسلب حق التمثيل هو أفظع ما يميز وضع التابع.

نستحضر مع سبيفاك نمطاً مخصوصاً من التبعية، ومن الوصاية على الذات والوعي والجسد كابدتها النسوة، وما تزال تكابدها، في سياقات وأزمنة ثقافية متعددة.

طقس حرق النساء بعد موت أزواجهن، المعروف بـ"ساتي" في الهند، وانتحار فتاة ذات الأعوام الــ 15 بسبب فكرة الإرغام على الزواج ممن لا تريد، مثالان يقدمان صورتين للتابع: صورة الإخضاع والتبعية التامة، التي تغذيها وتبررها المرجعية الدينية المقدّسة والثقافة الذكورية، باعتبار المرأة ملكاً للرجل، وصورة التصفية الجسدية أو الكلام بالانتحار.

بالنسبة إلى طقس "الساتي" فإن المرأة في هذا الطقس تبرز كتابع مغيب الإرادة والوعي. فهي لا تملك من أمرها شيئاً، لا تملك حق الاستفسار ولا حق الاعتراض، بل إنها، مدفوعةً بثقل التقاليد وبسطوة النصوص الدينية وعنفها الرمزي، تَعًدّ الطقس خلاصاً لها ووفاء منها لزوجها الميت.

في عام 1929 قامت السلطات الاستعمارية البريطانية بتجريم طقس "الساتي" وأرغمت الهنود على التخلي عنه، لكن المفارقة، التي تكشّفت عن ذلك القرار، تمثّلت في تعرض أصوات النساء لمصادرة مزدوجة واختطاف جديد، جعلهن ضحايا مرة أخرى. فالمستعمِر البريطاني الأبيض استغل المنع للادعاء بأنه من حرّر المرأة ومنحها حق الحياة، في الوقت نفسه الذي أبقى على تمثيلها كذات مضطهَدة ومستلبة الوعي.