"نيلة زرقاء": زهورٌ للحبّ والموت
ربط فجر يعقوب قصته بحال العالم اليوم، فالمصنع قد يكون أي بلدٍ قائمٍ على سطح الكوكب، لا أحد ناجٍ. وما تلا جائحة فايروس كورونا أثبت أننا عالقون تحت حكم أنظمةٍ سوداء، ومثقلون بشعارات خلّبية.
يصلُ الكاتب والمخرج الفلسطيني فجر يعقوب عبر روايته "نيلة زرقاء" الصادرة هذا العام 2022 عن دار موزاييك في اسطنبول، خطّاً سردياً مستقلاً بشبكةٍ من المشاهد القديمة والمعاصرة. إذ يبدأ كل فصلٍ من فصول حكايته بأقوالٍ لمفكرين وفنانين عالميين، وكأنه عبر ذلك يعيد ترتيب صورة العالم في أذهاننا، ويفسّرُ عبر خط الحكاية القديمة ما آلت إليه الحياة اليوم، وما أصاب البشرية من أمراضٍ وكوارث، آخرها جائحة فايروس كورونا.
تقع الرواية في 185 صفحة، ويطلّ عبرها "حوّاس الرضابي"، كشخصية ساخطة ومتمردة، من مصنع الكرتون الحكومي، حيث يعمل حارساً ليليّاً. يحكي ويسكر مستعيداً الأحداث التي دفعتهُ للعمل تحت الإقامة الجبرية، بعد أن كان كاتباً شغوفاً، وروائياً حالماً، عوقب إثر كتابته رواية هزأت بمنجزات "الأدميرال" في البلاد، وسخرت من رأس الهرم في نظام شمولي حكم فضاء الرواية، حيث يسود الاستبداد والقهر الاجتماعي، وحيث التسلّط يسبغ تفاصيل الحياة، والاستلاب الذهني يسيّر الجموع.
"في سنوات الرصاص، لم تكن هناك قصص مملة، كان للجميع دون استثناء قصصهم المثيرة" هكذا يصف الرضابي قصته مع مدير المعمل "أشرف الخازن"، إذ يعمل تحت إمرتهِ، ليكشف عن أداةٍ مصغرة من أدوات الأدميرال، ورمزٍ لمتسلقٍ حالمٍ برضا الحاكم، وآملٍ بالعلوّ السلطوي. فيعمل على جعل المعمل نسخة مصغرة عن البلاد، بمجموعة من عمالٍ وآلاتٍ يحكمها بقوانينه الخاصة. لكن الرضابي يبدو أسيراً لقصته، ولا مناص لآلامه سوى بالنفاذ عبر الليالي في قمرة الحراسة، لتفصح عن ماضي مديرهِ المشين. فيسترجع، أثناء شربهِ ومجونهِ، صورة حياته الآفلة، عبر شبابٍ خالَ العالمَ فيه عادلاً، ليمنحهُ الثقة بمجيء يومٍ يُحاكَم فيه الظالم. إلا أن أفكاره تحت سلطة الخازن تتبعثر، وتهتز شخصيته القديمة، ويتحول إلى نتاج الإنسان الذي تصنعه تلك النظم، كنموذج لمواطنٍ مهزوز ومبتور الكيان. تتأرجح المُثل من حوله، وتفقد الأحداث توازنها، ولا يعود للنتيجة زنة فعلها، بل لا يعود كل أمر للحدوث كما يجب عليه أن يكون.
إذن تتغير الحياة، والعالم، ومعه يقص متألماً سوء الحال الثقافية في البلاد، ومحاولات مديره تسخيرَ موهبته لصالحه، ليعمد بعد تمنّع الرضابي إلى محاولة التخلّص منه، بصفته شاهداً وحيداً على طرقه الملتوية لكسب ثقة الأدميرال، وقيادة معملٍ مطلٍّ على جبلٍ من زهور زرقاءَ برية.
"من يفتقد إلى متعة السرد الدامي، لقلة موهبته، كان يمكنه أن يتجول مشياً على الأقدام ليشاهد بأمّ عينه التوابيت الكالحة التي كانت تُرمى أمام البيوت فجأة من سيارات غامضة..". من هنا تخرج إلينا زهرة النيلة البرية، إذ تعمد غانيات الجبل إلى قطفها وتحويلها لمساحيق للتجميل ومياهٍ للتعطر، بغية استقبال رجال الخازن وحراس الأدميرال عبر الليالي المتعاقبة. وهي بذلك منفذٌ للقصة، ينفرج على حيز من المتعة والحب والجمال، إذ تبدو وظيفة الزهرة؛ تهيئة الليالي الملاح للرجال في الجبل، لكنها تحت تأثير مكر الخازن، وبعد إعلانه قيام حربٍ وهمية، يزرع إثرها كاميرات فوق رؤوس العمال، ويبث عبر مكبراتٍ أصواتَ حربٍ طاحنة، تتحول الزهرة إلى طلاء للنوافذ والجدران، إذ يقنع الخازن الجميع بفاعلية لونها في تضليل العدو، وبقوة الأزرق الكامن في دحر أصابع الحرب عن رقابهم، ليتحول النيلي الذي حجز مكانه للحب والفتنة، إلى رمزٍ للقمع والاستبداد.
تنطلي حيلة الحرب الوهمية على الجميع، إلا على الرضابي، فبعد انتظاره المرير للجزاء الذي يجب أن يناله الخازن، وبعد ثقته بانهيار الحياة التي أسس لها الأدميرال، يفقد الرجاء في آماله، وهنا تعود بنا الذاكرة إلى جورج أورويل في روايته "1984"، بفوارق عديدة، أبرزها موت الرضابي، بعد تجرّعه مرارة انكساراته، إذ تقتله الخيبة، ويموت حين يخرج الخازن لقتله، فيجده في قمرة حراسته يرغي ويزبد على الأرض الباردة المظلمة.
لا تنتهي الحكاية بموت راويها، بل يتابع الكاتب سرد ما يحدث بعد موتهِ، وكأنه يمعن في تعميق المأساة، فيرسم مشاهد تهليل الرجال بعد إعلان نهاية حربٍ لم تحدث، لتعود الحياة على ما كانت عليه، ويبقى حكم الأدميرال، ويحيا الخازن كمدير ناجح، وقائدٍ وفي، وأديبٍ لا مثيل لمنجزاته.
هكذا ربط فجر يعقوب قصته بحال العالم اليوم، فالمصنع قد يكون أي بلدٍ قائمٍ على سطح الكوكب، لا أحد ناجٍ. وما تلا جائحة فايروس كورونا أثبت أننا عالقون تحت حكم أنظمةٍ سوداء، ومثقلون بشعارات خلّبية، وما تفعله الحكوماتُ بمواطنيها لا يختلف عما صنعه الخازن بالرضابي، بل يؤسس لمرحلة جديدة، تقول باستمرار الظلم، وبمزيد من الاستبداد السياسي. "وبعد الانتهاء من الحرب شوهد عمال مصنع الكرتون الحكومي وهم يقفون في طوابير طويلة تصل إلى ساحة الحرية، كانوا نساء ورجالاً، وأطفالاً ولدوا في العتمة الإجبارية، وكانوا جميعهم بعيونٍ زرقاء!".