نيقولاي غوغول.. روسي أم أوكراني؟
هل كان نيقولاي غوغول أوكرانياً.. ولماذا يُشكّك بروسيّته اليوم؟
اعتادت عين القارئ العربي على رؤية إسم صاحب "المعطف" و"الأنفس الميتة" بهذا الشكل: "نيقولاي غوغول"، أو ربما "نيكولاي غوغول"، وإن كانت طبعة ترجمة كتابه مصرية فـ "نيكولاي جوجول"، إلا أن الشائع في السنوات الأخيرة أنه ولد باسم "ميكولاهوهول- يانوفسكي".إن كان ميكولا هو إسم القدّيس نيقولاوس، الذي يغدو بالروسية نيقولاي، فإن الهاء في "هوهول" تستحيل "غ" (بلفظ الجيم المصرية) لداع فونوتيكي صرف، إذ لا يوجد حرف "هـ" في اللغة الروسية. لكن الكاتب نفسه وقّع قصصه ومسرحياته ورواياته ورسائله، بل كل ما كتب، باسم "نيقولاي غوغول" وذلك لسبب بسيط، وهو أن كل ما كتبه كان بالروسية. فلماذا يُشكّك بروسيّته اليوم؟
من نيجين إلى موسكو
عشية أحداث القرم وإقليمي الدونباس (دانيتسك ولوغانسك) اللذين أعلنا انفصالهما، وميدان كييف، وهروب الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش... كانت روسيا قد أطلقت على سنة 2015 إسم "عام الأدب الروسي"، وظهر على الملصق الرسمي لهذه السنة التي نُظّمت فيها آلاف النشاطات الثقافية شعارها، وهو عبارة عن رسم مقطعي جانبي لوجوه ثلاثة أدباء روس، هم نيقولاي غوغول متوسّطاً آنا أخماتوفا وألكسندر بوشكين.
رأت الإدارة الروسية أن هؤلاء الأدباء يجسّدون الأدب الروسي وأنهم خير من يصلح لتصدّر التظاهرة الثقافية الضخمة التي وصلت إلى كل بيت روسي، وبينهم غوغول المدفون سنة 1852، في مقبرة نوفوديفتشي التي تدعى "مقبرة العظماء" وتقع جنوب غرب موسكو.
وقتذاك، كانت أوكرانيا تحصد ثمار الميدان، فتصاعدت وتيرة الأكرنة لتطال الانتقادات شعار "عام الأدب الروسي"، تأكيداً على أوكرانية نيقولاي غوغول المولود في قرية فيليكي سوروتشينتسي التابعة لمقاطعة بولتافا سنة 1809. بين الولادة الأوكرانية والوفاة الروسية 42 سنة، أبصرت في العقدين الأخيرين منها النور أعمالٌ خالدة لهذا الكاتب. كيف كان هذان العقدان؟
كتب عضو أكاديمية العلوم في سان بطرسبورغ دميتري أوفسيانكو – كولكوفسكي، سنة 1911، معلّقاً على مشاجرة إيفان إيفانوفيتش وإيفان نيكيفوروفيتش في الفصل الثاني من قصة غوغول "ميرغورود"، فقال:"تنتمي إلى مجموعة قصصية تابعة لروسيا الصغرى التي كتبها غوغول، وهي تشمل أمسيات في قرية قربديكانكا، وإيفان فيودوروفيتش شبويكا، وملاك الأراضي ستاروسفيتسكي. وإذا ما أضفنا إليها قصتي تاراس بولبا وفِيَا التي تنتمي إلى قصص الخيال التاريخي، فستشكل كلها معاً دورة أدبية كاملة لا يظهر غوغول فيها ككاتب روسي، بقدر ما هو كاتب أوكراني".
كانت قصص غوغول أصيلة، بمعنى أنه كان يلمّ من بيئته التي قضى طفولته فيها تفاصيل حياة الفلاّحين ويشحنها بعناصر الميثولوجيا السلافية السحرية، والفلكلور الأوكراني بألفاظه وأمثاله وأراجيزه، وتاريخ القوزاق المجيد، ويسكبها في أسلوب واقعي ساخر.
يحدّد أوفسيانكو – كولكوفسكي في كتابه المرجعي "تاريخ الأدب الروسي في القرن التاسع عشر" خصائص تلك النصوص المكتوبة بالروسية والتي جلبت الشهرة لغوغول الشاب في العاصمة القيصرية سان بطرسبورغ، فوفق رأيه كان غوغول آنذاك، "في هذه القصص، كاتباً محلياً أوكرانياً، لكنه كان يوجّه ما يكتب إلى الجمهور الواسع في روسيا، يخبره عن موطنه وعن الأزمنة البطولية للقوزاق، وعن حياة ملاّكي الأراضي القدماء في روسيا الصغرى، عن الأعراف في بلدات مقاطعة بولتافا. لا ينطبق على هذه القصص تعبير هنا الروح الروسية، ولا يمكننا أن نشمّ فيه رائحة روسيا.. بل رائحة أوكرانيا".
ما الذي دفع غوغول إلى حمل فلكلوره المحلّي وحكايات قوزاق "مالا روس" (روسيا الصغرى أي أوكرانيا) إلى العاصمة القيصرية؟
بعد تخرّجه من المدرسة الثانوية في مدينة نيجين، غادر غوغول إلى سان بطرسبورغ كشأن آلاف المتعلّمين في روسيا آنذاك، لكنه كان يحصد فشلاً بعد آخر، محاولاً بكل جهده أن يحقّق ذاته ويُحدث ثغرة في الجدار السميك الذي يحول بينه وبين شقّ طريقه في الحياة.
جرّب أن يعمل موظّفاً حكومياً فلم يُفلح، خضع للاختبارات في التمثيل فلم ينجح.. بحث عن الشاعر في نفسه، كتب قصائد وطبعها في ديوان على حسابه فانهار.. جمع النسخ المطبوعة وأحرقها. أغلقت العاصمة أبوابها أمامه ففكّر في الهجرة إلى أميركا، في طريقه إليها نفد ماله في ألمانيا وساءت حاله، فعاد أدراجه. رضي بالقليل، تنقّل بين وظيفة حكومية متواضعة وأخرى في العاصمة إلى أن كتب في عدد من المجلاّت ما استساغه النقّاد ولفت أنظار قرّاء العاصمة.
كانت قصصه أصيلة، بمعنى أنه كان يلمّ من بيئته التي قضى طفولته فيها تفاصيل حياة الفلاّحين ويشحنها بعناصر الميثولوجيا السلافية السحرية، والفلكلور الأوكراني بألفاظه وأمثاله وأراجيزه، وتاريخ القوزاق المجيد، ويسكبها في أسلوب واقعي ساخر.
بات شهيراً فتابع الكتابة في هذا المسار متخلّياً عن الفكاهة، متّجهاً إلى النزعة التشاؤمية في الأعمال التي خلّدته بعد ذلك. وقد رافقته هذه النزعة شخصياً، ورافقت أعماله غير المبنية على تلك العناصر المحلية، بل على نتائج الاحتكاك بروسيا الرحبة وشعوبها.
الأثر القوزاقي
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بُذلت جهود ملحوظة في كييف لإعادة إنتاج غوغول أوكرانياً، فبالإضافة إلى ترجمة أعماله إلى الأوكرانية، والتي لم تخرج نقيّة، بمعنى أن الشوائب التي لحقت بها كانت على أساس قومي؛ تتبّع الباحثون أصل غوغول ليعيدوا جذوره إلى عائلة غوغوليف – يانوفسكي، التي ذكرت في مخطوطات نيكونوفسكي في العام 1405، وفق ي. لوتسكي في كتابه "مآسي ميكولا هوهول المعروف باسم نيقولاي غوغول" (كييف: زنانيا أوكراييني، 2002). وذهب آخرون إلى أن العائلة تناقلت في مرويّاتها أن جدّ غوغول أوباناس أخبر أن جدّه أوستاب أندريه غوغول كان عقيداً في عهد الهيتمان القوزاقي بوهدان خملنيتسكي، كما ذكر أولكسندر أوهلوبين في بحث له نُشر في كييف سنة 2009 (خرونيكا 2000، ع 78). وذكر أيضاً أن أسلاف غوغول لجهة والدته وجدّته هم كذلك الهيتمانات ميخايلو وبيترو دوروسينكو وإيفان سكوروبادسكي.
وهذه المعلومات ليست بالغة الأهميّة بحد ذاتها إن لم يجر توجيهها قومياً، وتحضير الأرضية المناسبة لها لقرنها بمقولة إن أوكرانيا الحديثة هي امتداد لإمارة القوزاق المستقلّة في 18 آب/ أغسطس 1649 التي أسّسها خملنيتسكي زعيم هذا الشعب على حوض نهر الدنيبر من 1648 إلى 1657.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بُذلت جهود ملحوظة في كييف لإعادة إنتاج غوغول أوكرانياً.
فعلى الرغم من أن النظرة إلى خملنيتسكي مُختلَف عليها بشدّة بين البولنديين واليهود والروس، والأوكرانيين، بل والقوزاق الآخرين على أحواض أنهار الدون، والكوبان، والفولغا... إلا أن هذه الفكرة بحد ذاتها، وبغضّ النظر عن مدى صحّتها، هي غير كافية للربط بين أعمال غوغول واللغة الأوكرانية التي تُرجمت إليها أعماله وفق منظور قومي حديث، ونزع روسيّته عنه وقد اختارها بنفسه.
كما أن الربط بين لغة أهل "سيتش زابروجيا" (مركز دولة قوزاق الدنيبر في القرن السابع عشر)، واللغة الأوكرانية الحديثة اليوم، وفصلها في الوقت نفسه عن اللغة الروسية أمر متعذّر جداً. وكل قول في هذه المسألة يقابله قول آخر ولا يمكن استخدام الأثر القوزاقي إلا من منظور قومي حديث لا يخضع للضوابط العلمية كثيراً.
على أية حال، تبقى أعمال نيقولاي غوغول خالدة، بغضّ النظر عن الطريقة التي نتلفّظ بها إسمه، وتبقى روسية أصيلة إذ إن النسخة الأوكرانية الحديثة عنها حتى بعد تنقيتها من الشوائب ليست أكثر من ترجمة من الأصل الروسي. وربما يحق للباحثين أن يطووا صفحة النقاش القومي غير المجدي هنا، وأن ينظروا إلى أعماله نظرة علمية تهدف إلى توحيد قرّائها في روسيا وأوكرانيا وخارجهما على أساس عظمة هذا الكاتب الكبير.