نحو إعادة التفكير في مقولة العمل
كي يُطوّر الإنسان نفسه روحياً، لا بد له بحسب ماركس "من أن يُحطم عبوديته لحاجاته الجسدية"، ويعتبر أن الفارق كبير بين أن يعمل الناس من خلال الآلات وبين أن يعملوا كالآلات.
كان جدي لوالدي، الذي لم يقرأ إلا في كتاب الحياة وقد عايّن مجاعة الحرب الكونية الأولى، يقول "العمل يجوّهر بدن الإنسان"، هي بمثابة حكمة متوارثة منذ ساحق الأزمان. بيد أن الكتاب المقدس جعله حكماً صارماً أشبه بلعنة، فلا حياة من دون بذل العرق الى حين المنيّة، اذ جاء في سفر التكوين: "بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ". (3: 19). أما الإسلام فاستخلف الإنسان على عمارة الأرض، ولا يكون ذلك إلا بالعمل. وقد أشار العلامة عبد الرحمن ابن خلدون (1406 - 1332) في الباب الخامس من مقدمته (1377) الى الكسب والرزق والسعي والعمل، أي الى جميع وجوه المعاش التي بها يقوم العمران البشري. وقال الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان (1905 –1941) في قصيدة "مجد البلاد": "إن العمل يحييّ الأمل".
هنا نظر في مقولة العمل، وما أحاط بها من إشكاليات في الأزمان الممتدة.
العمل علامة الحضارة
يمكن عد الفيلسوف الألماني هيغل G.W. Hegel (1831 – 1770) واضع أول تصوّر فلسفي للعمل، اذ منحه أهمية قصوى، وأصبح بالنسبة له أحد الأشكال الأساسية للعلاقة مع الذات والعالم، فضلاً عن كونه نشاطاً اجتماعياً في حد ذاته. وهو يؤكد في الفصل الرابع من فينومينولوجيا الروح[1] (1807) على أن العمل هو لحظة أساسية للحرية الحقيقية على حد سواء لأنه يساهم في إنتاج عالم يمكن فيه جعل الحرية فاعلة. ورأى أن العمل جوهر الإنسان، ففيه يؤكد ذاته حين يُعارض الموضوع، وبه يتحرر حين يتغلب على الموضوع. فالحياة الأخلاقية عنده، كما يعرضها في "فلسفة الحق" (1820) تتكوّن من ثلاث لحظات: العائلة، تلك الوحدة المؤسسة على الشعور وعلى الحب. ولا يعيّ المرء فيها فرديته، فهو عضو في هذه الوحدة. ومن ثم، المجتمع المدني البرجوازي، ويظهر كتطور للعائلة، إنه لحظة التمايز الذي يتغلغل في العائلة. هنا، الفرد، الشخص المتجسد، يصبح غاية لذاته. ونقطة الإنطلاق هي الحاجة وتلبيتها في الصلة مع أشخاص آخرين. وأخيراً، الدولة المعتبرة التحقق الفعلي للحياة الأخلاقية، وهي شرط المجتمع المدني البرجوازي، ضامنة للأفراد إمكانية متابعتهم لأهدافهم الخاصة.
وينقسم المجتمع المدني البرجوازي بدوره الى ثلاث لحظات: 1 – نظام الحاجات، فالفرد يُلبّي حاجاته بوساطة العمل وبوساطة عمل الآخرين، ولهذا تبرز الحاجة الى نظام . 2- حماية المُلكيّة من خلال الإدارة والتشريع. 3 – التنظيم العقلاني للمجتمع، أي الشرطة وغيرها من الأمور[2].
بوساطة العمل، يقول فيلسوفنا، ينتج المرء الحاجة ووسائل تلبيتها ويتعلم الضبط العقلاني لنشاطه الخاص، فمن جهة، تقنياً، يضع العمل الفرد بإزاء مقاومة الطبيعة، واجتماعياً، من جهة أخرى، يضعه بإزاء ما يحكم به الآخرين، لأن على العمل أن يُلبّي حاجة اجتماعية. ويحمل العمل علامة الحضارة.
تعريف العمل
يبدأ آدم سميث (A. Smith) (1723- 1790) كتاب "ثروة الأمم" (1776) بعباراته التي تُوضِّح وعيه الشديد بأهمية العمل في حياة الأمة، فجميع المنتجات التي يستهلكها المجتمع، إما أن تكون نتيجة العمل المبذول على الصعيد الاجتماعي، أو نتيجة مبادلةِ ما أنتجه العمل الاجتماعي في هذا المجتمع بما أنتجه العمل كذلك في مجتمعٍ آخر: "إن العمل السنوي لكل أمة هو الرصيد الأصلي (Fund) الذي يُزوِّدها بكل ما تستهلكه سنويّاً من ضروريات الحياة وكمالياتها، والتي تتكون على الدوام، إما من النتاج المباشر لهذا العمل أو من الأشياء المشتراة بواسطة هذا المنتوج من أُممٍ أخرى"[3].
وبدوره عرّف المفكر الفرنسي جوزيف برودون (J. Proudhon) (1865 - 1809) العمل في مؤلفه "خلق نظام في البشرية" (1843): "العمل هو الفعل الذكي الذي يتناول به الإنسان المادة. والعمل هو ما يميّز الإنسان عن الحيوانات في نظر الاقتصاديين، وما رسالتنا على الأرض إلا أن نتعلم كيف نعمل"[4].
كما أدلى كارل ماركس بدلوه، قائلاً إن العمل هو "نشاط بشري هادف يتوخى إنتاج قيم استعمالية، أي تملّك مواد الطبيعة وتكييفها للحاجات البشرية"[5].
بيد أن أنجلس، F. Engels)) (1895 - 1820) ذهب الى اعتبار العمل خالقاً للإنسان نفسه، وهو يتبنى في شأن العمل، ما يقوله علماء الاقتصاد السياسي، في كونه مصدر كل ثروة، وهو كذلك فعلاً مع الطبيعة التي تقدم له المادة التي يحوّلها الى ثروة. ويضيف: "لكنه أيضاً أكبر من ذلك بما لا حد له. إنه الشرط الأساسي الأول لكل حياة إنسانية، وهو كذلك إلى درجة أنـه يترتب علينا أن نقول بمعنى ما، إن العمل قد خلق الإنسان منذ عدة مئات الآلاف من السنين، في حقبة لا يزال يستحيل تحديدها بدقة[6].
نحو إنسانية العمل
ناقش كارل ماركس (K. Marx) (1883 - 1818) الشاب مقولة العمل في مخطوطات 1844، فاستناداً الى السائد من نظريات الاقتصاد السياسي، رأى أن العمل "لا يحدث إلا في شكل نشاط للحصول على أجر"، ويُنظر الى العامل كحيوان يعمل، أي كوحش يقتصر على أدنى الحاجات الجسدية. فالبروليتاري – مثله مثل أي حصان- ينبغي أن يحصل على ما يُمكنه من العمل، ولا يجد اعتباراً له حين لا يعمل، أي ككائن إنساني.
وكي يُطوّر الإنسان نفسه روحياً، لا بد له في عُرف ماركس "من أن يُحطم عبوديته لحاجاته الجسدية"، ويعتبر أن الفارق كبير بين أن يعمل الناس من خلال الآلات وبين أن يعملوا كالآلات[7]. لذا، ما يرومه هو تحرير العمال المغتربين عن نتاجات عملهم، أي أن مشكلته هي مع الشكل الرأسمالي من العمل وليس مع العمل في حد ذاته. لذا نجده يناضل من أجل "نهار عمل طبيعي" ويختم القسم الثالث من المجلد الأول من كتابه الضخم "رأس المال" (1867) بالعبارات التالية: "وهكذا تحل محل قائمة حقوق الإنسان، الفخمة "وثيقـة كبرى" متواضعة تعيّن قانونياً نهار العمل، وتعيّن أخيراً بوضوح متى ينتهي الوقت الذي يبيعه الشغيل، ومتى يبدأ الوقت الذي يملكه"[8].
بدورها تنتقد المفكرة السياسية الأميركية، ذات الأصول الألمانية، حنة أرندت (H. Arendt) (1975 - 1906) في مؤلفها "شرط الإنسان المعاصر" (1958) بشدة فلسفة العمل، لأنها تعتبر أن مسيرة الإنسان الى الأمام نحو مزيد من الحرية، بوساطة السيطرة على الطبيعة، قادته الى تبعية كبيرة[9].
تقسيم العمل
ارتبط تقسيم العمل وثيقاً بانقسام المجتمع الى فئات والى التمييز بين العمل اليدوي والعمل الفكري، والانقسام بين المدينة والريف. وأول تقسيم للعمل مستمر في كل مراحل التقدم الاقتصادي هو التقسيم بحسب الجنس (رجال / نساء). وبداية ذلك في المجتمعات البدائية، حيث قضى تقسيم العمل بذهاب الرجال الى الصيد والى الحرب، وذهاب النساء الى الالتقاط والقطاف. ومع تطور العصور، أتى الانقسام بين الرعاة وبين المزارعين، ومع التخصص أتى دور الحرفيين والصُنّاع، ومع تطور الآلة (المكننة)، تم تقسيم العمل داخل المهنة الواحدة، وتعددت المهام وتكرّس التراتب الوظيفي.
وقد أقام مؤسس علم الاجتماع الحديث إميل دوركهايم (É. Durkheim) (1917 - 1858) تحليله في كتابه "في تقسيم العمل الإجتماعي"(1893) على مفهومه عن نوعين مثاليين من المجتمعات، النوع الأكثر بساطة يتميز بالتضامن الآلي وهو ذو بناء اجتماعي غير متباين نسبياً وينعدم فيه تقسيم العمل أو يوجد في أدنى درجاته. أما النوع الحديث فيتميز بالتضامن العضوي وبه تقسيم واسع للعمل. وبالنسبة له، يعتبر تقسيم العمل في المجتمع حقيقة اجتماعية مادية تتضمن الدرجة التي يتحدد فيها تخصيص الأعمال والمسؤوليات. فالناس في المجتمعات البسيطة يحتلون مواقع عامة يؤدون فيها قدراً واسعاً من المهام المختلفة ويتعاملون مع عدد كبير منها. وعلى النقيض من ذلك، فإن أولئك الذين يعيشون في مجتمعات حديثة يحتلون مواقع أكثر تخصصاً ولهم نطاق ضيق من المهام والمسؤوليات. وللتغير في تقسيم العمل انعكاسات عديدة على بنية المجتمع وبعض أهم هذه الانعكاسات يظهر في الاختلاف بين نوعيّ التضامن الآلي والعضوي.
قارن دوركايم بين المجتمعات القديمة والمجتمعات الأكثر تطوراً، ووجد أن الأولى تتميز بوجود نوع من التضامن الآلي، المعتمد على التماثل بين أعضاء المجتمع، بينما يستمد التضامن العضوي أساسه من التباين، وعالم الإجتماع الفرنسي كان مهتماً بما يجعل المجتمع متماسكاً. فالمجتمع الذي يتميز بالتضامن الآلي موحد، والرابطة بينهم تتمثل في أنهم جميعاً يؤدون المهام نفسها، ولهم مسؤوليات متشابهة. أما المجتمع الذي يتميز بالتضامن العضوي فهو متماسك بالاختلاف الموجود بين أفراده لأن لهم مهام ومسؤوليات مختلفة. فالناس في المجتمع الحديث يؤدون مهام محدودة نسبياً، وهم في حاجة إلى أناس آخرين للبقاء. فالمجتمع الحديث، كما يرى دوركايم، متماسك بتخصص أفراده وحاجتهم إلى خدمات الأفراد الآخرين[10].
نقد العمل والحق في الكسل
غير أن مفكري وفلاسفة العصور القديمة، ولا سيّما في أثينا أنكروا العمل اليدوي واعتبروه غير لائق بالرجال الأحرار، وجعلوا للتفكير الأولوية، وهذه تحتاج وقتاً حراً دائماً.
ويؤكد شيشرون (Ciceron) أن من المتعذر انبثاق أية نبالة من دكان أو مشغل". ويقول سينيكا إن إجلال العمل اليدوي يعني جعل الإسكافي يحسب أنه فيلسوف، ومن المعلوم أنه ليس من شأن الفلسفة أن تعلّم النـاس استعمال أيديهم، بل إنها تسعى لتكوين أرواحهم[11] .
في إطار التنديد بالمجتمع الرأسمالي، يصب الفرنسي بول لافارج (P. Lafargue) (1842 – 1911) جام غضبه على عقيدة العمل التي يروّج لها هذا النظام الاقتصادي، الى حد وسمها بالجنون حين تأخذ بلبّاب الطبقات العاملة. فحب العمل والشغف به يدفع "حد استنفاد القوى الحيوية للفرد ونسله". ويشير المناضل الماركسي إلى العواقب المروعة للعمل في المجتمع الرأسمالي، فهو "سبب كل انحطاط فكري وكل تشوه عضوي"[12]، لا بل هو "أسوأ شكل من أشكال العبودية". فالرجل الحُر وحده يعرف التدريبات الجسدية وألعاب الذكاء، وذاك كان الزمن الأثيني زمن أرسطو وأرستيفانوس[13]. فقد علّم فلاسفة العصور القديمة ازدراء العمل، هذا الانحطاط للإنسان الحر، وغنّى الشعراء حال الكسل، فهذه عطيّة الآلهة. وفي رأيه، تخون البروليتاريا "الطبقة التي بتحرر نفسها، ستُحررّ البشرية من السُخرة وتجعل من الحيوان البشري كائناً حراً"، غرائزها، وتتجاهل تاريخها، وسمحت لنفسها أن تحرفها عقيدة العمل. ويعتبر لافارج أن كل البؤس الفردي والاجتماعي يولد من شغف البروليتاري بالعمل[14]. ورداً على الزعم أن عصرنا هو عصر العمل، يقول لافارج إنه "بالفعل قرن الألم والبؤس والفساد"[15].
نهاية العمل
أشار عالم الإقتصاد الأميركي جيرمي ريفكن (J. RIFKIN) (تولد في العام 1945) في مؤلفه "نهاية العمل" (1995) الى أن الاقتصاد يمر بتحولات أساسية جوهرية تطال طبيعة العمل ستنتج عنها إعادة تشكيل المجتمعات، فالبشرية تقف على أعتاب حقبة تاريخية جديدة. فهناك علاقة تناسبية عكسية بين تطور إنتاجية الاقتصاد وتطور وظائفه. فالوظائف محكوم عليها بالاختفاء إلى حد كبير، ونحن ندخل عصر المعلوماتية، التي لن تكون قادرة على استيعاب ملايين العمال العاملين في الزراعة، ثم الصناعة، ثم قطاع الخدمات. ما يحتّم علينا مراجعة العقد الاجتماعي، وإيجاد طريقة أخرى لإعادة توزيع الثروة ومشاركة مكاسب الإنتاجية الهائلة الحالية والمستقبلية على أفضل وجه.
وأدت الثورة التكنولوجية الى جعل ملايين الناس عاطلين من العمل أو عاطلين جزئياً. وقطاع المعرفة هو الوحيد الناشىء بقوة، والمكوّن من نخبة من المبتكرين الصناعيين والعلماء والفنيين ومتخصصي الكمبيوتر والمعلمين والاستشاريين. ولا قدرة لهذا القطاع على استيعاب مئات الملايين من الأفراد الذين جرفهم التدهور العالمي للعمل، والذي مهدت له التغيّرات التكنولوجية الهائلة التي ترسخت في الزراعة والصناعة والخدمات. ويلاحظ ريفكين أن تقنيات المعلومات والاتصالات تقسّم سكان العالم إلى قسمين: النخبة من المتلاعبين بفضاءات التجريد، من ناحية، ومن ناحية أخرى، الكتلة المتزايدة من العمال الذين يتم إخراجهم باستمرار من سوق العمل وتزداد أوضاعهم هشاشة.
يدعو ريفكين الى إعادة التفكير بطبيعة العمل نفسه. فنهاية العمل قد تعني اختفاء الحضارة التي عرفناها، أو ينبئ ببداية تحول اجتماعي كبير وإعادة ولادة روح إنسانية جديدة. ويتوجب علينا أن نتطلع إلى حقبة ما بعد السوق الجديدة، حيث ستكون هناك حاجة إلى ابتكار بدائل للعمل الرسمي، والمساعدة على إعادة تكوين المجتمعات[16].
مستقبل العمل
يُقر المفكر الفرنسي جاك أتالي (J. Attali) (تولد في العام 1943) بأن العالم، في شكل عام، سيشهد تحولاً من العمل الزراعي الى العمل الصناعي، ومن الصناعي الى الخدمات، كما سيشهد عملية تصنيع للخدمات التي ستصبح أكثر آلية، مع بروز ثلاثة أنواع من الاقتصادات الجديدة: الإفتراضية والإجرامية والعلائقية، ما ستنتج عنه تغيّرات جذرية في طريقة العمل وفي العلاقات المهنية، وحتى تغيّرات في طبيعة المهن ذاتها، فالعمل سيتخذ أشكالاً جديدة، ووقتاً أقل[17].
وسيتطور، في رأيه، عدد كبير من المهن المرتبطة بالدفاع عن البيئة كمراقبة التبذير واقتصاد الطاقة وخلق طاقات مستقبلية، وتطويع أدوات البناء الجديدة، والتعامل مع سيارات مبتكرة. وإجمالاً، سيكون من الصعب التمييّز بين العمل والاستهلاك والتسلية والتأهيل، وسيزيد تعميم استخدام الرجل الآلي (الروبوت) من حدة هذا الغموض[18]، ولا سيّما استخدامه في مصانع العالم مُلغياً بذلك ملايين الوظائف. ولكن، في المقابل، ستكون هناك حاجة لعدد كبير من الفنييّن لتشغيل وصيانة الرجال الآليين[19]. والمهن التي ستكون الأكثر طلباً في السنوات القادمة، ستكون مهناً معلوماتية، مثل: هندسة المعلومات وخدمات دعم المعلوماتية، وتحليل النظم، ومديرو قواعد البيانات، وأخصائيو الإنتاج المتابع بالكومبيوتر[20]. وسيزيد عدد العاملين في العالم الافتراضي، ويمكن أن يتساوى عددهم مع عدد العمال الحقيقيين، وستعرف خدمات القطاع العام توسعاً هائلاً، ومن ثم ستشهد تراجعاً كبيراً بسبب المنافسة[21]. إذ حين تنتهي العولمة من فرض قانون السوق وإضعاف دور الدول، ستعرف خدمات التعليم العام، والوقاية والأمن ثم قطاعات العدالة والسيّادة، منافسة من قبل الشركات الخاصة. لذا، فإن أعمال الخدمات في مجاليّ الصحة والتعليم ستصبح آنذاك وفي شكل مضطرد، وظائف غير مستقرة ومتنقلة على غرار الأعمال الصناعية. وسيقود التطور الصحي الى زيادة في الأعمال وارتفاع عدد المسنيّن[22].
وبيئة العمل المستجدة هذه سوف تسهم في تفسخ الروابط العائلية، ما سيزيد الطلب على خدمات علائقية جديدة، فالقلق سيُنتج الحاجة الى مثل هذه الخدمات، ولا سيّما اعطاء معنى للزمن، حيث يعتبر أكثر الناس "أن الوقت يضغط عليهم"، مع الأخذ في الإعتبار زيادة ساعات الفراغ[23].
وسيقود التحول الكبير في المعرفة والسكان والمهن الى تحويل جذري في تنظيم العمل، حيث ستنمو الشركات الصغيرة، وتزيد وتيرة الاختراعات والإنتاج والتسويق. كما سيتطور العمل خارج جدران المكاتب، ويزدهر "تلفاز العمل" و"فيديو الندوات" ( لقد فرضت جائحة كوفيد 19 هذا النمط من العمل)، وستشعر الشركات بعدم الحاجة الى مقرات مستقرة، وتصبح من الرُحّل وافتراضية ومتنقلة تعمل بعقود عمل مؤقتة، ولذلك ستكون هذه الشركات عبارة عن تجمعات مؤقتة مكوّنة من عمال رُحّل، أو نوع من التجمعات الدائمة لقبائل من العمال الرُحّل. وفي الحالتين، سيصبح وضع الأجراء هشاً ومتقلباً أكثر فأكثر[24]، وعلى مدراء الشركات التجارية الكبيرة أن يديروا العملية الإنتاجية بطريقة مرنة جداً .
كما ستكثر هجرات العمل، وسينتقل، إجمالاً، هؤلاء المهاجرون من الأرياف باتجاه المدن داخل البلد نفسه، حيث ستصبح المدن ذات غالبية ذكورية، في حين تكون الأرياف ذات غالبية أنثوية، كما تكثر الهجرة من الجنوب الى الشمال. وسيعملون في الوظائف الأكثر مشقة، التي تتطلب مجهوداً كبيراً. وسيشتد في المستقبل التنافس على المواهب، ليصبح أكثر حدة وأكثر مهنية وأفضل تنظيماً[25].
ويتوقع المفكر الفرنسي أن تزداد المهن الهامشية. ومع ضعف الدول، ستتطور فئتان هامشيتان من العمال والشركات، في البداية على الأقل، القرصنة والعلائقية[26]. ويتوقع أتالي أن يزداد الوقت الإجباري الذي يقضيه الناس في المواصلات، وأن تضعف قدرة العمال وممثليهم التفاوضية جراء تحرير الأسواق المالية وحركة رؤوس الأموال، وتفتت عمليات الإنتاج الى وحدات صغيرة مبعثرة جغرافياً[27].
ويدعونا أتالي الى الإعداد لمهن المستقبل من خلال التأهيل المستمر والتعلّم مدى الحياة (نظراً للمعارف المتغيرة) كي نبقى "قابلين للعمل". وعلى الفرد أن يتعلم أحياناً بنفسه، بما هو متاح على الشبكة العنكبوتية، ويبقى "عصامياً مدى الحياة"[28].
والخلاصة أنه بعد ثلاثين سنة، لن يُشبه العمل، في أي حال من الأحوال، ما هو عليه اليوم[29].
هوامش الورقة
[1] هيغل، فينومينولوجيا الروح (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ط 1، 2006). ترجمة وتقديم د. ناجي العونلي. القسم الرابع " حقيقة الإيقان من الذات"، ص 257.
[2] هيجل، أصول فلسفة الحق (بيروت، دار التنوير، ط 3، 2007). ترجمة وتقدبم د. إمام عبد الفتاح إمام. الكتاب الخامس في سلسلة المكتبة الهيغلية. من مقدمة المترجم، ص 51.
[3] آدم سميث، بحث في أسباب وطبيعة ثروة الأمم (.بغداد – أربيل – بيروت، معهد الدراسات الإستراتيجية، 2007.). ترجمة حسني زينة. الجزء الأول. المقدمة. ص 5.
[4] مذكور عند: هنري أرفون، فلسفة العمل (بيروت، منشورات عويدات، سلسلة زدني علماً، 1977). ترجمة الدكتور عادل العوا. ص 53.
[5] نقلاً عن مقالة محمد زبيب " ما هو العمل؟"، صحيفة الأخبار، الإثنين 14 أيار 2018.
[6] فريديك أنجلس، دور العمل في تحول القرد الى إنسان (موسكو، دار التقدم، د. ت.)، ص 3.
[7] مخطوطات كارل ماركس لعام 1844 الإقتصادية والفلسفية ، (القاهرة، دار الثقافة الجديدة، د. ت). ترجمة محمد مستجير مصطفى. ص 22 وص 23 وص 24.
[8] كارل ماركس، رأس المال، (بيروت، مؤسسة المعارف، د. ت). ترجمة محمد عيتاني. ص 424.
[9] Hannah ARENDT, Condition de l’ homme moderne (Paris, Ed. Calmann-Lévy, collection Agora, 2005). Chapitr 3. P. 123 et ce qui suit.
[10] للنوسع: أميل دوركهايم، في تقسيم العمل الإجتماعي (بيروت، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، 1982). ترجمة حافظ الجمالي.
[11] المصدر نفسه، ص 13.
[12] Paul Lafargue (1883), Le droit à la paresse, , P. 4. https://www.marxists.org
[13] Ibid, P. 5.
[14] Ibid, P. 5.
[15] Ibid, P. 7.
[16] جيرمي ريفكن؛ نهاية العمل : تضاؤل القوى العاملة العالمية وبزوغ حقبة ما وراء السوق (بيروت، دار الفارابي، 2009)، ترجمة خليل راشد الجيوسي. وثمة ترجمة سابقة للكتاب أنجزها د. رجب بو دبوس، في العام 2007 حملت عنوان: نهاية العمل، مأزق الرأسمالية. وصدرت في ليبيا. وثمة ترجمة أسبق للكتاب نفسه صدرتعام 2000 عن مركز الامارات للدراسات والبحوث تحت عنوأن نهاية عهد الوظيفة و انحسار قوة العمل العالمية و بزوغ حقبة ما بعد السوق.
[17] من تقرير أعده جاك أتالي (بمعاونة آخرين)، مستقبل العمل (2007)، ترجمه حسن مصدق في العام 2008. (بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الثالثة 2010)، في 80 صفحة. ص 18.
[18] المصدر نفسه، ص 19.
[19] المصدر نفسه، ص 20.
[20] المصدر نفسه، ص 21.
[21] المصدر نفسه، ص 23 و24.
[22] المصدر نفسه، ص 27.
[23] المصدر نفسه، ص 28.
[24] المصدر نفسه، ص 29.
[25] المصدر نفسه، ص 34.
[26] المصدر نفسه، ص 36.
[27] المصدر نفسه، ص 38 وص 39.
[28] المصدر نفسه، ص 43.
[29] المصدر نفسه، ص 44. ويمكن الإسئناس بدراسة د. عم علوط ، "تحولات العمل واتجاهاته المستقبلية" (بيروت، مجلة إضافات، العدد 36 و37، كانون الثاني، 2017). ص 303 وما يلي.