ناجي العلي.. الرائي والمتنبئ

يلح العلي على كرامة الإنسان الفلسطيني، ومن ورائه الإنسان العربي. الأمر الذي يتجلى في رأيه في سلام الشجعان، لا سلام الجبناء.

يقول خالد ناجي العلي في مقدمة "كتاب حنظلة – رسوم ناجي العلي المقاومة": "يظن الذين قتلوا والدي أنهم بقتله سيتنهي كفاحه من أجل تحرير فلسطين"، والحقيقة أن ما حدث في غيابه لم يقلّ حدة عنه في حياته. 

بالغت "إسرائيل" في القتل والتهجير والتغيير الديمغرافي لفلسطين، والشعب الفلسطيني واجه ذلك بانتفاضاته المتكررة، فلم يستكن للظلم على اختلاف أشكاله.

يعود ناجي العلي دائماً على هيئة طفله "حنظلة"، صبياً في العاشرة من عمره. ولد حنظلة في عام 1967 على صفحات صحيفة السياسة الكويتية، ثم أدار ظهره بعد حرب 1973 وعقد يديه خلف ظهره، يدير ظهره للمغتصبين، والساكتين على الاغتصاب، والمتخاذلين في استعادة الأرض. لكنه رافق مسيرته وضبط إيقاع خطوطه وبياناته ضد الديكتاتورية. يقول ناجي العلي: "إن حنظله هو بمثابة الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية".

خلق العلي "حنظلة"، شخصيته المحورية والمرهقة، ليعكس من خلالها وعياً وتبصراً واسع الأفق ومعرقة حقيقية بالعدو المستمر في قهر الشعب الفلسطيني.

وسط العدوان في فلسطين وغزة الآن، يبدو الموت الوسيلة الوحيدة لإثبات الوجود وزعزعة الكيان الهش. الموت كخيار أوحد لتأكيد الوجود وليس الحياة، بحيث تمتد الشواهد بكثرة لتؤكد حق كل شهيد في أرضه، وفي المساحة التي يقطنها  في موته أكثر منها في حياته، كما في الكاريكاتير الشهير للعلي الذي يصور فيه قبر الفلسطيني مكتوباً عليه عبارة "أنا أفكر إذا أنا موجود"، وهو مبدأ الكوجيتو الذي انطلق منه ديكارت لإثبات منهجه العقلي.

يأخذ القبر والتراب والعبارة كامل مساحة اللوحة، فيتجاوز ناجي العلي العناصر الحسية، "المفتاح والشجرة في تثبيت الوجود إلى مجرد وجود"، وكانت هذه نقطة الانطلاق التي يبدأ منها إثبات وجود الفلسطينيين الحسي المتعين وبالتالي الأحقية بالأرض.

يظهر ناجي العلي في شخصه" حنظلة "على الجدار العازل الفلسطيني، وفي الكثير من الأماكن التي لم تستطع نسيانه ولا نسيان الرصاصة التي وجهت إليه، ولا سيما الآن في الحرب الشرسة التي تقودها المقاومة. ولعل قوله "أنا ضد التسوية، لكن مع السلام ومع تحرير فلسطين وفلسطين ليست غزة أو القطاع أو الضفة، إنما بنظري تمتد من المحيط إلى الخليج"، يرن في آذانهم.

يلح العلي على كرامة الإنسان الفلسطيني، ومن ورائه الإنسان العربي، الأمر الذي يتجلى في رأيه في سلام الشجعان، لا سلام الجبناء. سلام يحفظ أرض فلسطين من دعاة التقسيم. قال مراراً: "لا أفهم المناورات، ولا أفهم السياسة، لفلسطين طريق واحد ووحيد هو البندقية".

بعد كل هذا الوقت لا يزال "حنظلة" يعلن رفضه ما يحدث على يمين الجدار وعلى يساره من محيط العالم العربي إلى خليجه، ويدير ظهره لكل محاولات التطبيع والاستسلام. يطلق صراخه من خلف الكوما التي ضربت رأسه، ومن تحت أظافر يديه المعقودتين خلف ظهره، أو من رؤوس خطوطه الساهمة كالبوصلة إلى عدو واحد.

لم يكن اغتيال ناجي العلي في لندن مفاجأة له أو لعارفيه، فهو القائل: "كان لدي استعداد عميق للاستشهاد دفاعاً عن لوحة واحدة".

كان يعرف أنه برسومه يمزق أقنعة كثيرة، ويدك عروشاً أو كروشاً كثيرة، وينفذ رسالة حملها منذ تفتح وعيه على الثورة الفلسطينية ومقاومتها، ومنذ خرج من قريته "الشجرة"التي استظل في فيء إحدى شجراتها السيد المسيح، فتتلمذ على صليبه، قبل أن ينتقل إلى عهدة أساتذة آخرين، فتعلم دروساً في القومية العربية على يد المناضل أحمد اليماني (أبي ماهر )، قبل أن يكتشف غسان كنفاني فناناً ويطلق رسومه في مجلة "الحرية" أول درجة في سلمه الفني، ثم يعلمه كيف يدق جدران الخزان ويؤذن بأفكاره من أعلى المنابر.

بدأ العلي مسيرته الفنية في مجلة "الطليعة" الكويتية، وأنهاها في مجلة "القبس" الدولية في لندن، على أن محطته الأساسية التي أمضى فيها أطول فترة من عمره الفني وأنتج في صفحاتها أكثر رسومه، كانت جريدة  "السفير" البيروتية التي رافق صباحاتها منذ عام 1974 حتى عام 1982 عندما شكل الاحتلال الإسرائيلي لبيروت حداً فاصلاً بينه وبين تلك المدينة التي بقي كل يوم يقول لها  "صباح الخير يا بيروت"، حتى عندما احتلها الإسرائيلي ذات يوم منذ نحو نصف قرن تقريباً.

استطاع الفنان الفلسطيني الذكي والممتلئ رغبة في امتلاك سلاح الكاريكاتير، أن يتعلم بنفسه من أساتذة الكاريكاتور العرب، إلا إنه عمل دائماً على قتل آبائه والتفلت مما تحصده عيناه من رسوم، ساعياً للبحث عن وسيلة أكثر تبسيطاً لإيصال أفكاره ومقولاته ووعيه الحاد، إلى أن تربع على كل هذا النتاج الذي يشهد على موهبة بقي صداها يتردد طويلاً في عالم الكاريكاتير.

عرف ناجي العلي مبكراً أن الموت ومقاومة المحتل هما السبيل الوحيد إلى تحرير الأرض ووقف امتهان الكرامة. لذلك، قال مرة باللهجة الفلسطينية "اللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم عن فلسطين، بدو يعرف حالو ميت"، فكيف بمن يدافع عن فلسطين كوطن؟

 ما يحدث اليوم في فلسطين تكريس مادي لما استشرفه العلي. فالجميع يموت. الذين يقاتلون والذين يرفضون التخلي عن الوطن. هنا يتحول الموت إلى أكثر الأشياء عدلاً في حرب لا عدل فيها، ينتصر الفلسطيني بشاهدة تثبت أحقية الشهيد في أرضه بمعناها المادي، مؤكداً ما قاله ناجي العلي يوماً: "هكذا أفهم الصراع، أن تصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب".

كان ناجي العلي ابن شعبه. عاش منذ طفولته مرارة هذا الشعب وهمومه وقضاياه وفقره والنكسات التي أصيب بها، فالعلاقة المباشرة تلك أغنت الحركة التلقائية في رسومه وجعلت الرسم ينبع من داخل الفنان ومن قناعاته ومشاعره الصادقة، بالإضافة إلى أنه كان ابن القضية التي لا بد من أن يتفانى في خدمتها بكل الشجاعة المطلوبة، الأمر الذي جعل رسومه تقف على خط الدفاع الأول، من دون أن يقدم تنازلات أو يخضع لأي إغراءات، ومن دون أن يكترث للخطوط الحمر التي توضع في وجهه، ولا للتهديدات التي كان يتلقاها، والتي رسم آخرها خاتمة حياته، وهو القائل: "كلما ذكروا لي الخطوط الحمر طار صوابي. أنا أعرف خطاً أحمر واحداً، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل".

بنى ناجي العلي ثنائيات ينحاز بينها إلى طرف من الطرفين، وهو على العموم منحاز إلى الفقراء والمحكومين والمهزومين والحزانى والمغلوب على أمرهم والمغتصبة أرضهم. وكان لحضور "حنظلة" وقع كبير في نفوس متابعيه، إذ شكل هذا الرمز اللغز المحبب لديهم: كيف أتى في مخيلة صاحبه؟ لماذا يدير هذا الطفل ظهره للعالم؟ لماذا يحمل رأساً يشبه الشمس باستدارتها؟ لماذا يضع يده خلف ظهره؟ وأسئلة كثيرة لا تنتهي آثارها في شخصية "حنظلة" التي صارت رمزاً من رموز القضية الفلسطينية.