ميلان كونديرا: تريد أن تعرفني، اقرأني
قيل إنه "ليس نبياً ولا مؤرِّخاً، بل هو مستكشف وجود". من هو ميلان كونديرا الذي رحل عن عالمنا أمس؟
"إن اكتشاف كينونة الإنسان وسرّه المنسيّ والمخفي في آن، هو ما يمكن للرواية وحدها دون سواها أن تكشفه، وهو ما يبرّر وجودها"، لعل هذه العبارة التي كتبها ميلان كونديرا (1929-2023) تحدّد البوصلة التي لطالما استخدمها هذا المُبدع التشيكي في قراءته للوجود، إذ كان يرى أن على الروائي تفحُّص الوجود باعتباره حقل الإمكانات الإنسانية، وليس الاكتفاء بتفحُّص الواقع، ومن هنا جاء تعريفه للروائي بأنه "ليس نبياً ولا مؤرِّخاً، بل هو مستكشف وجود".
هذه النزعة الاستكشافية جعلت من صاحب "كينونة لا تُحْتَمَل خِفَّتُها" (وهي الترجمة الأدق من "كائن لا تُحتمل خفّته") من أبرز المجرِّبين المعاصرين في حقل الرواية، وأكثرهم تأمُّلاً في معناها ومبناها، متحرّراً من كل ما هو معتاد في السرد، ففي روايته آنفة الذكر يستخدم صوته كمؤلف من خارج الحدث لا كراوٍ من داخله، متخلصاً من وهم الواقعية بأسرها.
وبشكل أعمق يصبح الروائي شخصاً من الشخصيات داخل روايته في "الخلود" كاسراً بشكل متعمّد الإيهام، بحيث يحدّثنا عن شخصياته ويروي لنا ما الذي دفعه لتشكيلها ورسم ملامحها. ولا تقف تجريبية كونديرا على ذلك، بل إنه يدغم أنواعاً سردية أخرى في أعماله ويربطها بأحداثها، كما حصل في الجزء الأخير من "كينونة لا تحتمل خفتها"، عندما ضمَّنها مقالاً بعنوان "المسيرة الكبرى" حول مفهوم "الكيتش" باعتباره الحاجة لأن ينظر المرء إلى نفسه في مرآة الكذب التي تُجَمِّل، ولكي يتعرف إلى نفسه برضىً يثير العاطفة. وبلغت "شطحات" صاحب "كتاب الضحك والنسيان" أن ضمَّن مؤلَّفَه هذا نوتات موسيقية.
هذا المزج الثوري في السرد ينطلق عند كونديرا من إيمانه بمرونة القالب الروائي وقدرته على أن يشمل مختلف الأنواع بتناغم، فهو القائل في حوار له مع فيليب روث: "يحمل شكل الرواية حرية هائلة كامنة فيه، فالرواية هي منظومة طويلة من النثر التركيبي يستند للعب بشخصيات مختلقة، هذه هي الحدود لا غير. القوة التركيبية للرواية قادرة على جمع كل شيء في وحدة واحدة كأصوات الموسيقى متعددة النغمات".
ولعل من أهم سمات معمار رواياته هي البوليفونية التي استعارها من معرفته الموسيقية، كعازف ترومبيت وبيانو تدرّب على يدي والده لودفيك كونديرا، عالم الموسيقى ورئيس جامعة جانكيك للآداب والموسيقى. لكن تعدّد الأصوات وعنايته بالإيقاع، وإدغام عناصر سردية متنافرة في بوتقة واحدة عند صاحب "فالس الوداع" جعله يضع نصب عينيه هدف تخليص الرواية من أتوماتيكية التكنيك الروائي، على غرار ما فعل محبوبه الموسيقي التشيكي لويس جاناسيك، عندما لم يسمح في موسيقاه بوجود شيء سوى النغمة، وفقط ما هو ضروري قوله.
أما ما قاله كونديرا بفرادة فائقة، فاندرج بين مجموعة من الأفكار المتقابلة: الخفة والثقل، الروح والجسد، القوة والضعف، ضحك الملائكة لأن كل شيء له معنى، وضحك الشياطين لأن العالم كله لا معنى له، وفق وجودية ميّزته وصارت صفة ملازمة لرواياته التي تحرّكها الثنائيات دائماً من دون أن يعني انحياز صاحب "البطء" إلى أي قطب من الأقطاب بشكل ظاهر داخل النص، لكنه يميل إلى اللعب والتشكيل بينهما بشكل تهكمي واضح.
والفريد في أسلوب كونديرا سواء رواياته أم كتبه النقدية أم مقالاته أم حواراته القليلة هو "السخرية التي تكشف عن نقاب العالم على أنه إبهام"، إذ يرى أن أحد تعاريف الرواية هو فن السخرية، لأن حقيقتها مخفيّة، غير ملفوظة وغير منطوقة. ولأن "السخرية تثير. لا لأنها تسخر أو لأنها تهاجم بل لأنها تحرمنا من اليقينيات حين تنزع الحجاب عن العالم على أنه إبهام"، وذلك بحسب كتابه "فن الرواية".
ولأن صاحب "حفلة التفاهة" يعتقد بأن الرواية منطقة لا يصدر فيها المرء تأكيدات، بل هي منطقة للعب والافتراضات والسخرية من كل شيء، لذلك نراه لا يكتفي بالسخرية كموضوع عمَّ معظم ما كتب من المزحة، والغراميات المضحكة، والبطء، والهوية، والخلود...، بل جعل منها أسلوبية خاصة لمداورة أكثر الأفكار جدية بقالب سردي خفيف، طامحاً طيلة حياته الأدبية - كما جاء في أحد حواراته - أن يوحّد جدية السؤال القصوى بخفة القالب القصوى.
ويبرّر كونديرا ذلك بأن "ذلك ليس مجرد طموح فني، فالمزج بين القالب التافه والموضوع الجاد يكشف فوراً القناع عن أحلامنا، تلك التي تجري في نومنا وتلك التي نؤديها على خشبة مسرح التاريخ العظيمة، وتفاهتها الرهيبة. نحن نعيش خفة الوجود التي لا تحتمل".
وبلغت السخرية المرّة لدى هذا المبدع التشيكي الذي ثَوَّر مفهوم الرواية بحد ذاتها، قوله مرَّةً إنّ "كل كتاب لي يمكن أن يعنون بخفة الكائن التي لا تحتمل أو بالمزحة أو بغراميات مرحة... يمكن أن تتبادل العناوين مواضعها، فهي جميعاً انعكاس لعدد الثيمات المحدود الذي يسيطر عليّ ويحدّدني، ولسوء الحظ، يَحدّني. وسوى هذه الثيمات، ليس لدي ما أقوله أو أكتبه".
وعلى اختلاف مستوى السخرية في جُلّ أعماله، إلا أنه استطاع أن يُحقِّق نبرته الخاصة في قوله الروائي، معتبراً أن شخصياته والعالم الذي تتحرك فيه كناية عن إمكانات قصوى غير منجزة للعالم الإنساني، تُمكِّننا أن نرى ما نحن عليه، وما نحن قادرون على فعله، إذ كان يركِّز على الفعل والمُتَع المديدة الناجمة عنه، جاعلاً من كرامة الأسئلة صراطه الأهم، فالرواية عند كونديرا ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي بُعد فكري واستجواب تأملي لما يدور في الخفاء. هي مستودع نفس الإنسان، ورقيب أطواره وتفاعله مع الحياة، والرواية التي لا تؤسس وعياً، ولا تبث أسئلة وجودية هي رواية سطحية برأيه.
وعلى الرغم من النزعة الوجودية الآسرة في روايات صاحب "الحياة هي في مكان آخر"، إلا أنها لم تكن بشكل من الأشكال روايات فلسفية، ولم تُحدِّد نفسها في كونها روايات فكرية أو تاريخية أو سياسية، وإنما يتكثّف جوهرها في تأمل الوجود من خلال شخصيات متخيلة، وتسعى ما استطاعت لحل لغز الذات الإنسانية ومحاولة فهمها، بحيث يمكن القول إنه كما قرّب نيتشه الفلسفة من الرواية، فإن كونديرا قرّب الرواية من الفلسفة.
وفي الوقت ذاته ابتعد صاحب "الهوية" عن التأريخ والسياسة، معتبراً أن ذلك أسر لا طاقة للرواية والروائي عليه، خاصةً أنه لا جديد بإمكان أي روائي أن يكتشفه حول الأحداث الموصوفة والمناقشة في آلاف الكتب الرصينة المتنوّعة، بحسب قوله، ومع ذلك لا يسع المتتبع لمسيرة هذا المبدع التشيكي إلا أن يصفه بفيلسوف ماركسي عظيم، سعى طيلة حياته لـ"إعادة كرامة الأدب وجودته"، وهي عنوان كلمته التي ألقاها في المؤتمر الرابع للكتّاب التشيكيّين عام 1967، فصار خصماً للحزب الشيوعي، وبات "ربيع براغ" تهمته القصوى، ولم يثنه ذلك عن الحفاظ على نظرته الصافية والمتحررة من الوهم التي وجدها في فن الرواية.
يقول عن ذلك: "الأمر الوحيد الذي رغبت به آنذاك بعمق ولهفة، هو نظرة صافية ومتحرّرة من الوهم. ووجدتها أخيراً في فنّ الرواية. لهذا السبب، أن يكون المرء روائياً شكّل بالنسبة إليّ، وأكثر من ممارسة أي نوع أدبي آخر، موقفاً وحكمة وموقعاً اجتماعياً. هو موقع يستبعد كل تماثل مع السياسة والدين والأيديولوجيا والأخلاق والجماعة. فتماثلٌ واعٍ، عنيد، حانق، لا يُعدُّ هروباً أو سلبية، إنما يعدّ مقاومة وتحدّياً وتمرّداً، وانتهى بي الأمر إلى هذه المحاورة الغريبة:
*هل أنت شيوعي يا سيد كونديرا؟
- لا، أنا روائي.
* هل أنت منشقّ؟
- لا أنا روائي.
* هل أنت يساري أم يميني؟
-لا هذا ولا ذاك، أنا روائي.. تريد أن تعرفني، اقرأني".