ميلاد السيد المسيح.. طقس أم قضيّة؟
لعلّ من الحكمة، في أقلّ تقدير، النظر إلى شخصية المسيح كرسول حقٍّ في وجه الباطل، ثمّ النظر إلى يوم ميلاده كفرصةٍ للتقارب اللبناني الوطني، ولاحتضان أخينا الجريح في الوطن، والذي أعاد إلينا آخر شبرٍ من الوطن،
جاء في إنجيل متّى (15:13) أن السيّد المسيح قال للفرّيسيّين: "كلّ غرسٍ لم يغرسه أبي السماويّ يُقلع".
إذا أمعنا النظر في هذا القول لوجدنا تشبثاً بالوصايا الإلهية وبما يرضي الله الواحد، وفيه دعوةٌ إلى قلع ما يخالف إرادة الله. فعل القلع يوازي فعل النضال والمكافحة بل المقاومة والقتال. والقلع أشدّ لأنه بمعنى الاجتثاث.
غالباً ما يتناسى كثيرون قصّة يوضاس أو يهوذا الأسخريوطي، التلميذ الذي تآمر على المسيح وتسبب بصلبه (عند المسيحيين)، وبرفعه إلى السماء (عند المسلمين). وينسى كثيرون أنّ بني إسرائيل هم قتلة الأنبياء جميعاً، فكانوا يلاحقونهم قبل أن يولدوا متتبعين الإشارات وكلام الحاقدين والمتربّصين.
وفي سفر إرميا ورد: "إنَّ بني إِسرائيلَ وبني يهوذا إِنَّما صنعوا الشَّرَّ في عينيَّ منذ صِباهم. لأنّ بَني إِسرائيل إِنَّمَا أَغَاظُونِي بِعمل أَيديهم، يَقولُ الرَّبُّ".
وغالباً ما يُنظر إلى المسيح كشخصية متسامحة محبة للسلام والأخوّة والعيش المشترك من دون النظر إلى شخصيته الثورية الرافضة للباطل. بلغة يومنا وزماننا، فالمسيح فلسطينيّ الأصل. أمه مريم المقدسيّة، وكلاهما وُلد في بيت لحم.
وفي القرآن الكريم، كانت مريم تدخل المعبد تعتكف في المحراب عابدةً خاشعة، على الرغم من محاربة اليهود لها ولوجود أنثى داخل المعبد. بنو إسرائيل الذين يلاحق شرّهم ودمويّتهم الإنسان في كلّ مكان، والذين نبذتهم أوروبا وأميركا بسبب علمهما بنزعة الشر هذه، فكان قدرنا بمجاورتهم مرتبطاً بمخططٍ غير بريءٍ بإيجاد هذا الجيب الاستيطانيّ أو الكتلة السرطانيّة في قلب الجسد العربي - الإسلامي، على شاكلة الممالك الصليبيّة والآبارتهايد في جنوب أفريقيا وسائر أنظمة الفصل العنصري في العالم. فهل من شكٍّ في أنها غُرست بهدف سلبنا الهويّات الوطنية والتاريخ والحضارة وتقسيمنا إلى دويلاتٍ مطبّعة يسهل التحكّم فيها؟ أوَهذا غرسٌ إلهيٌّ غرسه الربّ؟
بعد أيّام، تحلّ مناسبة ميلاد المسيح، لكنّنا منذ ما قبل لحظة إعلان الهدنة، بدأنا نرى أشجار الميلاد المزيّنة في المحال والشوارع وباحات الكنائس وأروقة الأديرة. كأنّ شريحةً من أبناء لبنان، الوطن المستنزف الذي خرج لتوّه من مخاضٍ عسير، ولم يخرج بالكامل بعد، يعيشون في كوكبٍ آخر. كأنّهم البؤساء المنسيّون على قارعة الطريق، بينما جماعةٌ أخرى في المدينة ذاتها، يعيشون الحياة بترفٍ لا تُحتمل خفّته!
الفرح من وجوه الحياة. والإيجابية ضرورة نشعر بالحاجة إليها جميعاً. لكنّه - عذراً - مشهدٌ متمادٍ في السورياليّة والتجريد أن يحتفل الإنسان بميلاد نبيٍّ هو "ربّ القضيّة"، كما نقول بالعامية، وارتقى آلاف الشهداء من أبناء الوطن دفاعاً عن هذه القضية نفسها.
لعلّ من الحكمة، في أقلّ تقدير، النظر إلى شخصية المسيح كرسول حقٍّ في وجه الباطل، ثمّ النظر إلى يوم ميلاده كفرصةٍ للتقارب اللبناني الوطني، ولاحتضان أخينا الجريح في الوطن، الذي أعاد إلينا آخر شبرٍ من الوطن، بعد أن انتزع بسلاحه المقدّس الأرض من تحت قدمَي المحتلّ، فمنهم من فقد يده، ومنهم من فقد عينيه، ومنهم من قطعت ساقه، ومنهم من لم يعد، ومنهم من لم يُعثر على جسده .
ربما أمست ظاهرة الاحتفالات بالميلاد تقليداً راسخاً لذاته وليس لغايته. ولعلّ قلّة قليلة تدرك هذه العلاقة الأزلية الوجودية بين المولود وقضايا الإنسان وحقوقه. ولعلّها، أنثروبولوجياً، ظاهرةٌ تدعو إلى الحفر والتفكيك للتنقيب عن المقاصد في الوعي المسيحي أكثر.
ولعلّ وراء كل هذه الزينة على الضفة المقابلة لمنازل الشرفاء المدمّرة، دواعيَ معرفيّةً نفسانيّةً تحتاج إلى فينومنولوجيا حقيقيةٍ من أجل فهمها وتفهّمها أكثر، على الرغم من حاجة الإنسان الدائمة إلى ذرائع البهجة في حياته، فكيف بالإنسان اللبناني اليوم؟ لكن السؤال في الوقت عينه؛ الإنسان اللبناني المقاوم، الذي قدّم التضحيات الجسام في الأرواح والأموال والدم، كيف سينسى أنّ شقيقاً له في الوطن يحتفل بأعياده علناً كأنّ حرباً لم تحدث؟ هل زعم البعض بأنها لم تكن خياراً وطنياً يكفي لإخراج المحتفلين من دائرة اللاتعاطف.
وحتى تحقيق ذلك التقارب في العيش، وتقريب مفهوم ثقافة الحياة بين الضفتين، نقول من إيماننا بنبيّنا عيسى المسيح بن مريم، وبرسالتهما المقدّسة، "لو كان المسيح بيننا، فلا شكّ في أنه كان ارتدى السواد حداداً على أرواح الشهداء... في طريق القدس، وغرس شجرة سروٍ أو صنوبرٍ في حقول الخيام الحزينة. ماسحاً رؤوس يتامى الشهداء الأبطال".