من النجم والهلال إلى النسر.. العَلَم المصري: حكايات البلاد (1)
منذ المماليك إلى اليوم، لم يبق العَلَم المصري على حاله. ارتبط تبدل شكله وألوانه بما عرفته البلاد من تقلبات سياسية. فما حكاية العلم المصري؟
منذ هزيمة المماليك أمام جيوش الدولة العثمانية في معركة الريدانية عام 1517، احتلّ علم السلطان العثماني سماء مصر. فوق القلعة، مقر الحكم القديم، ارتفع علم بلون أحمر يتوسّطه هلال أبيض يحتضن نجماً ثماني الأطراف. علم اختُصر نجمه لاحقاً بــ 6 أطراف، بينما تمّ تخصيص راية خضراء اللون بهلال أبيض من دون أي نجوم للمؤسسات الدينية خلال سنوات الحكم العثماني الطويل.
ولو أن سلاطين المماليك (1250- 1517) كانوا قد مالوا إلى استخدام الرنوك (الرنك هو شعار يتخذه كل سلطان أو أمير مملوكي، وهي كلمة فارسية تمصّرت وتنطق رنج بالجيم المصرية)، إلا أن عصرهم شهد أنواعاً عديدة من البيارق (كلمة فارسية تعني العلم أو الراية ومفردها بيرق)، أبرزها كانت باللون الأصفر وتحمل 3 أهلّة سوداء، إلا أن مماليك القرن الــ 18، ومع تراجع النفوذ العثماني في مصر، مالوا إلى استخدام اللون الأخضر، وظل الهلال رمزاً أساسياً يشير دائماً إلى الخلفية الإسلامية للدولة.
مع في بدايات القرن الــ 19، وتزامناً مع خروج الحملة الفرنسية، شهدت مصر حراكاً اجتماعياً كبيراً، أفضى إلى اختيار محمد علي والياً على مصر، لتبدأ سلسلة طويلة من التغيّرات الاجتماعية والسياسية، بدأها محمد علي بعد أن تخلّص من منافسيه السياسيين داخل البلاد.
بدأ محمد علي خطواته حالماً بتحقيق حكم ذاتي عن الدولة العثمانية، أملاً في أن تصبح القاهرة غير مقيّدة تماماً بقرارات الباب العالي في إسطنبول، وسعياً إلى مدّ نفوذه خارج الحدود التقليدية للقطر المصري حينها.
في هذا الإطار، وبهدف تمييز العلم المصري عن العلم العثماني، أدخل محمد علي عام 1826 تعديلاً على العلم المصري، ليصبح نجم العلم خماسياً بدلاً من النجم الثماني العثماني، حتى يكون الفارق في عدد أطراف النجم وسيلة التمييز الوحيدة بين سفن الأسطول المصري وسفن الأسطول العثماني أثناء الحروب التي خاضها الجيش المصري ضد الدولة العثمانية.
محمد علي باشا
مع انتهاء الحرب المصرية العثمانية نتيجة تدخّل دول التحالف الأوروبي الروسي بالقوة، تمّ عقد معاهدة لندن عام 1840، والتي قضت بانسحاب الجيوش المصرية من بلاد الشام، مع الاعتراف لمصر باستقلال نسبيّ مقيّد بدفع جزية سنوية ترسل إلى الباب العالي العثماني، على أن يصبح الحكم في مصر وراثياً لأبناء محمد علي باشا، مع استمرار العلم المصري متميّزاً بنجمته الخماسية عن العلم العثماني.
ومع محاولات الأسرة العلوية استكمال مشروع النهضة المصرية، وفي ظل مجاراة مصر العثمانية للحداثة الأوروبية، أقيمت احتفالية مهيبة لافتتاح قناة السويس في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1869، أقامها إسماعيل باشا في حضور أغلب أمراء وملوك الدول الأوروبية، وصفوة رجال الحكم في مصر والدولة العثمانية، وجمع كبير من أعيان مصر، يظهر أثناء ذلك الحفل العلم المصري مجاوراً للعلم العثماني إلى جانب علم فرنسا، الدولة صاحبة امتياز قناة السويس.
وسعياً لمزيد من استقلال القرار المصري عن الدولة العثمانية، حصل إسماعيل باشا في 8 حزيران/يونيو عام 1876 على "الخديوية" عملاً بفرمان من السلطان العثماني عبد العزيز الأول، مقابل زيادة الضريبة المصرية الواصلة إلى خزينة السلطان سنوياً، على أن ينتقل الحكم الوراثي في مصر من أكبر أبناء محمد علي إلى الابن الأكبر لإسماعيل، ومع ذلك التحوّل السياسي يأمر الخديوي بتغيير العلم المصري، على أن يضم بلونه الأحمر، 3 أهلّة باللون الأبيض، بداخل كل منها نجم خماسي الأطراف، في إشارة إلى القطر المصري وما ضمّه حينها من إقليمي النوبة والسودان.
بعد ذلك، شهدت فترة سبعينيات القرن التاسع عشر تصاعداً كبيراً للحركة الوطنية المصرية، التي سعت نحو مواجهة التدخّل الأجنبي في شؤون البلاد نتيجة تفاقم الدين الخارجي، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تعرّضت لها مصر. تلك الأزمة الناتجة عن السياسة الاقتصادية غير الرشيدة للخديوي إسماعيل، إلا أن مساعي الحركة الوطنية إلى إقرار مبدأ رقابة الأمة من خلال "مجلس الأمة" على الحكومة والميزانية لم تكلّل بالنجاح، وما لبث كلّ من بريطانيا وفرنسا مستغلّتين حالة الاحتقان السياسي والاقتصادي داخل مصر، أن نجحتا في استصدار فرمان من الباب العالي في 26 حزيران/يونيو عام 1879، ينص على عزل الخديوي إسماعيل وإسناد رئاسة الخديوية المصرية إلى محمد توفيق أكبر أبنائه.
إلا أن سياسات توفيق الاستبدادية دفعت الوضع في مصر إلى مزيد من التأزم، إلى جانب ما فعله توفيق من اضطهاد الضباط المصريين لصالح الضباط غير المصريين، ومع تردّي الأوضاع الاقتصادية للضباط المصريين اشتعلت الثورة العرابية التي تبلورت بمظاهرة عابدين في 9 أيلول/سبتمبر 1881، وانتهت باحتلال بريطانيا لمصر بعد معركة التل الكبير في 13 أيلول/سبتمبر 1882.
بدأت بريطانيا، صاحبة السلطة الفعلية في البلاد، في وضع نظام سياسي جديد لمصر. إلا أنه ومن الناحية الرسمية، فقد ظل القطر المصري تابعاً للسلطان العثماني، إذ حكمت بريطانيا باعتبارها راعية لمصالح الجاليات الأجنبية في واحدة من ولايات السلطان، وتأكيداً لذلك المبدأ السياسي تمّ استرجاع العمل بالعلم المصري الأحمر ذي الهلال الأبيض والنجمة الخماسية.
أما في العام 1892 فقد بدأت الحركة الوطنية المصرية طوراً جديداً تبلور في حزبين سياسيين هما "حزب الأمة" و"الحزب الوطني"، وعلى الرغم من الاختلافات الأيديولوجية بين الحزبين، إلا أنهما اجتمعا ضد الاحتلال البريطاني تحت شعار "الدستور والجلاء"، تزامناً مع التغيّر السياسي الناتج عن وفاة الخديوي توفيق وتولّي ابنه عباس حلمي الثاني، الذي اضطر عام 1913 تحت ضغط الحركة الوطنية المتصاعدة إلى تعديل النظام النيابي، وإصدار قانون تنظيمي يسمح بإنشاء الجمعية التشريعية والتي تتكوّن من النظّار (الوزراء) إلى جانب الأعضاء المنتخبين، وهو ما قبله الانتداب البريطاني رغبة في تهدئة الرأي العام المصري تجنّباً للاصطدام بالحركة الوطنية، خاصة في ظل انشغال الإدارة البريطانية في الصراعات الدولية حينها.
الخديوي عباس حلمي الثاني
لكن ما لبثت الأحداث في خريف عام 1914 أن انجرفت سريعاً تجاه الحرب العالمية الأولى، ودخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا ضد بريطانيا، التي تبنّت ممارسات شديدة العنف ضد المصريين في الريف والمدينة، تستهدف استغلال المصريين في أعمال السخرة الخاصة بالحرب.
وبدأت الجيوش العثمانية تزحف نحو الحدود المصرية الشرقية لمواجهة الجيش الإنكليزي، فما كان من الإدارة البريطانية إلا أن أعلنت في 18 كانون الأول/ديسمبر عام 1914 "الحماية على مصر"، وإنهاء ارتباطها بالدولة العثمانية، مع عزل الخديوي عباس حلمي الذي تصادف وجوده في إسطنبول وقت اندلاع الحرب. ثم عيّنت عمّه حسين كامل سلطاناً على مصر، وقد تبع ذلك تغيير العلم المصري ليعود من جديد علم الخديوي إسماعيل بهلالات ثلاثة، لكلّ هلال منها نجمة خماسية، ولكن هذه المرة ليكون علماً رسمياً للسلطنة المصرية المستحدثة.
لم يدم حكم حسين كامل سوى سنتين وعدة أشهر كانت حافلة بالأحداث السياسية. حاولت الإدارة البريطانية خلالها استغلال جميع موارد مصر الاقتصادية لصالحها في الحرب، وفرض أحكامها العرفية على المصريين، رغبة في ضمان التصدّي لحالة الاحتقان السياسي والاجتماعي. إلا أن هذا لم يمنع انتشار أعمال العنف والتخريب والاغتيالات السياسية. إذ عمدت الحركة الوطنية المصرية إلى العمل السري، ووصل الأمر لمحاولة اغتيال السلطان حسين نفسه قبل أن يودي المرض بحياته في 4 تشرين الأول/أكتوبر عام 1917، نصّب بعدها شقيقه أحمد فؤاد سلطاناً في ساحة قصر عابدين بحضور البعثات الدبلوماسية الأجنبية.
مراسيم تنصيب فؤاد سلطاناً
في 11 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1918، أُعلنت الهدنة وانتهت الحرب العالمية الأولى رسمياً. وبدأ قادة الحركة الوطنية وأعضاء الجمعية التشريعية التي توقّفت بقرار بريطاني، يطالبون بإنهاء الأحكام العرفية والسماح لوفد مصري بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس.
من ناحية أخرى، كانت بريطانيا قد بدأت في إعداد مشروع قانون تشريعي لمصر يتلاءم مع وضع البلاد الجديد بعد زوال تبعيّتها للدولة العثمانية وخضوعها للحماية البريطانية، ويضمن لبريطانيا سيطرة كاملة على موارد البلاد. لكن الشعب المصري، ومع صباح 9 آذار/مارس 1919، كان على موعد مع تدوين صفحة جديدة من صفحات نضاله ضد الاحتلال والديكتاتورية بمظاهرات اجتاحت عموم القاهرة والإسكندرية والمدن الإقليمية.
ثم جاءت ثورة 19 على شكل سلسلة من الاحتجاجات والإضرابات الشعبية استمرت إلى شهر آب/أغسطس وتجدّدت في السنوات التالية،حمل المصريون خلالها أعلاماً مختلفة، كان أبرزها العلم المصري العلوي الأحمر بهلال ونجمة خماسية، والعلم الخديوي صاحب الهلالات الثلاثة. كما أفرزت الثورة المصرية عدة رايات تعدّدت ألوانها، فكان بعضها باللون الأحمر والبعض الآخر باللون الأخضر، منها يحمل أهلّة تحتضن النجوم الخماسية، وغيرها تحمل الصليب إلى جانب الأهلّة. ولا شك أن قوات الاحتلال البريطاني تصدّت للمتظاهرين بالعنف المنظّم وإطلاق الرصاص على المصريين، مما أدى إلى سقوط عدد كبير من الشهداء الذين لفت نعوش أغلبهم بالعلم الرسمي للسلطنة.
ومع ضغط الحركة الوطنية على بريطانيا للحصول على الاستقلال، اضطرّت الإدارة البريطانية إلى إصدار تصريح في 28 شباط/فبراير عام 1922، ومن دون وجود أي ممثّل من الجانب المصري، ينهي الحماية المعلنة لمصر والاعتراف بها دولة مستقلة،لكن مع الاحتفاظ بقوات من الجيش البريطاني داخل البلاد بدعوى الدفاع عن أراضيها ضد أي اعتداء خارجي وحماية الأجانب وتأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية.
وفي 15 آذار/مارس من العام نفسه، أعلن السلطان فؤاد مصر مملكة مستقلة في مؤتمر اجتمع فيه معظم القوى السياسية المصرية، ليصبح فؤاد أول ملك لمصر يحمل لقب "حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول"، ويتم استبدال الشعار الملكي بتاج يضم هلالاً يحمل 3 نجوم خماسية.
وفي 13 نيسان/أبريل أصدر الملك فؤاد القانون رقم 26 لسنة 22 الخاص بنظام توارث العرش، وأصبح ابنه الأمير فاروق يحمل لقب حضرة صاحب السمو الملكي، "لتكون قاعدة مرعيّة وسنة متّبعة يؤول الملك بمقتضاها".
تنصيب فاروق ولياً للعهد
بعد صدور دستور المملكة المصرية عام 1923، صدر في كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه القانون رقم 47 الخاص بالعلم المصري جاء نصه:
"نحن ملك مصر
بما أنه أصبح من الضروري خصوصاً من وجهة العلاقات الدولية أن يقرّر قانون شكل العلم الأهلي الذي هو رمز استقلال البلاد؛
وبناء على ما عرضه علينا مجلس الوزراء؛
رسمنا ما هو آت:
مادة 1 – العلم الأهلي أخضر اللون به هلال وثلاث نجوم بيضاء وهو مطابق للنموذج الملحق بهذا القانون.
مادة 2 - يحدّد وزير الحربية بقرار يصدر منه شكل علم الجيش وتقرّر اللوائح العسكرية ما يجب أداؤه للعلم من التعظيم وواجبات حامل العلم".
رفع العلم الجديد وجنازة الملك فؤاد
مع بداية العهد الملكي بدأت الحركة الوطنية المصرية رحلة أخرى من الكفاح الوطني ضد الديكتاتورية الدستورية دامت لسنوات طويلة انتهت بوفاة الملك فؤاد في العام 1936، وفي اليوم التالي انتقل جثمانه مُغطى بالعلم الملكي من قصر عابدين إلى مدفنه بمسجد الرفاعي بميدان القلعة، ليجلس فاروق على عرش مملكة تحت الوصاية بعد عودته من بريطانيا.
وفي 26 آب/أغسطس تم توقيع المعاهدة المعروفة تاريخياً بمعاهدة 36، وهي معاهدة التحالف وتنظيم العلاقات السياسية والعسكرية بين الحكومة المصرية "الوفد"، وبين الحكومة البريطانية، التي تعهّدت فيها انتقال قواتها العسكرية من المدن المصرية إلى منطقة قناة السويس، على ألا يزيد عدد قواتها في مصر عن 10 آلاف جندي و 400 طيار مع الموظفين اللازمين لأعمالهم الإدارية.
أما مصر فتقدّم لبريطانيا المساعدات الاقتصادية واللوجستية في حالات الحرب، وعليه لم تبدأ القوات البريطانية في الانسحاب من المدن المصرية حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث وضعت خطة زمنية لذلك الانسحاب التدريجي، وفي صباح يوم الجمعة 5 تموز/يوليو عام 1946 رفع الملك فاروق العلم المصري على القلعة، وأنزل العلم البريطاني عن ساري القلعة بعد أن ظل عليها لما يقارب 64 عاماً.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية شهدت المنطقة العربية تحوّلات جيوسياسية عديدة كانت القضية الفلسطينية في مقدمتها، ما دفع بالحكومة المصرية لاتخاذ قرار الحرب عام 1948. ونجح الجيش المصري في بداية الحرب بأن ينتزع من يد القوات الصهيونية مستعمرة "دير سنيد" الاستراتيجية على الطريق من غزة إلى "تل أبيب"، بعد قتال طويل حسمه المصريون لصالحهم في 24 أيار/مايو، ورفع العلم المصري على المستعمرة التي زارها الملك فاروق أثناء تفقّده معسكرات الجيش المصري بين غزة والعريش بعد الهدنة الأولى.
إلا أن الهزيمة التي تجرّعها الجيش المصري في هذه الحرب كان لها بالغ الأثر على الحياة السياسية المصرية، حيث خلقت الأخبار التي انتشرت حول فساد الملك ورجال حاشيته، حالة من الاختناق السياسي تطوّرت سريعاً إلى الإطاحة به بعيداً عن عرش مصر، وإجباره على التنازل عن العرش لابنه الطفل حينها أحمد فؤاد الثاني تحت ضغط من ضباط حركة يوليو التي ستعرف بعد ذلك بثورة يوليو، وعليه غادر فاروق الإسكندرية على متن يخت المحروسة في مساء 26 تموز/يوليو عام 1952.