مزار للمسيحيين والمسلمين.. عن الحج إلى حيث قتل مار جرجس التنين
يؤمن المسيحيون الأرثوذوكس بأنه شفيع بيروت، كما هو شفيع موسكو. ماذا قيل عن رحلة الحج إلى السان جورج، أو مار جرجس في بيروت؟
يحظى القديس جاورجيوس (مار جرجس أو جريس، سان جورج) بمكانة خاصة لدى الشعب الروسي. فقد اختير ليكون شفيع العاصمة موسكو، ويُسمّى فيها "غريغوري المنتصر". صورة الشاب المقاتل الذي يعتلي صهوة جواد منتصب على قائمتيه الخلفيتين وهو يهمّ بطعن التنين الفظيع برمحه، هي صورة محفورة في الأذهان لدى شعوب الاتحاد الروسي اليوم، فإلى جانب الرمز الديني المترسّخ بالأيقونات، يزيّن النقش المستلهم من الأيقونة العملة الوطنية المعدنية والطوابع البريدية والميداليات وعلى رأسها وسام القديس جاورجيوس العسكري الرفيع.
كما أن شريط هذا الوسام، أو "شريط غريغوري"، ذا اللونين الأسود والبرتقالي، الذي يرمز إلى الانتصار في الحرب الوطنية العظمى ضد ألمانيا النازية (1941 - 1945)، يعدّ الشريط الأكثر انتشاراً بين مختلف الشعوب التي دحرت الفاشية والنازية حتى يومنا هذا.
قصد عشرات آلاف الحجاج الروس بيروت، بين منتصف القرن الــ 19 والحرب العالمية الأولى، بعد انتظام رحلات الحج إلى الديار المقدّسة من ميناء أوديسا، ليقفوا ويصلّوا في الموقع الذي قتل فيه مار جرجس التنين قرب المدينة.
وربما لكون الوصول إلى بيروت أقلّ على الحجاج الروس من الوصول إلى اللدّ الفلسطينية بعدة أيام (حيث توجد رواية أخرى للحادثة)، ولكون مار جرجس هو شفيع بيروت كما هو شفيع موسكو، ترسّخ في الأذهان مع الزمن أن ينسبوا "غريغوري المنتصر" إلى بيروت.
شهادة فاسيل بارسكي
ممن ساهموا في تعزيز الانتماء البيروتي لـ"غريغوري المنتصر" لدى المؤمنين الروس، المرويات الأولى التي تناقلوها عن الرحلات إلى الديار المقدّسة، ولعل أبرزها مدوّنات الحاج الكييفي فاسيل غريغوروفيتش بارسكي (1701-1741)، الذي جاب اليونان وتركيا ومصر وفلسطين وسوريا ولبنان مشياً على قدميه في النصف الأول من القرن الــ 18.
يكتب بارسكي في مؤلّفه الضخم "الرحلة إلى الديار المقدّسة في الشرق"، عن زيارته الأولى سنة 1728: "يوجد ما يكفي من المياه الصالحة للشرب في بيروت، وهي تتدفّق نحوها من الجبال عبر قناة تصل إلى المدينة. بيروت مدينة مسوّرة لها قلعة برية لحمايتها، كما أن لديها حصناً بحرياً قرب شاطئها، والحصن قائم فوق الماء يمكن الوصول إليه باجتياز جسر كما هي الحال في صيدا. بيروت هي المدينة التي هزم فيها الشهيد العظيم المقدّس جاورجيوس التنين. يقع الموضع الذي قتل فيه التنين خارج المدينة، على مسيرة ساعة منها، حيث يجري نهر صغير زحف منه التنين والتهم الناس. وفي هذا المكان بنى المسيحيون كنيسةً على شرف القديس وحفروا بئراً لذكراه التي لا تُمحى. إلا أنّ الأتراك عندما غزوا الإمبراطورية اليونانية، وبات كل شيء خاضعاً لهم، بنوا مسجداً لأبناء عهدهم. أيُّ بناء في هذا المكان؟ هو كما تراه مرسوماً هنا، وكنتُ قد زرت المكان غير مرة وشربت من ماء تلك البئر". (يرفق بارسكي نصّه برسم للمكان).
مزار المسيحيين والمسلمين
بعد نحو 175 سنة على رحلة بارسكي، يصل إلى بيروت الكاتب الروسي إيفان بافلوفيتش يوفاشيف (1860-1940)، الذي صدر كتاب مذكراته سنة 1904، بعنوان "الحج إلى القبر المقدّس في فلسطين". وقد وصلت به الباخرة إلى بيروت في 17 آذار/مارس عام 1900، يقول: "ترتبط الأماكن المقدّسة في بيروت باسم القديس الشهيد العظيم جاورجيوس. في الطريق توقّفنا في كنيسة يونانية تحمل اسمه...، وذهبنا أيضاً إلى مستشفى القديس جاورجيوس... بعد ذلك وصلنا إلى البئر الذي قربه، وفقاً للأسطورة المحلية، قتل القديس جاورجيوس المنتصر التنين الوحشي".
ويضيف: "يبدو أن هذا المكان يحظى باحترام المسلمين الذين بنوا مسجداً لهم هنا. اجتمع قربه العديد من النساء والفتيان المسلمين، ربما لأنه يوم الجمعة (يخطئ يوفاتشيف، فقد كان يوم السبت)... عادة، في شوارع المدن الشرقية، تمشي النساء المسلمات محجبات بغطاء رأس سميك، يمشين بهدوء شديد ويتجنّبن أنظار الأجانب. لكنهن هنا، اجتمعن معاً في حشد كبير، كاشفات عن وجوههن، كما أنهن تحدّثن أيضاً إلى الحجاج".
ويتابع: "من كنيسة القديس جاورجيوس وصل الكاهن إلى البئر على ظهر حمار، وأدى صلاة باللغة اليونانية، نطق أسماءنا فيها، ورتّل بالروسية 3 مرات ترنيمة "يا رب ارحم"، وبعد زيارة ذلك المكان انطلق الحجاج نحو السفينة".
"سيّدنا الخضر"
لعلّ النص الأكثر جاذبية للمؤمنين الروس في العقدين الأخيرين من القرن الــ 19، ورد في كتاب الكاهن الروسي ألكسندر أنيسيموف، "الحاج الفلسطيني - مذكّرات الرحلة إلى الشرق المقدّس"، حيث تحدّث بالتفصيل عن مشاهداته. طبعت "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية" الكتاب الكبير على نفقتها فبات أحد مراجع الحجاج.
يقول أنيسيموف في كتابه: "بقلوب فرحة دخلنا العاصمة السورية (يقصد بيروت)، وعندما مررنا في الشوارع الضيقة والمتعرجة، المزدحمة بالناس وعلى جانبيها المتاجر المختلفة، كنا نسمع تعجّب البيروتيين الكبار والصغار على حد سواء: موسكوب، موسكوب!".
بعد زيارة كنيسة القديس جاورجيوس، "نودّ جميعاً أن نستمع إلى الصلاة حيث هزم القديس جاورجيوس التنين. وبعدما علموا أنني كاهن، عرضوا عليّ أن آخذ البطرشين (صدرية القساوسة) والصليب والإنجيل وأيقونة الشهيد العظيم جاورجيوس والشموع، وأن أؤدي الصلاة هناك بنفسي بمساعدة قارئ المزمور".
ينطلق أنيسموف في مسيرته "مشينا متشوّقين إلى المكان المرغوب منذ مدة طويلة، وهو يبعد نحو فرستين اثنتين (فرست: وحدة قياس مسافة تساوي 1.06 كيلومتر). قطعنا شوارع المدينة الضيقة والمغطاة أحياناً، حتى خرجنا أخيراً إلى الفضاء المفتوح، على مشارف المدينة. تغيّرت بانوراما المناظر كما لو أننا في قصة خيالية... توقّفنا لنتأمّل تنوّع الربيع السوري وروعة نباتاته ونعبّ من الهواء العطر الصحي. وأخيراً وصلنا إلى المكان الذي قتل فيه القديس جاورجيوس التنين الفظيع". كان هناك معبد، "تحت مذبحه ظهر نبع رائع للمياه، يتبرّك به المؤمنون يتناولون ماءه ويتمسّحون به، مما يجذب حتى الآن العديد منهم إليه. ولكن يوجد الآن مسجد صغير متواضع هنا، حيث يحظى هذا المكان بتقدير كبير من قبل المسلمين. أدخلتنا امرأة عربية من بوابة ضيّقة إلى فناء صغير نظيف مزروع بأشجار الليمون وشجيرات الورد، وعندما اقتربنا من أبواب المسجد، دعت المرأة العربية الداخلين إلى خلع أحذيتهم".
في المسجد، حظي أنسيموف برعاية خاصة، يقول: "بوصفي كاهناً، قادتني إلى الجزء الأكثر قداسة من الكنيسة القديمة، وهو الجزء المقابل للمذبح، حيث يؤدي رجال الدين المسلمون صلواتهم. هناك علّق غطاء من الحرير الأخضر، وخلفه رايتان تركيتان. سمحوا لي بوضع أيقونة الشهيد العظيم التي أحضرناها على الأوتاد المثبتة، وأشعلنا الشموع أمامها. في هذا المكان المهم، انتابتني فرحة غامرة، ارتديت البرطشين، وفي يدي الصليب، هتفت بصوت فرح: مبارك إلهنا دائماً، الآن وإلى دهر الداهرين! من الصعب أن أنقل بالكلمات كل ما انتابني من المشاعر آنذاك. رنّمنا بحنان عارم جميعاً معاً، وركعنا ورفعنا أيدينا إلى أيقونة المنتصر...: أيها القديس العظيم، أيها الشهيد جاورجيوس المنتصر، صلّ إلى الله من أجلنا!". وعندما خرجت من المسجد رأيت على الستار نقشين عربيين مطرّزين بالذهب، كتب على الأول "بسم الله الرحمن الرحيم"، والثاني أسفله، وعليه: "تخليداً لذكرى النبي جاورجيوس عليه السلام!".
من المرجح أن المترجم قد نقل عبارة "سيدنا الخضر" إلى أنسيموف على أنها "النبي جاورجيوس"، أو أنه افترض ذلك بنفسه. كما أن نصّ اللافتة لا يتطابق مع ما يمكن أن يرفع داخل المسجد، وأغلب الظن أنه كتب عليها "مقام سيدنا الخضر عليه السلام".
خارج المسجد، رأى أنسيموف حجراً بيضاوي الشكل ملقى في مكان مشرف، يقول: "أخبروني أنه يُزعم أن الشهيد العظيم كان يتوسّده خلال حياته، وتحدّثوا عن معجزة الحجر، وأشاروا إلينا لنضع رؤوسنا عليه لزيادة قوانا الجسدية. ومن هناك ذهبنا إلى النبع الذي تظلّله مظلّة حجرية أنيقة، وهو مزوّد بجهاز خاص باهظ الثمن لسحب المياه... شربنا الماء البارد والصافي العذب، ورطّبنا به أعيننا ورؤوسنا وصدورنا".