محمد الهندي: كيف نشأت التحديات الراهنة في فلسطين؟
الدول العربية حصلت على ما سُمّي بالاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية ضمن الحدود التي فصّلها المستعمر.
يعتبر عضو المكتب السياسي ومسؤول الدائرة السياسية في حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة الدكتور محمد الهندي، "أن الصراع على فلسطين يعكس أهم ملامح المواجهة الحضارية مع الغرب. فإسرائيل تمثّل في هذا الصراع ذراع الغرب وقاعدته المتقدّمة للهيمنة على المشرق الإسلامي".
يتحدّث الهندي عن هدف كتاب "فلسطين التحديات الراهنة كيف نشأت … كيف تطوّرت؟" الصادر عن حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة، بقوله: للأننا نريد لأمتنا أن تنهض ولفلسطيننا أن تتحرّر فإننا نرى ضرورة إدراك التغييرات الكثيفة التي تمر بها المنطقة والعالم.. كما نرى ضرورة فهم جذور النكبة في فلسطين لنتمكّن من فهم التحديات الراهنة في ضوء نكبتنا الأولى عام 1948.
جذور النكبة
شكّل موقع فلسطين تاريخياً وجغرافياً في قلب الأمة العربية التي هي قلب العالم الإسلامي ساحة صراع مفتوح مع الغرب وفي العصر الحديث، تجسّد هذا الصراع بإقامة دولة "إسرائيل" التي هي مشروع غربي استعماري.. وهو يهدف لإخضاع الأمة العربية ونهب ثرواتها.
شكّلت نكبةعام 1948 لحظة فارقة في تاريخ الصراع مع الغرب فقد نشأت "دولة إسرائيل" على أنقاض فلسطين العربية... ويعتقد الهندي أن "كل التطورات اللاحقة من حروب ومفاوضات ومعاهدات هدنة أو اتفاقات سلام منذ كامب ديفيد، مروراً بأسلو وودادي عربة وصولاً إلى اتفاقات "إبراهام" وحتى يومنا هذا هي نتائج مباشرة لحرب 1948".
ويعاود الهندي تأكيده بأن محاولة فهم ما حدث عام 1948 وأسباب هذا الانهيار الشامل، يشكّل مدخلاً إجبارياً لفهم التحديات الراهنة في فلسطين والمنطقة. ويرى أن محاولة فهم أسباب هذا الانهيار تكمن في فهم الأحداث التي وقعت قبل هذا التاريخ، ونبش جذور النكبة وتفحّص الوضع العربي والفلسطيني في العقود التي سبقتها، وعدم الاكتفاء بسرد الجرائم الصهيونية والرعاية البريطانية الغربية للمشروع الصهيوني.
ويستطرد قائلاً "انتهى الأمر بالعرب الذين أدّوا دوراً أساسياً في بناء الحضارة الإسلامية والحفاظ عليها إلى التحالف مع بريطانيا العظمى التي تمثّل رمز الاستعمار الغربي ضد الخلافة العثمانية من خلال ما سمي "الثورة العربية الكبرى" بقيادة الشريف حسين، واستكانوا إلى وعود "صاحبة الجلالة" في دولة عربية واحدة، ومع صدمتهم بوعد "بلفور" و"سايكس بيكو" الذي ينسف أي أمل بدولة عربية استمرت القومية العربية في كونها مشروعاً ضد مشروع "الجامعة الإسلامية" بدل أن تتحوّل إلى ثورة شاملة في وجه الاستعمار الإنكليزي والفرنسي الذي نكث كل وعوده وقسّم المنطقة العربية إلى دويلات وفق مصالحه الخالصة.
ويبيّن: بأن الدول العربية حصلت على ما سمّي بالاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية ضمن الحدود التي فصّلها المستعمر بالطريقة التي أرادها ومع كل التناقضات ومشاكل الحدود التي تعمّدها.
أسباب الهزيمة
وكأنّ الهندي يقول لنا بأنّ من أسباب الهزيمة عام 1948 هو دول من دون سيادة: "مصر كانت تخضع لعلاقة استعمارية شبه عسكرية وفق معاهدة 1936 مع بريطانيا. شرق الأردن كان يخضع لتحكّم بريطانيا عسكرياً ومالياً وفق معاهدة 1946 التي لم تكن استقلالاً بأي حال. لبنان وسوريا تحت تأثير فرنسا رغم استقلالهما الشكلي عام 1943 وعام 1946".
ويعتبر الهندي بأن من أسباب الانهيار الشامل عام 1948 "النخب السياسية التي تشكّلت وأصبحت لديها مصالح قُطرية تدافع عنها، والعروبة أصبحت شعارات بلاغية رنانة تظهر في منابر المزيدات بدل أن تكون دعوة جدية تتحدى شروط المستعمر ،وقدّم السياسيون العرب مصالحهم ومصالح أقطارهم على أي مصلحة قومية".
ويذكر الهندي بأنه لم تكن هناك ثقة بأي حديث رسمي عن العروبة بمعناها القومي، فلم تؤخذ دعوة أمير شرق الأردن عبد الله بإقامة اتحاد سوريا الكبرى إلا كمحاولة لتوسيع إقليم شرق الأردن. وجامعة الدول العربية لم تبذل أي جهد لتجاوز الجهود القطرية.
يعتقد الهندي أنه "يمكن الاستنتاج بأن الدول العربية التي دخلت جيوشها حرب 1948 كانت لها حسابات قطرية مختلفة ومتناقضة ولم تشارك في الحرب أو تفاوض بعدها بشأن الهدنات مع "إسرائيل" إلا بمفهوم قُطري بعيداً عن أي استراتيجية عربية أو حتى تنسيق عربي شامل".
لم يلتفت العرب إلى مخاطر: "أول مستوطنة "بتحتكفا" والتي أقيمت عام 1880 وإعلان وعد "بلفور عام 1919 وتحالف الانتداب البريطاني مع الحركة الصهيونية وتسهيل الهجرة اليهودية. ورغم ذلك استمرّ الانقسام بين النخبة الفلسطينية والتنافس العائلي الذي غذّته بريطانيا، إضافة إلى افتقار الجسم السياسي الجامع والمتماسك طوال سنوات الانتداب البريطاني، مما ترك آثاراً سلبية عميقة على النضال الفلسطيني.
وعلّقت النخبة الفلسطينية آمالاً كبيرة على الدول العربية من دون إدراك طبيعة أوضاعها، فقد تواطأ بعض الحكام العرب مع بريطانيا، إضافة إلى وثوق بعض هذه النخب بوعود بريطانيا وعدم فهم الغرب وعلاقته بالحركة الصهيونية.
مشكلة القيادة والسلاح
ومن أسباب ذلك الانهيار – كما يراه الهندي - افتقاد الفلسطينيين مصدر إمدادهم بالسلاح رغم وجود عدد من القادة الأكفاء وكوادر من المقاتلين المدربين على حرب العصابات، كما افتقدوا القوات النظامية المدربة والقيادة السياسية الموحدة، حيث كان المفتي الحاج أمين الحسيني في منفاه الاختياري خارج فلسطين، وهو أيضاً لم يكن محل إجماع النخبة السياسية، وأوضح مثال على ذلك رسالة الشهيد عبد القادر الحسيني للأمين العام لجامعة الدول العربية يطلب فيها تزويد مقاتليه بالسلاح: "إنني أحمّلكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم من دون عون أو سلاح". وهو يشير إلى معركة القسطل قرب القدس.
هذه هي الحال التي سادت عقود ما قبل النكبة وتحديداً زمن ما بين الحربين العالمية الأولى والثانية.
هنا يؤكد الهندي بأنه كان من الطبيعي أن يسقط القادة العرب الذين رفعوا شعارات فارغة حول تحرير فلسطين في أول مواجهة مع المشروع الصهيوني حيث تقف إلى جانب القوات الصهيونية منظمة مدرّبة تدريباً جيداً تناهز 67 ألفاً موزّعين على ألوية وكتائب تملك إمكانات عسكرية متفوّقة راكمتها عبر سنوات من العلاقات مع سلطة الانتداب.
ويُضيف أنّ الوكالة اليهودية تسلّمت المستودعات والمعسكرات والمطارات التي كانت للجيش البريطاني عندما بدأ الانسحاب أولاً من المناطق اليهودية ولها قيادة متماسكة تملك خطة عسكرية واضحة.. وتدرك موازين القوى في العالم وتربطها تحالفات ومصالح مشتركة مع دول الغرب المؤثّرة ووعد من دولة الانتداب بإقامة وطن قومي لليهود ولديها هدف تعمل على تحقيقه منذ سنوات باستجلاب أفواج المهاجرين اليهود.
الثورة العربية الكبرى
ويلفت الهندي أنه في هذه الفترة كانت معظم الدول العربية تحت الاستعمار المباشر أو منخرطة في علاقات سياسية وعسكرية واقتصادية تابعة للغرب.
ويشرح ذلك بقوله إنّ "قائد ما يسمّى بالثورة العربية الكبرى يتحالف مع بريطانيا ويحارب الدولة العثمانية، أما الزعماء السياسيون فتحرّكهم مصالحهم الخاصة والقطرية والتي تتقاطع مع مصالح المستعمر وهيمنته لدرجة أن الجيش الأردني تحت قيادة جنرال بريطاني "جلوب باشا"، والنخب السياسية والثقافية في معظمها مشوّهة ومنسلخة عن تاريخها وثقافتها وعقيدة شعوبها ومتنكّرة ومهزومة روحياً وعقلياً وعلمياً أمام حضارة الغرب المستعمر وثقافته.
وقد وصل الأمر لدرجة اعتبار "الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 بداية عصر النهضة والتنوير في الشرق.
باختصار دخل العرب الحرب على أرضية المستعمر نفسه يريدون هزيمة مشروعه في فلسطين. دخلوا الحرب من دون رؤية صائبة ومن دون هدف مشترك ومن دون خطة موحّدة وبأعداد رمزية، حيث أن مجموع القوات العربية كان أقلّ من 15 ألفاً (التي يطلق عليها مجازاً جيوش عربية) أوكلت قيادتها إلى ملك الأردن عبد الله تساعده هيئة أركان، وقد غيّر الملك تحت تأثير "جلوب باشا" مهام هذه القوات العربية قبل يومين من دخولها فلسطين ما أوجد إرباكاً إضافياً وضعفاً في التنسيق بين أجزاء هذه القوات، وأصبح كل جيش يعمل بأوامر دولته التي تحكمها حساباتها القُطرية.
ففي فلسطين كان عديد جيش الجهاد المقدّس من 8 إلى 10 اَلاف، يساعده جيش الإنقاذ وتعداده من 3 إلى 4 اَلاف هبوا للدفاع عن وطنهم لكنهم افتقدوا مصدراً موثوقاً للسلاح، كما افتقدوا القيادة السياسية الموحّدة. فالحاج أمين الحسيني بعيد في بيروت ثم في ألمانيا فترة الحرب العالمية الثانية، وبقية أعضاء اللجنة العربية العليا تضعفهم الخلافات وتنقصهم القدرة على تحمّل المسؤولية وعلّقوا آمالهم على الدول العربية، إضافة إلى أن الوضع العام مرهق نتيجة التكلفة الباهظة والقمع البريطاني منذ ثورة 1936.
اتفاق "أوسلو"
يعتبر الهندي أن الانخلاع من اتفاق "أوسلو" وتبعاته وقيوده يشكّل مدخلاً إجبارياً لاستعادة الوحدة الفلسطينية ومباشرة حوار داخلي بهدف بناء استراتيجية فلسطينية ومرجعية وطنية تقود النضال الفلسطيني.
إن وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة المعركة ووحدة الساحات وقدرة القدس على تحشيد شعب فلسطين وأحرار الأمة وامتلاك المبادرة هي المعادلة الجديدة التي أكدتها معركة "سيف القدس" عام 2021.
إذا كان الهدف هو تحرير فلسطين فإن وسيلتنا هي المقاومة بكل أشكالها، ويترتّب على ذلك أن ننفض أيدينا من مشروع التسوية الذي يستنزف شعبنا على كل المستويات وننفض أيدينا من سياسة البحث عن شرعية لدى الغرب.
وظيفتنا في الوقت الذي نراكم فيه القوة ونواصل فيه الاستعداد، وأن يبقى استمرار الاشتباك مع العدو على مدار الوقت بأشكال ووتيرة تحدّدها قيادة المقاومة... ونواصل استنزاف العدو ومنع استقراره وإشغاله عن مواصلة برامجه في الاستيطان والتهويد.
يعتقد الهندي أن "إسرائيل" رغم قوتها وعنفوانها في منحنى هابط استنفدت مخزونها البشري في الهجرة وباتت تلجأ إلى استجلاب "الفلاشا" المشكوك في يهوديتهم من أثيوبيا لمعادلة الاختلال الديمغرافي، كما استنفدت تماسكها الداخلي وفقدت قدرتها على ردع الشعب الفلسطيني.
المستقبل للشعب الفلسطيني
أمام فشل "إسرائيل" في القضاء على الانتفاضة عام 1987 استدارات 180 درجة لتعترف ولو ظاهرياً أن للشعب الفلسطيني حقوقاً.
ويلفت الهندي أن "إسرائيل" لم تضطر إلى الانسحاب من غزة والتخلي عن جزء من فلسطين من دون مفاوضات وحسب، بل تحوّل هذا الجزء بعد سنوات إلى قاعدة للمقاومة تصنع سلاحها وتعيد رسم معادلة المواجهة الوطنية الشاملة التي ترسخت في معركة "سيف القدس".
كل جيل فلسطيني يصبح أكثر صلابة وإصراراً على التضحية وإذا عجزت فصائل المقاومة في تأطير شبابه يخرج الشباب فرادى في ظاهرة "الذئاب المنفردة" يقاومون العدو بما تيسّر من أدوات.
وكل جيل في "إسرائيل" يصبح أكثر جبناً ورعباً وليس لديه استعداد للتضحية ينشد الراحة والمتعة، ويتهرّب شبابه من التجنيد ويتهرّب المجندون من العمل في الوحدات القتالية.
ويخلص الهندي بأنه إذا اختلت موازين القوة فإن إنجازات القوي تصبح بطعم الهزيمة وتضحيات الضعيف لها طعم النصر.